شارك المقال
  • تم النسخ

من مظاهر التدين المغربي (9)

الاختيارات العقدية (3)

استمر المغاربة، بتأطير من علمائهم، على الاختيارين العقديين المشار إليهما في الحلقتين السابقتين، لكن الكفة صارت في العهد المريني ميالة إلى المذهب الأشعري، بفعل عوامل متعددة، منها الركون إلى التقليد، ومنها الانحسار الحضاري للأمة المغربية وتراجع نفوذها في الشمال الإيبيري.

ومما تميز به أشاعرة هذا العهد أنهم أضافوا إلى مواردهم كتب الفخر الرازي وأفادوا منها، مثل صنيع أبي الحسن علي اليفرني الطنجي (ت:734هـ) صاحب المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية.

ولم يتردد ابن خلدون (ت:808هـ) في نعت مذهب الأشعرية بالحق، قال عن المهدي الموحدي أنه جاء “إلى الحق آخذا بمذاهب الأشعرية، ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة، وما يؤول إليه ذلك من التجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعرية”، وقال في موضع آخر عن الوحي والملائكة والروح وغيرها: “إن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله، وهم أهل السنة، فلا تشابه”.

وفي هذين الاقتباسين يذكر ابن خلدون أهم خصيصة يتميز بها الأشاعرة، وهي التأويل، ومع ذلك يصفهم بأنهم “أهل السنة” وأنهم على “الحق”.

ونظرا للرسوخ الأشعري في التصور الاعتقادي لكثير من أهل هذا العصر، فإنهم لم يكتفوا بذكره في المباحث العقدية من إلهيات ونبويات وسمعيات، بل تعدوا ذلك إلى مجال المعاملات، فجعلوا المذهب الأشعري ومقولاته أساس تصرفاتهم العملية أيضا، ودوننا خطاب لسان الدين ابن الخطيب (ت:776هـ) في صداق أحد أمراء بني مرين، فقبل أن يعلن عن العريسين وعائلتيهما، وقبل أن يتحدث عن الزواج ومقاصده، صدّر خطابه بمقدمة كلامية أسس عليها مقصوده ومراده، فقال: “قد عُلم من مذاهب أهل السنة وتقرر، وتردد وتكرر، وتخلص بالبراهين الأشعرية وتحرر، أن التحسين والتقبيح لا يحَبان بالعقل ولا بالطبع، وإنما المرجع فيهما إلى حكم الشرع، وإن العقل إذا شدّ لحكم من الأحكام عقدا، وتناوله قبولا أو ردا، فحقه أن يعرض على سلطان الشرع توقيعه، ويلقى في يد ذلك المسيطر الناقد جميعه، فما كتب بإمضائه أُنفذ وأُعمل، وما لم يجزه طُرح وأُهمل، ولا خفاء أن النكاح مما اقتضاه الشرع والعقل، وتعاضد فيه السمع والنقل، …” ، وهذا جلي في رسوخ الأشعرية في اعتقاد لسان الدين ابن الخطيب.

هذا الرسوخ الأشعري سنجد خلافه مع إمام المالكية في عصره أبي القاسم ابن جزي (ت:741هـ) الذي رفض رفضا قاطعا تأويل المتشابه، ومنه آيات الصفات، بناء على قوله جل وعز: “وما يعلم تأويله إلا الله”، وهو “إخبار بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذمٌّ لمن طلب علم ذلك من الناس”، أما الراسخون في العلم فلا يعلمون تأويل المتشابه ولا يبحثون عنه، وإنما “يقولون آمنا به على وجه التسليم والانقياد”، وهذا عينه المرادف للإيمان بدون كيف، أو للإيمان مع التفويض الذي تبناه في تفسير الاستواء، حيث قال: “تأولها الأشعرية أن معنى استوى استولى بالملك والقدرة، والقول الحق الإيمانُ به من غير تكييف، فإن السلامة في التسليم”، وذكر في تفسير قوله تعالى: “وجاء ربك” موقف الأشاعرة وغيرهم فقال: “تأويله عند المتأولين: جاء أمره وسلطانه”، ثم علق عليه بقوله: “وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل”، وفي آيتي “كل شيء هالك إلا وجهه” و”ويبقى وجه ربك” قال: “هو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف”، وهذا المنهج مطرد عند ابن جزي.

وإذا كان ابن جزي وابن خلدون على غير وفاق في هذه الجزئية مع ما بينهما من المعاصرة والقرب من البلاط المريني، فإننا نجد معاصرا آخر لهما، وهو الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت:790هـ)، وآراؤه تحتاج بيانا وتوضيحا، فهو يؤْثر في آيات الصفات إمرارها كما جاءت اقتداء بثلة من أعلام السلف، لأن ما قالوه في الإمرار “مستمد من معنى قول الله تعالى: “فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة”، ثم قال: “والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا”، فإنها صريحة في هذا الذي قررناه، فإن كل ما لم يَجْرِ على المعتاد في الفهم متشابه، فالوقوف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم”، وما قاله هنا في الاعتصام، كرره في مواضع من الموافقات، وبيّن موقفه أجلى بيان حين تمثيله للموضوع بآية “الرحمن على العرش استوى” وبحديث: “ينزل ربنا إلى سماء الدنيا”، وأن الصواب فيهما وفي أمثالهما أن يؤمن المكلف بأن هذا المتشابه من عند الله، ويجتنب النظر فيه لأنه من غير أفعال العباد.

وإذا تجاوزنا مسألة الصفات، فالشاطبي أصّل لنظريته المقاصدية بمقولات كلامية، وهي المقولات التي لا تنضبط انضباطا تاما إلى المذهب الأشعري، وقد انتبه إلى ذلك الدارسون لموافقاته، قال الدكتور أحمد الطيب (شيخ الأزهر) وهو المتخصص في الدرس الكلامي الخبير بمقولاته: “هكذا يتبنى الشاطبي مذهب المعتزلة في التعليل، في الوقت الذي يرفض فيه أصل الحسن والقبح العقليين. ويتبنى أصل الأشاعرة في الحسن والقبح الشرعيين، في الوقت الذي يرفض فيه مذهبهم في نفي التعليل”، ليخلص في نهاية بحثه إلى أن الشاطبي “لم يكن أشعريا بالمعنى الدقيق، ولا معتزليا، ولا ظاهريا”.

هذه الإشارات والاقتباسات تدل على أمرين:

الأول: حضور الدرس الكلامي في المغرب كان؛ تاريخيا؛ أقل من الدرس الفقهي، أما في العصر المريني، فقد عرف تواريا أكثر، ولم نجد فرسان هذا المجال كما وجدناه مع أبي الحجاج الضرير أو السلالجي من قبل، لذلك نصّ غير واحد على كساد سوق المعقول في المغرب، ولما ورد الشيخ خروف التونسي (ت:966هـ) إلى المغرب، أحدث رواجا جزئيا لهذا العلم، وانتفع به قلة من العلماء كالمنجور والقصار وأبي المحاسن الفاسي وغيرهم، أما ابن جزي وابن الخطيب وابن خلدون والشاطبي فلم يكونوا أئمة هذا الشأن ولا مبرزيه، بل كانت المباحث الكلامية لا تُذكر في متونهم إلا عرضا، ولم يؤلفوا فيها ولم نجد لهم جهودا في بثها ونشرها.

أما الأمر الثاني فيؤيد ما سبق أن قررناه من كون الأشعرية كانت اختيارا من الاختيارات العقدية في المغرب، ولم تكن ثابتا من ثوابت تدين أهله، لذا نجد المؤول والنابذ للتأويل، ونجد من يمزج بين أصول الأشعرية وأصول خصومهم المعتزلة، كما يتبدى لنا عظمة السلطة السياسية إذ ذاك، فالمرينيون قرّبوا إليهم ابن خلدون وابن جزي رغم ما بينهما من خلاف، ولو كانت السلطة السياسية تتعامل بمنطق “الثوابت” لأقصت أحدهما ضرورةً، كما كان في العلماء مخالفون للأشعرية لكنهم لا يناصبونها العداء، ومنهم فضل بن محمد المعافري (ت:699هـ) الذي ترجمه ابن الخطيب، وقال عنه في ترجمته: “غيرَ منافر لمذهب الأشعرية”، وهي عبارة عابرة تدل على روح التعايش والتسامح والانفتاح على المخالف دون تبديع أو تفسيق أو إخراج من دائرة أهل السنة.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي