شارك المقال
  • تم النسخ

من مظاهر التدين المغربي (8)

الاختيارات العقدية (2)

شبهة الإكراه على الأشعرية في العهد الموحدي

إذا كانت الدولة المرابطية قد عملت على ترسيم المذهب المالكي، فإن الدولة الموحدية عملت على ترسيم المذهب الأشعري داخل نفوذها، وذلك لاعتبارات، منها تلقي المؤسس ابن تومرت لتعاليم هذا المذهب في المشرق على يد الإمام الغزالي بالخصوص، وقد وضع متنا عقديا لأتباعه سمي بـ”المرشدة”، وهو متن صغير مختصر مؤصل سهل الحفظ من قبل العامة قبل غيرهم.

بناء على هذا الترسيم المذهبي، لم يتردد البعض في ترديد مجموعة من الأغاليط ذات الصلة به، منها أن العقيدة الأشعرية لم يعرفها المغرب والمغاربة إلا مع الموحدين، ومنها أن الموحدين عملوا على ترسيخها بقوة السلطان.

والصواب أن المغاربة عرفوا الأشعرية قبل الموحدين، ولا أدل على ذلك سؤال أمير المسلمين الموجه إلى ابن رشد الجد، إضافة إلى العلماء الذين عُرفوا بأشعريتهم الجلية قبل الموحدين، وهم من الموالين للسلطة المرابطية ومن المعارضين لها، مثل أبي بكر المرادي (ت:489هـ) وأبي الحجاج يوسف الضرير (ت:520هـ) وأبي الحكم ابن برَّجان (ت:536هـ) وأبي عبد الله محمد بن خلف الإلبيري (ت:537هـ) والقاضي أبي بكر ابن العربي المعافري (ت:543هـ) والقاضي عياض اليحصبي (ت:544هـ)، دون أن ننسى أبا عمران الفاسي (ت:430هـ) تلميذ الباقلاني والذي كان من الفاعلين الأوائل لقيام المرابطين ودولتهم، ويكفي أن أبا القاسم المعافري (ت:502هـ) كان من تلاميذ اثنين من رموز الأشعرية، وهما الباجي والجويني، وكان يُدرس الكلام الأشعري في سبتة، ولم يقع منه نفور لأجل ذلك، بل كان الناس يرحلون لدرس ذلك عليه كما ذكر القاضي عياض، وهذه العبارة تدل على إقبال المغاربة على الكلام الأشعري، وكل هؤلاء الأعلام وهذه الجهود كانت قبل دولة المصامدة الموحدين.

ابن طفيل وابن رشد … القرب من البلاط الموحدي والخلاف مع الأشعرية

قد لا نبالغ إن قلنا بأن دعوى فرض الأشعرية قسرا في المجتمع إبان العهد الموحدي مجرد مغالطة كسابقتها، ويكفي أن نورد أعلام ذلك العصر ونخبته الذين كانوا مخالفين للأشعرية معلنين ذلك مصرحين به، وهم من المشهورين بالقرب من الحاكم الموحدي شخصيا، منهم الفيلسوف ابن طفيل والفيلسوف والفقيه ابن رشد.

يعد ابن طفيل من جلة المثقفين المقربين من البلاط الموحدي، وكان طبيب الخليفة، ورغم قربه الشديد من دوائر الحكم، إلا أنه لم يكن متبنيا للاختيار الأشعري، ويكفي أن نذكر خلافه الجوهري معه، فالأشاعرة يقولون بأن الصفة معنى زائد على الذات، وابن طفيل يصرح أكثر من مرة بخلاف طرحهم، فيقول: “إن علمه بذاته ليس معنى زائدا على ذاته، بل ذاته هي علمه بذاته، وعلمه بذاته هو ذاته”، ليخلص إلى أن “العلم الذي علم به ذاته ليس معنى زائدا على ذاته، بل هو هو”، ثم تحدث عن المنخرط في المجاهدة والطالب للفناء بأنه قال “بقوله الذي ليس معنى زائدا على ذاته: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار”.

وهكذا كان يمرر ابن طفيل قناعاته على لسان شخصياته الروائية، أما ابن رشد فهو من المقربين أيضا إلى البلاط الموحدي، ونظرا لمكانته الفقهية ولمكانته في البلاط، مكّنُوه من منصب القضاء في الحواضر المتميزة كقرطبة، ولم يمنعه هذا القرب من التعبير عن مواقفه وآرائه تجاه الأشاعرة الذين تعامل مع اختياراتهم العقدية بحس نقدي جلي، ولم يتردد في انتقادهم من الأساس، حيث عدّ أغلب أصولهم المعرفية مجرد سفسطائية تجحد كثيرا من الضروريات، بل جعل تأويلاتهم أسوأ من تأويلات المعتزلة التي يعتبرها في الغالب “أوثق أقوالا” مقارنة بأقوالهم.

لو كانت الدولة الموحدية ممن اعتمد فرض العقيدة الأشعرية وإلزامَ الناس بها قسرا، لكانت النخبة المحيطة بالسلطة كلها أشعرية، ولكانوا داعين لها منافحين عن مقولاتها، ولما وجدنا ضمن الشخصيات الأثيرة لدى البلاط أشخاصا مناوئين لها كابن طفيل وابن رشد الحفيد.

ومن العجائب المستغربة، أن نجد رافضي الأشعرية في عصرنا لا يترددون في ثلب هذا المذهب من خلال التذكير بأنه فُرض في المغرب بالسيف الموحدي، وهذا لعمري من المغالطات التي يتوسلون بها، وقد بيّنا زيفها، ونبين هنا لا منطقية هذه الدعوى، وذلك أن أصحابها متمسكون بالمذهب المالكي، رغم أنه فرض بالسيف كما يقول أتباعه وخصومه على السواء، فإذا كان تنقيصهم من المذهب الأشعري بسبب سيف الدولة كما زعموا، وجب عليهم من باب أولى وأحرى التنقيص من المذهب المالكي، فلماذا يقبلون هذا ويرفضون الآخر؟. عجبا !

وإذا تجاوزنا ابن طفيل وابن رشد ومن على شاكلتهما من غير الأشعرية، وجب علينا أن ننبه إلى أن أغلب علماء المغرب كانوا حينذاك أشاعرة، وهم حجر الأساس في ترسيخ هذا الاختيار في هذه الديار، مثل أبي عمرو عثمان السلالجي (ت:574هـ) كان “إمام أهل المغرب في علوم الاعتقاد”، ونظرا لتميزه ونبوغه كان يطلق عليه جويني المغرب، وهو بهذا الوصف حقيق، صنف عقيدة أشعرية خالصة سارت بذكرها الركبان، ونظرا للدور الذي قامت به عقيدته البرهانية أو السلالجية قيل في حقه: إنه منقذ أهل فاس من التجسيم، وهذه عبارة وإن كانت لا تخلو من مبالغة، إلا أنها تدل على مكانته وجهوده العلمية في تثبيت الاختيارات الأشعرية.

ويعد الإمام السهيلي (ت:581هـ) من الثلة العلمائية التي عملت على ترسيخ مبادئ الأشعرية في المغرب، لأنه من العلماء الأعلام الذين جمعوا بين أمرين، أولهما الرسوخ العلمي، قال تلميذه أبو الخطاب ابن دحية: “كان فردا في زمانه، لبراعته في الفنون وافتنانه”، ثانيهما: أنه كان ذا وجاهة ومكانة في المجتمع، لدرجة أن المغاربة صنفوه من الرجال السبعة الذين تشرفت بهم حاضرة مراكش، والجمع بين هذين الأمرين يسمح للعالم أن ينشر أفكاره في المجتمع بسهولة ويسر، وهذا ما وقع للإمام السهيلي الذي كان يصف الأشعرية بأنهم “أرباب التحقيق، المؤيدون بالتسديد والتوفيق”، وقد تلقى الأشعرية عن شيوخه خصوصا أبا بكر ابن العربي الذي لازمه.

وواصل علماء المغرب نشر مبادئ الأشعرية في دروسهم ومصنفاتهم، مثل الإمام عبد الجليل القصري (ت:608هـ) صاحب كتاب تنبيه الأفهام في حلّ مشكل حديثه عليه السلام، الذي قاربَ فيه الأحاديث المشكلة التي قد يفيد ظاهرها ما يخالف التنزيه، أفادنا ابن الأبار أنه “كان متقدما في علم الكلام”.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي