شارك المقال
  • تم النسخ

من مظاهر التدين المغربي .. الحلقة (4)

القرآن الكريم: حفظا وقراءة وتجويدا (1)

علاقةً بالقرآن الكريم، اشتهر المغاربة بأمرين اثنين:

أولهما: حفظة القرآن الكريم المنتشرون شرقا وغربا شمالا وجنوبا، في الحواضر والبوادي على السواء، مع ما يلزم ذلك من كثرة المدررين المتفرغين لتحفيظ القرآن المرابطين على ثغره، وكانت لعملية الحفظ خصوصية مغربية، حيث كان المغاربة يتفادون استعمال المصاحف أثناء عملية الحفظ، ويصرون على استعمال الألواح الخشبية، لأن ما نزل من اللوح المحفوظ لا يُحفَظ إلا في اللوح. ولهم في ذلك وسائل وطقوس خاصة، منها استعمال الصلصال لمحوه وصقله بحيث تسهل الكتابة عليه، وبعد أن يجف يسطره بمؤخرة القلم الذي يُصنع من القصب، ثم يكتب عليه ما سيحفظه في ذلك اليوم من القرآن، كل بحسب سنه ومستواه في التدرج القرآني، وإضافة إلى القلم القصبي، هناك الصمغ، ويطلق عليه “السمق”، وهو بمثابة مداد الكتابة. 

وعادةُ “المحظري” أنه يدخل الكُتاب صباحا فيكرر حفظ وجه اللوح الذي كتبه أول أمس، ولما يستظهره على الفقيه أو نائبه يأذن له بمحوه، وأثناء فترة تجفيفه يكرر بعض محفوظاته، وإذا جفّ اللوح فإن المحظرة يتحلقون حول الفقيه الذي يملي عليهم من حفظه دون استعانة بمصحف رغم تفاوتهم في مواضع القرآن، وبعد إتمام الكتابة يطالع الفقيه اللوح ثم يأذن للمحظري بحفظ ذلك الوجه الذي كتبه للتو، ويخصص الفترة المسائية لحفظ الوجه الآخر الذي كتبه أمس، وهو الذي سيستظهره وسيمحوه يوم غد.

وكان المغاربة على هذا السَّنن في الحفظ إلى عصرنا، ونسجل في العقود الأخيرة اعتماد البعض في حفظ القرآن على المصحف دون استعمال اللوح، خصوصا مع بعض دور القرآن المعاصرة.

ثاني الأمور التي اشتهر بها المغاربة هي كثرة الكتابة في قواعد رسم القرآن وتجويده وأدائه، ولهم متون رئيسة في هذا المجال، وهي الشاطبية ومنظومة الخراز والدرر اللوامع لابن بري مع ما عليها من شروح وتحشيات، إضافة إلى رسائل خاصة بمسألة بعينها، كالتأليف في المد وغيره، دون أن ننسى اهتمامهم بالمصنفات المتقدمة مثل مصنفات أبي عمرو الداني.

وغني عن البيان أن المتون المذكورة كلها لعلماء الغرب الإسلامي من مغاربة أو أندلسيين، فالشاطبي القاسم بن فيرُّه الضرير (ت:590هـ)، من شاطبة، عمت شهرته الآفاق بمنظومته التي حازت درجة الإمامة في العالم بأسره، وهي الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني، والخراز هو أبو عبد الله محمد (ت:718هـ) صاحب مورد الظمآن في علم رسم القرآن، وهو بحق مورد للظمآن اسما ومسمى، وقد اعتمده محفظو القرآن في بوادي المغرب وحواضره لإعانة الطلبة على إتقان الرسم إثباتا وحذفا وغير ذلك من أوليات هذا الفن.

ومما تميزت به القراءة المغربية عن غيرها من قراءات مسلمي العالم اعتمادها الوصلَ بين السور، فيقرأ التالي لكتاب الله الكلمة الأولى من السورة الموالية ويرجع إلى الكلمة الأخيرة من سابقتها ثم يعود إلى السورة الموالية، مثل:

“يومنون، عم، يومنون، عم يتساءلون”.

“من مسد، قل هو الله أحد، من مسد، قل هو الله أحد، الله الصمد”.

وقد تكون هذه الطريقة ذات بعد بيداغوجي تساعد القارئ على ضبط فواتح وخواتم السور.

ولم يستثن من الوصل بين السور بهذه الطريقة إلا أربعة مواضع، وهي المسماة بالأربع الزهر، ويطلق عليها الأربع الغر، ويقصد بذلك الانتقال من سورة إلى إحدى السور الأربع: القيامة والمطففين والبلد والهمزة، واستثنيت هذه المواضع الأربعة من الوصل في القراءة بناء على قبح المعنى المترتب على ذلك، فإذا قرأنا:

المثال الأول: “وأهلُ المغفرة، لا أقسم بيوم القيامة”.

المثال الثاني: “والأمر يومئذ لله، ويلٌ للمطففين”.

المثال الثالث: “وادخلي جنتي، لا أقسم بهذا البلد”.

المثال الرابع: “وتواصوا بالصبر، ويلٌ لكل همزة لمزة”.

فإن قبح المعنى يتجلى في الوصل بين المغفرة والنفي بلا في المثال الأول، ودخول الجنة والنفي بلا في المثال الثالث، واسم الجلالة والويل في المثال الثاني، إضافة إلى الوصل بين الصبر والويل في المثال الرابع. ولتلافي هذه المعاني السيئة، التزم المغاربة الفصل بين هذه السور وما قبلها بقراءة البسملة للحيلولة دون الوقوع في تلك المعاني المستقبحة.

ونظرا لاعتمادهم الوصل بين السور، فإن المصاحف المغربية خِلوٌ من علامة الوقف (صه) في أواخر السور إلا في أواخر السور التي تسبق الأربع المذكورة، وهذا الاستثناء هو المشار إليه في منظومة ابن بري:

وبعضُهم بسملَ عن ضرورة // في الأربع المعلومة المشهورة.

للفصل بين النفي والإثبات // والصبر واسم الله والويلات.

ومن مميزات القراءة المغربية التزامهم بقراءة حزبين راتبين في اليوم، أحدهما بعد صلاة الصبح، وثانيهما بعد صلاة المغرب، وفي رمضان، يقدمون الحزب الثاني ويقرؤونه بعد صلاة العصر، وتكون القراءة جماعية، وسنرجع إلى هذه السنة الحسنة لبسط القول فيها لاحقا.

ومن الخصوصية المغربية في القراءة، أن المغاربة يفتتحون قراءة الحزب بالاستعاذة ثم الآية رأس الحزب، فيقرؤون مثلا:

“أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا”؛

“أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قل من يرزقكم من السموات والأرض”.

ولا يلتزمون هذا الأمر في الحزب العاشر استثناءً، فإنهم يقرؤونه بالتعوذ والبسملة رغم أنه ليس بداية السورة، فيقرأون: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الله لا إله إلا هو”، تفاديا للوصل بين “الرجيم” واسم الجلالة.

ومما جرت به عادة المغاربة في كتابة المصحف أنهم يتركون بياضا في موضع البسملة مفتتح سورة التوبة، خلافا لمصاحف العالم، وقد علق الإمام عبد الله بن الصديق الغماري على صنيعهم هذا وبيّن عدم جوازه، لأن المغاربة لا يقرؤون البسملة بين السور أصلا، ولأن سورة التوبة نزلت بدون بسملة، إضافة إلى أن ذلك البياض قد يوحي لمن لا يعرف أن شيئا من القرآن قد حُذف.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي