شارك المقال
  • تم النسخ

من مظاهر التدين المغربي .. الحلقة (3)

الاختيارات القرآنية (2)….. وقف الهبطي 

لقراءة القرآن ضوابط متعددة، وبمجموعها يتحقق مفهوم الترتيل المأمور به في قوله تعالى: “ورتل القرآن ترتيلا”.

ومن أهم الضوابط الواجب مراعاتها ما يسمى بالوقف والابتداء، حيث يعلم القارئ الآي التي يقف عليها، ليتجنب الوقف في المواطن التي قد تحيل المعنى وتغيره.

والوقف هو قطع الصوت آخر الكلمة الوضعية زمانا، قال الشيخ زكريا الأنصاري: الوقف هو “المواضع التي نص عليها القراء، فكل موضع منها يسمى وقفا وإن لم يقف القارئ عنده”، والجزء الأخير من التعريف يدل على عدم إلزامية الوقف، لأن المراد هو أن الوقف موضعٌ “يصلح عنده ذلك وإن كان في نفَس القارئ طول، ولو كان في وسع أحدنا أن يقرأ القرآن كله في نفَس واحد ساغ له ذلك”.

وللعلماء عناية كبيرة بمسألة الوقف والابتداء، ولهم فيها مؤلفات ورسائل، أهمها الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل لمحمد بن سعدان الكوفي الضرير (ت:231هـ)، و”إيضاح الوقف والابتداء” لابن الأنباري (ت:328هـ)، و”المكتفى في الوقف والابتدا” لأبي عمرو الداني (ت:444هـ).

ونظرا لهذه الأهمية، فإن المسلمين كانوا يلتزمون وقوفا مضبوطة اعتمادا على الكتب السابقة وغيرها، واعتمادا على أداء القراء المتقدمين، وفي عصر طباعة المصحف الشريف، أسست بعض الدول لجانا علمية لوضع وقوف دقيقة لتلك المصاحف، مثل مصحف فؤاد الأول الذي طبع سنة 1332هـ، فقد ترأس لجنته شيخ القراء بمصر محمد بن علي بن خلف الحسيني.

ورغم العناية بهذا الفن ذي الصلة الوثيقة بالقرآن الكريم، فإن المغاربة لم يهتموا به ولم يعيروه كبير اهتمام قرونا عديدة، وكانوا في قراءاتهم الفردية والجماعية يقفون وقوفا اجتهادية، ولم يلتزموا وقفا معينا، وقد رجح الدكتور الحسن وكاك أن المغاربة كانوا “على عدة طرق في الأداء، وهذه الطرق منها ما هو منسجم مع قواعد التجويد، كالوقف على الآي، أو على محل التمام بشرطه، ومنها ما هو مجرد عادة غالبة ناشئة عن غرض تعليمي مؤقت في الأصل”.

وفي القرن العاشر، وضع الشيخ محمد بن أبي جمعة الهبطي (ت:930هـ) وقوفا للقرآن الكريم، ولعله تلقى جملة منها عن شيخه ابن غازي الذي كان معتنيا بالوقف، ولتقييد الهبطي نسخ متعددة تدل على اعتناء تلاميذه ومن في طبقتهم به وتعطشهم إليه، وقد استقر عليه العمل في المغرب منذ عهده إلى الآن، وصار المصحف المغربي متميزا عن مصاحف العالم بأسره بخصيصتين اثنتين تلازمانه حتى صارت من ماهيته، وهما وقف الهبطي واعتماد رمز (صه) للدلالة عليه.

لا يختلف اثنان عن اعتبار وقف الهبطي جزءا من الهوية الدينية للمغاربة الذين تعاملوا معه بالتسليم والإذعان، وارتقى إلى درجة ما جرى به العمل في القرون الثلاثة الأخيرة، لدرجة أن كثيرا من المغاربة وفيهم مثقفون وأهل علم ظنوا “أن القرآن نزل بهذه الوقوف، بل قيل: إن الهبطي رأى وقوفه في اللوح المحفوظ، ومنه أخذها”.

وتلقي هذه الوقوف بالقبول وجريان العمل بها دليل على موافقة العلماء عليها وتسليمهم بها، خصوصا في المراحل الأولى، وبعد حوالي القرنين، بدأت تظهر بعض الأصوات التي توجه انتقادات لهذه الوقوف، مثل المقرئ محمد بن عبد السلام الفاسي (1214هـ) والشيخ أبي شعيب الدكالي (1356هـ) والإمام أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري (ت:1413هـ) وغيرهم.

قال المقرئ محمد بن عبد السلام الفاسي رحمه الله عن تقييد وقف الهبطي: “وكان قد احتوى على مواضع ضعيفة، وأخرى بعدم الصحة موصوفة”.

وقال الشيخ أبو شعيب الدكالي: “إن الشيخ الهبطي ارتكب غلطة بل أغلاطا في الوقف تقديما وتأخيرا”.

قال العلامة الحجوي الثعالبي: “هو الذي يقرأ أهل المغرب بالوقف الذي جعله في القرآن الكريم منذ زمنه إلى الآن مطْبقين عليه، وهو أخذه عن الإمام ابن غازي شيخه، وإن كان في بعضه نظر، وإن تلقاه قراء المغرب بالقبول”.

قال العلامة محمد المختار السوسي: راعى الإمام الهبطي “مقاطع الآي، ومنتهى المعنى، فوضع وقفه المشهور، فصادف في كله إلا في بعض آيات قليلة، سلك فيها مسالك ضعيفة اتباعا لبعض التفاسير، ثم إن وقف الهبطي مع ذلك لم يجمع عليه المغاربة، بل منهم من قاومه كالإمام أحمد الصوابي أستاذ الحضيكي، فقد قام وقعد في ذلك، ورأى أن القراء لا يتمشون بسببه على السنن المأثور في المد عند أرباب الفن”.

قال الإمام عبد الله بن الصديق الغماري عن عمل الشيخ الهبطي أنه “أقدم على عملية الوقف بحسب ما ظهر له، من غير مراعاة للقواعد، فكان كثير من وقوفه من قبيل الممنوع”. وانتقد العلامة المفسر الصوفي أحمد ابن عجيبة بعضا من تلك الوقوف.

ومما يلاحَظ في هذا المقام أن عادة المغاربة في تعاملهم مع كثير من المؤلفات المهمة أن يبادروا إلى شرحها ونظمها والتحشية عليها، لكننا لم نجد لهذه العادة أثرا في تعاملهم مع تقييد الهبطي في الوقف، ولعل ذلك راجع إلى “عدم اهتمامهم بالوقف القرآني من حيث هو، وإما لعدم تخصصهم فيه، وإما لتهيب موضوعه الذي هو القرآن الكريم كما صرح بذلك ابن عبد السلام الفاسي”، ونتيجة لهذه العوامل كلها أو بعضها، تميز هذا الفن من فنون القرآن الكريم على خلاف غيره من الفنون “بفقر المراجع، وانفرد المرجع الموجود فيها بفقدان الشروح المكتوبة حوله”، وبناء عليه، قال الدكتور الحسن وكاك: “لا يليق بمقام الأمة المغربية الاستمرار على إهمال هذا الموضوع الخطير، كما لا يليق بأهل الكفاءة من علمائها أن يعللوا تقاعسهم بفقدان المراجع حوله، لأن خطورة المجال الذي يتأثر بوقف الشيخ الهبطي ــ وهو تجويد كتاب الله العزيز ــ لا يقبل منهم هذا التجاهل لأهمية تجويد القرآن وذلك التساهل في أمر ترتيله”.

والدكتور لحسن وكاك متوافق تمام الموافقة في هذه الدعوة الإصلاحية مع الإمام عبد الله بن الصديق الغماري، الذي اعتبر بعض وقوف الهبطي “من المنكر الذي يجب تغييره، لأنها تلحق بكلام الله خطأ يتنزه عنه، وكان السكوت عن تغييرها إثما يعم أهل العلم جميعا بالمغرب”.

وخلافا لأبي شعيب الدكالي والحجوي الثعالبي، فإن الحسن وكاك وعبد الله بن الصديق الغماري لم يكتفيا بالإشارة إلى ما في وقف الهبطي من هنات وأخطاء، أو التنبيه إلى ضرورة إصلاحها، بل اقتحما عقبة ذلك، وانخرطا في عمل إصلاحي يحسب لهما جزاهما الله خيرا، فتتبع الدكتور وكاك وقوف الهبطي واحدا واحدا أثناء تحقيقه للتقييد المخطوط، ونبه إلى ما بها من أخطاء. أما ابن الصديق، فتعامل مع الموضوع وكأنه فرض كفائي واجب على الأمة المغربية بمجموعها، وأنه فرض عين عليه من باب النصيحة في الدين، فانخرط في عملية الإصلاح رغم استشعاره صعوبة ذلك وما قد يترتب عليه من مشاكل وتبعات، فقال: “أردت أن أقوم بهذا الواجب عن نفسي وعن [المغاربة] بتأليف هذه الرسالة التي أبين فيها بحول الله الوقوف القبيحة، وأنا أعلم أن أفرادا من العامة وأشباههم ستأخذهم الحمية للهبطي على حساب كلام الله تعالى، فيرفعون عقيرتهم بذم عملي هذا، غير مدركين ما فيه من تنزيه القرآن عن الخطأ واللحن، بل قد يتجرأ بعضهم فيحاول تصحيحها بتقديرات متعسفة لم تخْف علي”.

ومجهود العلامة ابن الصديق لم يذهب سدى، فقد اطلع الدكتور وكاك على رسالته قبل طبع كتابه، وأثبت ملاحظاته فيه متبنيا لها، لكن حدس ابن الصديق لم يخب أيضا، فقد ووجه بانتقادات متعددة، وسبق أن شاهدت منذ سنوات برنامجا تلفزيونيا شارك فيه أحد متخصصي القراءات القرآنية بالمغرب، وتعامل مع وقوف الهبطي باعتبارها من ثوابت الأمة المغربية، ووجه انتقادا جُمليا لمجهود الإمام ابن الصديق دون أن يفصح عن نماذجه وأدلته، وغاية ما قال: إن الشيخ الهبطي كان نحويا متمكنا من هذا العلم. ويمكن أن يُرَدّ عليه بنفس كلامه، إذ العلامة ابن الصديق من أهل الضلاعة والتمكن في النحو، وأول مؤلفاته هو “تشييد المباني لتوضيح ما حوته المقدمة الآجرومية من الحقائق والمعاني”، ألفه وسنه دون العشرين، وقد طبع في مجلد في أكثر من 400 صفحة ضمن موسوعة أعماله.

وعموما، فإن لوقوف الشيخ الهبطي بُعدا بيداغوجيا تنظيميا أكثر منه تعليميا، لذلك عيّن للمغاربة خصوصا في قراءتهم الجماعية “أعيان الكلمات الصالحة للوقف، بغض النظر عن بيان تفاوت هذه الكلمات في جودة المعنى وما يقتضي ذلك من التمييز بين مراتب الوقف من حيث التمام والكفاية والحسن والقبح وغير ذلك مما هو من لوازم التجويد والترتيل للقرآن على غرار ما هو معلوم في المصاحف المطبوعة برواية حفص في الشرق الإسلامي”.

وما تطرقنا إليه من بعض الانتقادات الموجهة إلى وقف الهبطي يجب ألا تحجب عنا الحقائق الآتية:

الحقيقة الأولى: وقوف الشيخ الهبطي جزء مهم من مقومات الهوية الدينية للمغاربة، ومظهر من مظاهر تدينهم.

الحقيقة الثانية: عملُ الشيخ الهبطي في ذاته هو عمل إصلاحي جبار، وكان هدفه تنظيم القراءة وحسم الخلاف فيها والتفاوت بين القراء خصوصا في القراءة الجماعية.

الحقيقة الثالثة: الانتقادات التي وجهت إلى وقوف الهبطي لم تخَطّئه في كل وقوفه، بل وُجّهت إلى جزء يسير جدا منها، فانتقادات الإمام ابن الصديق ــ وإن لم يستوعب ــ أقل من الأربعين، ووقوف الإمام الهبطي تصل إلى 9945 وقفة، وهذا ما يفرض علينا أن نتعامل معها بمنطق إصلاحي لا بمنطق الهدم والنقض.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي