شارك المقال
  • تم النسخ

تعديلات المدونة وسؤال المرجعية

بعد الاستقلال، اضطر المغرب إلى إنشاء ترسانة قانونية تؤطر المجتمع، ومن القوانين التي صدرت فجر الاستقلال ما سمي حينها بمدونة الأحوال الشخصية، وهي المدونة التي عرفت تعديلات قبل أن تعمد الدولة في بداية عهد الملك محمد السادس إلى إنجاز مشروع جديد لهذا القانون سمي حينها بـ”مدونة الأسرة”، وهو المشروع الذي لم ير النور إلا بعد صراع مع مكونين في المجتمع يختلفان في بعض فروع المدونة، بل في هذين المكونين عناصر يصل الاختلاف بينها وبين خصومها إلى مستوى المرجعية.

واليوم، يعود النقاش إلى مدونة الأسرة بهدف تعديل بعض موادها وفصولها، خصوصا ما يتعلق بالزواج أو الحضانة أو الإرث.

وغانٍ عن البيان أن المدونة اجتهاد بشري، لا حرج في إدخال تعديلات بالإلغاء أو التدقيق أو التوسيع أو التضييق على مجموعة من موادها، وهي المواد التي ما فتئ المحامون والقضاة والعدول يعانون من بعض مسلكياتها وتعقيداتها، ناهيك عن معاناة بعض المواطنين.

لكن بعض الفرقاء لم يفوتوا فرصة الإعلان عن فتح هذا الورش ليخوضوا في قضايا كبرى أوضحت أنهم لا يناقشون تحت سقف مرجعية واحدة، إذ منهم من يناقش انطلاقا من المرجعية الإسلامية المضبوطة والواضحة، ومنهم من ينطلق من مرجعية تطلَق عليها توصيفات ونعوت متعددة، مثل المرجعية الحداثية، أو المرجعية الكونية، أو غيرهما من العناوين.

وهنا وجب التنبيه إلى أن “المغاربة الغربيين” يدافعون عن قضايا مخالفة للمرجعية الإسلامية، ويرفعون شعارا تلو الآخر، فهم اليوم يعلنون موقفهم الرافض للتعصيب، ويطالبون بالمساواة بين الرجل والمرأة في المدونة فقط دون غيرها، وفي تعديل لاحق سيرفعون مطلب إلغاء الصداق، لأنه مخالف للقيم الكونية، وبعده سيطالبون بإلغاء العدة، لأنها من الأحكام غير الحداثية، وبعدها سيطالبون بإلغاء الزواج من أصله، لأنه لا ينسجم مع الحريات الفردية، في انتظار تبني الزواج المثلي، ولعل المطالبة بهذا الأخير قد تسبق المطالب الأخرى مراعاة للسياق الدولي.

وهنا نسجل ملاحظة مهمة، وهي أن التدافع بين المكونين لم يبق كما كان لعدة متغيرات، أهمها:

المتغير الأول: كان في المغرب علماء دين لهم شخصيتهم ولهم مواقفهم ولهم أنفتهم، وكانوا شحيحين بدينهم متمسكين به لا يوافقون على ما ينقض عراه، ومنهم علال الفاسي وعبد الله كنون والرحالي الفاروقي وغيرهم، وخلف من بعدهم خلَف من المستمسكين بعرى الدين، الذين لا يتوانوا في الترافع ضد الخصوم والتدافع معهم، مثل بعض المشاركين في لجنة مدونة الأسرة كمحمد التاويل وإبراهيم بن الصديق ومصطفى بنحمزة.

أما الآن، فالعلماء الذين يرجى منهم التدافع والترافع باستماتة على الدين والهوية هم إلى العدم أقرب، لما يخالط نفوس الأغلب من خوف على المنصب وخوف على المرتب وعدم استقلالية، إضافة إلى أن بعض “العلماء” سامحهم الله لم تعد لهم شخصيةُ وأنفة وعزة العالم.

المتغير الثاني: كان في المغرب سياسيون كبار يدافعون باستماتة على الهوية الدينية للأمة المغربية، ولهم مناعة ضد الارتماء في أحضان التغريب، وكان منهم علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني ونظراؤهما، وخلف من بعدهم خلَف خلطوا بين جرعة من الانفتاح وتمسك بالهوية، فكان منهم امحمد بوستة وعلي يعتة وأحمد عصمان وعبد الكريم الخطيب ومجايلوهم، وهؤلاء لم يجرؤوا على إدخال تعديلات في المدونة مثل التعديلات المُطالب بها اليوم وغدا.

أما الآن، فقادة الأحزاب في الغالب لا قرار لهم، ولا شخصية لهم، ولا مواقف لهم، ومنذ سنوات سمعنا أن وزيرا أول لم يعين حكومته، بل وُضع له في جيب سرواله أسماء التشكيلة الحكومية على هامش الاحتفال بمناسبة دينية، ومن يقبل بهذا يقبل بتغيير دين المجتمع وليس بأحكام ومواد المدونة.

المتغير الثالث: “المغاربة الغربيون” كانوا في المغرب منذ الاستعمار، وتركهم الاستعمار، وترعرعوا في بلد المستعمر، ورضعوا لبان الثقافة من ثدييه، وتناسلوا من بعده، لكنهم لم يجرؤوا على رفع المطالب المتعارضة مع نصوص الشرع القطعية فجرَ الاستقلال، كما أنهم لم يجرؤوا منذ ثلاثة عقود إلا على تغيير بند الولي، أما الآن فسقف مطالبهم ارتفع، وصوتهم علا، وارتباطاتهم بالخارج توثقت واصطبغت بـ”المشروعية”، إذ بدل أن يرتبطوا بفرنسا ومنظماتها، صاروا مرتبطين بالمنظمات الدولية والقيم الكونية والمواثيق الدولية.

المتغير الرابع: عرفت الحركة الإسلامية نموا مطردا منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وانخرطت في التدافع الإيديولوجي والفكري والفقهي مع خصومها في معارك ذات صلة بمواضيع الهوية الوطنية والإسلامية، فكانت في الصفوف الأمامية دفاعا عن اللغة العربية وعن الأحكام القطعية في المدونة وضد التطبيع مع كيان العدو الصهيوني، لكنها الآن وبعد أن تمرغ جزء منها في أوحال العمل الحكومي، أصابها ضعف شديد جعل صوت “المغاربة الغربيين” أقوى من صوت “المغاربة الإسلاميين”، مما يدل على أن موازين التدافع قد تكون في صالح الجماعة الأولى.

والخلاصة أن “المغاربة الغربيين” ارتفع ضغطهم، و”العلماء” خفتَ صوتهم وخفّت مناعتهم، وإذا كان هؤلاء وهؤلاء مرتبطين بالدرهم والدينار، فـ”المغاربة الغربيون” يتقوون بالدرهم والدينار، ويعلو صوتهم بالدرهم والدينار، و”العلماء” يضعفون بالدرهم والدينار، ويتقاعسون خوف فقدان الدرهم والدينار.

وإذا كان “المغاربة الغربيون” يتقوون بدعم الغرب وبالمواثيق الدولية وبما يصطلح عليه زورا بالقيم الكونية، فـ”المغاربة الإسلاميون” يضعفون بضغط الغرب وبقيم الغرب وبمواثيق الغرب.

هذه المتغيرات ستجعلنا نلمس تغيرا في موازين التدافع التي عرفناها بداية الألفية والتي تجلت في مسيرتين شعبيتين يوم 12 مارس 2000 في كل من الرباط والدار البيضاء.

فما هي المرجعية التي يجب الاستناد عليها لإنتاج وثيقة المدونة؟

هل مرجعية الدرهم والدينار؟ أم مرجعية القيم الكونية” أم مرجعية الإسلام؟

باعتبارنا مسلمين، وباعتبار نخبتنا لم تعلن صراحة انسلاخها عن الدين وخلعها لربقته، فإن المرجعية الإسلامية هي الأفضل والأولى لمجتمعنا، لأنها المرجعية الجامعة والضامنة للحمة المجتمع، بخلاف المرجعية الأخرى، وهذا مفاد كلام الملك حين التزم في البرلمان بعدم تحليل الحرام أو تحريم الحلال.

والمرجعية الإسلامية تفرض علينا قيما إيمانية نحن في أمس الحاجة إليها، منها:

** الابتلاء:

الإنسان في علاقته بالله تعالى مرتبط بسنن متعددة، منها سنة الابتلاء، والله تعالى يبتلي الإنسان بابتلاءات وامتحانات متعددة، لذلك قيل: الدنيا دار ابتلاء، فالله تعالى منحنا النعم التي لا تعد ولا تحصى، وكلها لنا ابتلاء وامتحان ليحاسبنا على طريقة تعاملنا معها، “وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ ‌لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ “، وعلاقة الإنسان بالإنسان أو علاقته بالمجتمع هي علاقة ابتلاء، “وَلَٰكِن ‌لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ”، ونتيجة الابتلاء أن يجازي الله المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، تطبيقا لمبدأ العدل، “‌لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ”، وابتلاء الله تعالى للإنسان لا يكون في القضايا التي ندركها بعقولنا، بل يتجلى في قضايا قد تبدو غير معقولة، كتحريم الصيد في الحرَم، وإباحته في باقي مناطق العالم، وتحريمه في حال الإحرام وإباحته في باقي الأحوال، هنا قد يسأل سائل عن معقولية هذا الحكم، ولن يصل بعقله إلى شيء، لذلك كان هذا الحكم الرباني ابتلاء مرتبطا بالإيمان بالغيب أصالةً، “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ”، لذلك نقول مع باقي أحكام الله التي لا نجد لها تعليلا حداثيا معقولا، مثل إرث الابن ضعف البنت، فنقول قياسا على الآية الأخيرة: ليبلونكم الله في إرث الابن والبنت ليعلم الله من يخافه بالغيب، ومثل ذلك نقوله في العدة والزواج والطلاق وغيرها، ولا ننحاز وراء بعض الشعارات البراقة الجذابة كالعدل والمساواة والقيم الكونية والحداثة وهلم شعارا، والتمسك بأحكام الله أولى لنا من كل هذه الشعارات، ومن يرتمي وراءها وينخدع بها ويتبناها معارضا بها أحكام الله فهو ممن رسب في الابتلاء والاختبار، ولا غرابة أن نجد آيات قرآنية تربط بين الابتلاء ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعة أحكام الله ورسوله، قال تعالى:

“‌وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ ‌وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗا وَسَيُحۡبِطُ أَعۡمَٰلَهُمۡ

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ”.

وهكذا عدم طاعة أحكام الله تكون سببا لإحباط الأعمال وإبطالها ومَحْقِها، فلا تنفع مواثيق دولية ولا حداثة.   

** العبدية:

إذا نجح الإنسان في الابتلاء وحسُن عمله، فإنه يرتقي إلى أعلى درجة يمكن أن يصلها الإنسان في علاقته بربه، وهي علاقة العبدية، حيث يكون الإنسان عبدا محضا، والله تعالى رب لا رب غيره، وهنا كان يقول الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي بوضوح لا لبس فيه: “العبد عبد، والرب رب”.

ومن مقتضيات العبدبة أن يقول الإنسان المسلم/العبد لله/الرب: سمعت وأطعت، وإن لم يرفع شعار السمع والطاعة فإنه قد خرج عن العبدية المحضة إلى العبدية المشوبة بالربوبية، وهنا خدش عقدي، أما إذا رفض أحكام الله القاطعة الساطعة بدعاوى متعددة، فإنه يكون قد تمرد على الله تعالى، وخرج عن مسمى “الإسلام” من حيث لا يدري، لأن “الإسلام” في أصله الشرعي واللغوي ما هو إلا اشتقاق من الاستسلام لله وإسلام النفس له، فكيف نستسلم له ونسلم أنفسنا له ونرفض أحكامه بدعوى مخالفة الحداثة؟، وما الحداثة الحقة إلا اتباع لقيم الإسلام كالرحمة والمودة والعدل والتعاون والإحسان وغيرها مما لا يحيد عن مقتضيات الأسماء الحسنى، وهنا أستحضر الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئتُ به”.

ومن الأحكام القرآنية التي يتعامل معها المسلم بمنطق العبدية المتمثل في ضرورة السمع والطاعة ما يتعلق بأحكام الإرث من قواطع سواطع، كمضاعفة إرث الابن للبنت وعدم المساواة فيه، إضافة إلى حدود الله المتمثلة في الطلاق والعدة وغيرهما.

نعم، قد لا يرتاح بعض المغاربة لنَيْل الابن ضعف نصيب البنت في الإرث، ولعموم التعصيب، وللصداق، وللعدة، ولغيرها من الأحكام، لكن المبادئ الحداثية تفرض عليهم احترام القانون رغم عدم فهمهم له أو اقتناعهم به، يقول كانط في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق: “يجبرني العقل على الاحترام المباشر لمثل هذا التشريع، وهو احترام قد لا أدرك حقا في هذه اللحظة علامَ يستند؟ ولكنني أفهم منه على الأقل أنه تقدير للقيمة التي تعلو علوا كبيرا عن قيمة كل ما يمتدحه المَيْل”، وإذا كان هذا المفكر يحترم تشريعا بشريا رغم عدم إدراكه لمستنداته ومرتكزاته، فإنه من باب أولى، يجب أن يحترم الحداثيون تشريعا ربانيا رغم عدم تعقلهم لمعانيه وحِكَمه، وإن لم يحترموا تشريع الله الذي يذعن له الغالبية العظمى من الشعب فليس لهم من الحداثة إلا الاسم.

** الاستخلاف:

يعدّ الاستخلاف من المبادئ القرآنية، وهو من لوازم “الابتلاء” و”العبدية”، ومعناه المبسط أن الإنسان من حيث هو إنسان هو خليفة لله في الأرض، تأسيسا على “إِنِّي جَاعِلٞ ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَةٗۖ”، وهذا المبدأ له لازمان: 

أ – اللازم الأول: الكرامة الإنسانية.

حين يدرك الإنسان أنه خليفة الله في الأرض، فإنه يدرك لا محالة أنه كائن محترم مكرم غير مهمل، ومنه “‌وَلَقَدۡ ‌كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ”.

ب – اللازم الثاني: المالِكية الإلهية.

حين يكون الإنسان خليفة لله في الأرض، فإن الخليفة ليس سوى وكيل أو نائب عمن ينوب عنه، والله تعالى هو المالك الحق لكل ما في هذه الأرض موضع الاستخلاف، إذ المالِكية ليست إلا فرعا عن الخالِقية.

وتفريعا على ما سبق، فإن الله تعالى هو خالق المال، وهو مالكه، أما الإنسان فلا يتصرف فيه إلا باعتباره نائبا عليه ومستخلفا فيه، وهذا هو منطوق قوله تعالى: “آمِنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلَفين فيه”، وهنا نجد التصريح بأن البشر ليسوا مالكين للمال، وأنهم مجرد مستخلفين فيه، ولم يبق من احتمال في مالكيته إلا لله تعالى، لذلك كان هو الآمر الناهي في كسبه وإنفاقه، وما على المستخلَف إلا التنفيذ تبعا لما سبق من ابتلاء وعبدية، لذا أمر الإنسانَ بالإنفاق، وشرع له ممارسة البيع بالمال، وحرم عليه الربا فيه، وغير ذلك من التشريعات.

وحين ينكر الإنسان مبدأ الاستخلاف ولا يؤمن به، فإنه لن يؤمن بملكية الله لما تحته من أموال، وبالتبع، فإنه لن يخضع لأوامر الله تعالى، وسيتعامل بالربا ويمتنع عن إخراج الزكاة.

وأحكام الله في الأموال إباحةً وأمرا وحرمة مثل أحكام الله في المال توزيعا، إذ هو الذي أمر – باعتباره مالكا حقيقيا – بتوزيع التركة، فأمر بإعطاء الابن ضعف البنت، وبمساواة الزوج والزوجة في حالة، وبأفضلية الزوج على الزوجة في حالة أخرى، وبمساواة الإخوة للأم وعدم مساواة الإخوة للأب، وبتأخير توزيع التركة عن سداد الدين أو إنفاذ الوصية وعدم تقديمه عليهما. والتمسك بالحداثة أو القيم الكونية أو المواثيق الدولية يجعل الإنسان في حالة رفض مطلق لمبدأ الاستخلاف، ويؤمن بالحرية المطلقة في التصرف في المال، وما هذه الحداثة بحديثة، إذ هي حداثة قديمة تمسك بها قارون الذي قال عنه الله تعالى: “وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ”، حيث نسب الله تعالى فِعل الإتيان إلى نفسه العلية: “وآتيناه”، للدلالة على الاستخلاف، لكن قارون أبى ذلك تمردا، وأصرّ على نسبة الإتيان إلى نفسه قطعا للصلة مع الله: “قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ”، فعلّق عليه الله تعالى بقوله الحكيم العظيم: “أَوَلَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ”.

فمن يتحدث اليوم عن منع فلان أو علان من قرابته من نَيْل جزء من تركته بدعوى أنه هو من جمعها، دون استحضار أنه مستخلف فيها، فما عليه إلا أن يتذكر تعليق الله تعالى على قارون بأنه تعالى أهلك من هو أكثر منه جمعا.

إن عصرنا الحاضر هو عصر غربة الدين، “بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء”، ومن تجليات غربة الدين غربةُ قيمه الأساس، ومنها قيم الابتلاء والعبدية والاستخلاف، وهي ليست قيما تكميلية، وإنما هي قيم عقدية، قد لا يستقيم إيمان المسلم دون فهمها والتمسك بها.

ومن المعيب أن يفكر المغاربة المسلمون في إصلاح مدونة الأسرة؛ وهي ورش مجتمعي كبير وخطير؛ دون استحضار هذه القيم العقدية والحضارية والحداثية والكونية، لأننا نؤمن بأن القيم الإسلامية هي القيم الكونية لا سواها، إذ هي قيم الدين الخاتم، وقيم الكمال والتمام، “ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي ‌وَرَضِيتُ ‌لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ”.

إن من أخطر ما هدد المجتمع الغربي هو إعلان “موت الإله”، وهو الذي لزم منه “موت الإنسان” حسب تعبيرات متتالية من مفكري الغرب أنفسهم، ولعل هذا ما يهدد المجتمع المغربي، لأن “المغاربة الغربيين” الذين يعانون مما أسماه المفكر المغربي د، محمد التهامي الحراق بـ”الجاهلية الروحانية”، لا يجرؤون على إعلان “موت الإله”، لكنهم يجتهدون في إماتة القيم الإيمانية التي أشرنا إلى ثلاثة منها، وأي إماتة للقيم الإيمانية في ورش مجتمعي خطير وحساس هي بالضرورة إماتة للإنسان المغربي.

لا مغرب بدون إيمان، لا مغرب بدون حداثة، لا مغرب بدون أنوار.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي