شارك المقال
  • تم النسخ

من مظاهر التدين المغربي: الحلقة (2) الاختيارات القرآنية

(1) رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق

عرف المغاربة قراءة نافع في فترة زمنية متقدمة جدا، تلقوها من مدرستين: شرقية وهي القيروان، وشمالية وهي قرطبة، ولعلهم ارتبطوا بالثانية أكثر من الأولى، وذلك من طريقين:

أولهما: رواية الغازي بن قيس (ت: قبل 199هـ) الذي رحل إلى المدينة وتلقى العلم عن كبار مشيختها، ومنهم الإمام مالك والإمام نافع، وذكر أبو عمرو الداني أنه أول من أدخل الموطأ وقراءة نافع إلى الأندلس، كُتبت في عهده مصاحف متعددة كانت عمدة اللاحقين ومرجعهم، وقد راجعها أبو عمرو الداني فوجد جميع ما أُثبت وقُيّد فيها موافقا لما أثبت وقُيد في مصاحف أهل المدينة، مما يدل على ضبط الغازي وتلاميذه والآخذين عنه.

ثانيهما: أبو عبد الله محمد بن وضاح القرطبي (ت:286هـ)، رحل إلى مصر وصحب أبا الأزهر عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم وهو من جلة أصحاب الإمام ورش، أخذ عنه، ومن وقته اعتمد الأندلسيون رواية ورش وتركوا ما اعتمدوه سابقا عن الغازي بن قيس.

ولعل ترسيم قراءة نافع بهذا الصقع الغربي من العالم الإسلامي لم يكن بفعل هذين العلَمَين فحسب، بل تعزز ذلك بأمرين اثنين:

الأول: الارتباط الوثيق بين الإمام مالك والإمام نافع، لذلك عمل مالكية الأندلس على الأخذ عن الرجلين، خصوصا ما صدر عن الإمام مالك من ثناء وإشادة بقراءة نافع.

الثاني: لم يكن ترسيم رواية ورش أمرا علميا خالصا، بل خالطته السياسة ونوازعها، لأن أمويي الأندلس كانوا مُصرّين على إحداث التمايز عن مظاهر التدين في الشرق العباسي، فقرروا اعتماد رواية ورش خلافا لرواية قالون المتبناة هناك، قال أبو بكر بن العربي: “ولما ظهرت الأموية على المغرب، وأرادت الانفراد عن العباسية، وجدت المغرب على مذهب الأوزاعي، فأقامت في قولها رسم السنة، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش [التي عرفها المجتمع مع ابن وضاح]، فحملت روايته، وألزم الناس بالمغرب حرف نافع ومذهب مالك، فجرَوا عليه وصاروا لا يتعدونه، وحمل حرف قالون إلى العراق، فهو فيه أشهر من ورش، وكذلك هو، فإن إسماعيل القاضي نوه بذكر قالون”.

ولم يكن إلزام الدولة المجتمعَ بالمذهب المالكي ورواية ورش عن نافع ــ حسب ابن العربي ــ بناء على أرجحيةٍ علمية أو مزية ذاتية، بل كان مجرد رد فعل لتنظيم المجتمع وتوحيده، لـ”أن الفتن لما ضربت رواقها، وتقالت العباسية والأموية، وبعدت أقطار الإسلام، وتعذر ضبطها بالنظام، وانتشرت الرعية، نفذ إلى هذه البلاد بعض الأموية، فألفى ها هنا عصبية فثاروا به، وأظهر الحق، وقال أحمي السنة، فلا فقه إلا فقه أهل المدينة، ولا قراءة إلا قراءتهم، فألزموا الناس العملَ بمذهب مالك، والقراءة على رواية نافع، ولم يمكنهم من النظر والتخيير في مقتضى الأدلة، متى خرج ذلك عن رأي أهل المدينة، وذلك لما رأوه من تعظيم مالك لسلفهم، ولما أرادوه من صرف قلوب الناس إليهم، في تعلقهم بسيرة حرم رسول الله دار نبوته ومقر سنته، فصار التقليد دينَهم، والاقتداء يقينهم”، وهكذا جعل ابن العربي سبب إلزام الأمويين بالأندلس بقراءة نافع هو صرف أنظارهم إلى الحكام باعتبارهم متعلقين بدار النبوة ومقر السنة، وليس بناء على النظر والتخيير في مقتضى الأدلة، بل إن ابن العربي ذهب إلى أبعد من هذا، حين قال بأصحية قراءات قرآنية أخرى مقارنة مع قراءة نافع، فقال: “أقوى القراءات سندا قراءة عاصم عن ابن عبد الرحمن عن علي، وعبد الله بن عامر، فما اجتمع رواة هؤلاء عليه فهو ثابت، وقراءة أبي جعفر [يزيد بن القعقاع] ثابتة صحيحة لا كلام فيها، وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهورا، ورأيت أمرها على اللغات، وخط المصحف مبينا”. وهذا الترجيح بين القراءات وإثبات الأصحية لبعضها دون بعض لم يصدر عن أبي بكر ابن العربي إلا لعدم اعتقاده تواترها، وبعد أن أورد نماذج وأمثلة من اختلافاتها، ذكر أنها اختلاف “لغات لا قراءات”، وأضاف أنه “لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإذا تأملتها رأيتها اختيارات مبنية على معان ولغات”.

لم يستسغ مفتي الأندلس أبو سعيد بن لب رأي ابن العربي هذا، وعدَّ مسألته هذه “قاصمة ليس لها عاصمة”، ونعته بالاضطراب والتناقض مقارنة مع ما قاله في مواضع أخرى من كتبه. 

قد لا يهمنا الآن مناقشة هذا الموضوع الدقيق، لكننا نقول بناء على ما سبق أن اعتماد الأندلسيين على رواية ورش عن نافع لم يكن اختيارا علميا محضا، ولم يكن إلزاما سياسيا بحتا، بل جمع بين الأمرين، وتُلقي بالقبول، وجرى به العمل واستقر عليه الإقراء والتدريس.

ونظرا للتأثر العلمي للمغرب الأقصى بالأندلس بفعل الرحلات العلمية أو الهجرات السكانية، فإن رواية ورش عن نافع وجدت طريقها إليه، خصوصا في الحواضر الكبرى كسبتة وغيرها، وهي المعتمدة في الإقراء والتدريس والصلوات المفروضة والنافلة والقراءة الجماعية في المساجد أو المناسبات، بل حتى في التأليف، فإن علماء المغرب الذين ألفوا في التفسير أو الفقه لم يعتمدوا في مصنفاتهم إلا رواية ورش عن نافع، وإن كانوا ينفتحون على القراءات الأخرى لمزيد من الشرح والبيان، أو اعتمادا عليها في التفريع الفقهي، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض.

واعتنى المغاربة أيضا بقراءة نافع من جهة إفرادها بالنظم أو التأليف، مثل منظومة البارع في قراءة نافع للنحوي الشهير أبي عبد الله ابن آجروم (ت:723هـ)، ومنظومة الدرر اللوامع في قراءة نافع لأبي الحسن ابن بري التازي (ت:731هـ)، وعلى هذه المنظومة شروح مغربية عديدة، بل كان لها الأثر في الديار الأندلسية شمالا، وقد شرحها أبو عبد الله المنتوري الغرناطي (ت:834هـ) ، وشرحها أبو عبد الله الشريشي الشهير بالخراز (ت:718هـ) في كتابه الموسوم بـ”القصد النافع لبغية الناشئ والبارع على الدرر اللوامع في مقرئ الإمام نافع”، ولعله أول شرح للمنظومة، لأن الشارح توفي في حياة الناظم. ومن شروحها المغربية المتأخرة “التوضيح والبيان في مقرأ نافع المدني بن عبد الرحمن” لإدريس بن عبد الله البدراوي الفاسي (ت:1257هـ) ، و”إتحاف الطالب القانع بفهم النظم المسمى بالدرر اللوامع” لشيخ الجماعة بمكناس محمد بن الحسن العرائشي (ت:1351هـ).

وقد ترتب عن هذه العناية المغربية المتعددة الأوجه والمتواصلة عبر الزمن برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق عدة آثار، منها أن قراءة نافع لم يعد لها وجود إلا في المغرب وما يجاوره مما كان يعدّ امتدادا له ولمشيخته، ولم يعد لها وجود بين أهل المدينة المنورة موطن الإمام نافع وبلده إلا عند المتخصصين في القراءات. كما أن رواية ورش لم يعد لها وجود إلا في الديار المغربية، ومصر موطنُ الإمام ورشٍ خِلْوٌ منها بعد أن كانت هي القراءة الشائعة هناك، وانقطعت قراءة نافع ورواياتها وطرقها قراءةً وتأليفا في أقطار العالم كله منذ قرون عديدة، وحافظ عليها المغاربة إلى يومنا هذا، وقد لا نبالغ إن قلنا بأن من أراد ضبط قراءة نافع في العالم بأسره اليوم ليس له بد من الاعتماد على مؤلفات المغاربة التي أحصت كل صغيرة وكبيرة عن هذه القراءة.

وما زال المغاربة مهتمين بالتأليف في هذا المجال متفردين بذلك، ونذكر من المعاصرين كتاب “الدليل الأوفق إلى رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق”، للشيوخ المقرئين مصطفى البحياوي وعبد الهادي حميتو وعبد العزيز العمراوي، وكتاب “ما جرى به العمل عند المغاربة في رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق أداء ورسما” للعلامة المقرئ عبد العلي المسؤول. 

ورواية ورش عن نافع لم تبق حبيسة قراءة القرآن فحسب، بل تشبعها المجتمع المغربي وصارت مكونا رئيسا من مكونات الهوية والخصوصية المغربية، لدرجة أن المغاربة لا يتلفظون في لسانهم الدارج بكلمتي “الذئب” أو “المؤمن” بالهمز، بل ينطقونهما بدونها، فيقولون: “الذيب” و”المومن”، وحتى أسماء أبنائهم “عبد المومن”، وما هذا التخفيف إلا أثر من آثار القراءة القرآنية المعهودة عندهم والمترسخة في شعورهم ووجدانهم.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي