شارك المقال
  • تم النسخ

من أزمة المعنى إلى سياسات الكتابة: الحاجة إلى الشعر

ضد الإجماع الكاذب

ثمة سؤال أمسى مع الوقت «فِرْية» تُشيعها تداوليةٌ مُعممةٌ بشكل لا يطاق: ما جدوى الشعر؟ لا نعمى عن الوضع المعقد، الذي يعيشه الشعر العربي راهنا، وما يستتبعه من ارتباك معايير الكتابة وأسئلة النقد وتباعد الفجوة بين السائد والمأمول، داخل الأفق المعولم، الذي تمارسه التقنية. لكن سؤال الجدوى ينبغي أن لا يُطرح كما طُرح قبل عقود، في سياقات تاريخية وسياسية وثقافية مختلفة، وإلا أخذنا الشعر إلى ما ليس له أو منه؛ أي نبحث له عن دور جماهيري، أو بالأحرى يُبْحث له عن مثل هذا الدور من طرف حوارييه المنتفعين به، ولا وهم التمثيل والمحاكاة، ولا عن خطاباتٍ تُعزز الإجماع الكاذب.

يبدو أن المشكل الحقيقي للشعر هو مشكل تاريخيته؛ أي اختزال الشعر إلى تاريخه، وما شهده فيه من حركات تجديد وسجالات بين القدماء والمحدثين وهجرات أمكنته الواقعية والمتخيلة، بحثا عن أفق مغاير، بل الأهم هو ماذا يبقى بعد أن تهدأ الآلة: الحركة التي ما تزال تومض من ثنيات الشعر وتحمله على أن يكون بمثابة الراهنية الدائمة لِلُغته الخاصة التي تعِدُ بالمعنى، وتستأنفه في عصور اللامعنى أو ضياع المعنى، هو «أعز ما يُطلب» وما يبقى.

من هنا، ينبغي أن يُستبدل بسؤال الجدوى الذي يكرس حالة الطمأنينة، سؤال القيمة والأثر. هو ذا أفق تُراقبه سياسات الشعر داخل لحظات كثيفة ومتباعدة، من ذات إلى ذات؛ لأن به يتشكل معنى الراهنية، التي تترك القيمة والأثر في حالة اشتغال واندفاعٍ وتيقظ. ففي كل لحظةٍ يصير فيها المعنى ملفوظا منتهيا، يتحرك داخل الأفق. بعد عقود طويلة، جرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسر الشعر العربي، والحداثة الشعرية لم تعد «ماركة مسجلة» في سجلات المراكز التقليدية، بل همت الأطراف أكثر فأكثر وتناثر دمها في القبائل. وخلال هذا المسير الشاق، كان موضوع الأزمة جزءا من حركة الشعر، قياسا إلى ازدياد وعي الشاعر الحديث وعلاقاته وأدوات عمله، وإلى تأثيرات السياسة والفن والمجتمع على جُماع كل ذلك. كان للوعي التنظيري والجمالي سياق الحداثات الناشئة باستمرار، ما فيه اعتبار وهو يتخفف من أعباء المعايير الناجزة، وتضيء على مسرح التاريخ أصوات مُعذبيه ومهزوميه ومغتربيه الجوالين الهائمين، الذين يقتفون آثار عوليس والسندباد، وينقلنا، بغير قليلٍ من الحلم والاحتجاج والسأم والباروديا، إلى المنافي والسجون والغرف المغلقة والعواصم الباردة، التي تذوب في التاريخ، مُتطلعا داخل جماليات الانشقاق والتقويض إلى كتابة نص العصيان، ومُسْتأنسا بعزلته ضد «المعيار» وضد «الذاكرة» بل ضد «الأسلوب» الذي لم يعد ضربا من تأليف اللغة الشعرية وتنميقها بهذا الشكل أو ذاك، بل أمسى في جوهره تعبيرا سياسيا لاواعيا عن أزمة حضارة وأزمة معنى.

كانت قصيدة النثر تُحرك أفقها الخاص بها؛ أفقا كان يُرى من منظور بعيد وغائم تغتني خلفيته بأشياء وتعابير وحكايات وأساطير جديدة ومفارقة، ولهذا خلقت حالة اغتراب عظمى داخل ثقافتنا الشعرية إلى اليوم، وما تزال إلى اليوم سلطة الماضي وذائقته الجمالية المخفورة بقاموس لا يستهان من الضبط والانتظام ورسم الحدود.

وعلى الرغم من انحسار الجدل الشكلاني حول قصيدة النثر، الذي حرم زمن الشعر العربي وقتا رائعا من التحليق الحُر، وشغل النقاد والدارسين بسجالات أكثرها غير ذي شأن بالنسبة إلى اللحظة الحضارية، التي كان من المفترض أن الشعراء قد هجسوا بها وانتصروا لها في حدوساتهم، وصيغ حضورهم في العالم، إلا أن هذه القصيدة بين «اللاشكل» و«مسوخات الأشكال» أخذت تواجه أفقها بما يناقضه، ضمن «حرب استنزاف تجريبية».

على حواف الهاوية

فقد أسهم التركيز على الدال في التيه والعصيان، وإشاعة «الغموض» في كثير من نماذج هذه القصيدة النثر، في أن يخلق تشويشا مزمنا على أفق انتظار الذائقة وأطرها المترسمة؛ نتيجة عطالة الدلالة، أو هدم العلاقة بين دل وفهم، بحيث لم تعد الأدلة تُحيل على مرجع أكثر مما صارت تنتقل في سلسلةٍ من الدوال لا تنتهي.

لم يكن الأمر متعلقا بدائرة التلقي وحسب، بل بالتغير الكلي للرؤية الشعرية وأفق اشتغالها كخطاب.
زمنيا ـ بدأت الهاوية تأخذ إليها الشعر منذ سنوات السبعينيات، التي أخفقت في أن تخرج من «عنق زجاجة» الأزمة الوجودية التي تسببت فيها حوادث العقود السابقة، وخطاب المعنى الأحادي الذي لازمها.

كانت ثمة في الأفق مساعي إنقاذ، لكن يظهر أن عدم رضا الشعراء بواقعهم الراكد، بل خيبة أملهم القاسية أمام احتراق أيقونات «البعث» الرمزية، قد قاد إلى بروز «لا شعور سياسي» تسنده مرجعيات جديدة في الكتابة هي خليط بين مغامرة البحث واللاشكل والعدمية والجنون والهذيان. وجدت القصيدة نفسها تلعب في تجربة الحدود وتتسلى معها، خارج شرائط القيمة والوظيفة، ومعايير الكتابة نفسها؛ فلم يعد يستهويها الحدث وأخذت تُكتب في شكل نص كُـلياني، مُتعالٍ ومُفارق للتجربة التاريخية والواقع الإنساني.

من هذه اللحظة التي اختلطت فيها الآفاق بعضها ببعض، في أعقاب فشل المشروع الثوري والنهضوي، وتشرذم الكيانات السياسية الوطنية، وانطفاء روح العقل والنقد والسجال، والمَيْتات المتقاربة لعدد من الرواد البارزين، وتغول الرواية ورديفتها الدراما التلفزيونية من بؤس التاريخ، وهيمنة وسائط الميديا وقَلْبها لمفاهيم الإنتاج والتلقي في الأدب وغير الأدب، بدا أن «مؤسسة» الشعر تململت جذريا، وباتت رمزيتها تتآكل في المخيال الجمعي، بل قُلْ إن «دفاتر تحملها» احترقت أمام التاريخ والمجتمع واللغة.

أنا من جيلٍ وُلِد على هامش «مؤسسة» الشعر، وفي زمننا أخذت صناعات التجريب الإستيطيقي تعيد ترتيب أولويات الدال النصي ومراتب تنزيله، بعد أن شهدت تراجُعا في الشعر بسبب خفوت صوت الشعراء السياسي وأدوارهم المرجأة باستمرار، وقد مثل ذلك فرصة الإعلام السانحة حتى تمتلئ الأفواه بحديث الأزمة، أزمة المعنى تحديدا، ثُم أخذ الصراع، تدريجيا، يتحول إلى الداخل، أي من صراع سياسي وأيديولوجي مبرر إلى صراع شعري ـ شعري محتقن ضاق معه فضاء القصيدة إلى شِيَعٍ واصطفافيين وتقليدانيين حينا، ودخلاء ملتقطة حينا آخر.

الحق في الشعر

فيما قلة اعتزلوا هذا الصراع «الكاووسي» وثمنوا نداء عزلاتهم الباهظة في الشعر وعبره، واعتكفوا على مشروع المغامرة الخاصة، وندائها المترائي من أمكنة بعيدة، لاسيما مع تزايد الاهتمام بالوسائط الافتراضية، التي أخذت تستقطب إلى أرض الشعر حتى مَنْ هُـمْ خارج الشعر.

لنقُلْ إن الحديث عن الشعر أصبح اليوم أكثر من الشعر نفسه، وهو حديث أكثره غير ذي شأن؛ لأنه أخذ يبتعد عن الجوهري والإشكالي، بقدر ما يلتذ باستغراقه الطويل في الشكْليات والتجميلات والمزايدات، مع ذلك، ثمة سياسة لا تخطئ موعدها الشاق والدائم مع الشعر، وهي بمثابة الحركة التي تهجع في رحم الكتابة، التي نهتدي بها إلى تلك اليوتوبيا في ليل الذات؛ المحبرة الأكثر تقشفا وسخاء، وعرامة في صمتها كذلك. وإذا كان زمننا منذورا للتباريح والعذابات، بما في ذلك عذاب فلسطين، فإن الأزمة هي الشرط نفسه للمعنى وهو يتخلق باستمرار ـ إنْ ذاتيا أو جمعيا؛ لأنه عندما يتوقف المعنى يصير الشعر ملفوظا مُنْتهيا، ولا حاجة للشعر إلى الشعر.

ما يزال الشعر على مضمار الإنسانية، وهو يعرض بطريقتها المُميزة علاقته الخاصة مع شركاء الإنقاذ، ويتقوى هذا الرهان عندما يُنظر إلى الشعر بوصفه عملا فنيا مفتوحا على كل الاحتمالات، على المجهول. وعليه، فليس الرهانُ شعريا فحسب، بل هو سياسي. وإذن، ثمة جدوى تتقد في كُل كتابة تنزع إلى مثل هذا الرهان، حتى وهي تتحرك بلا معنى أَصْلا، ولا كذلك. فالكتابة الشعرية بوصفها خطابا هي، في نهاية التحليل، تاريخية ليس لأنها تحمل تاريخها وحسب، بل ومكانها وعبورها للأزمنة والثقافات والهويات على غير رسو. فقط الشعر دائم الإصغاء إلى زمنه وشرطه الإنساني، وكان للشعراء في قصائدهم نبل المهام الملقاة على عاتقهم حتى في الأوقات العصيبة من نبذهم وتهميشهم، ومن تلف المشترك الإنساني كذلك، داخل عولمة العماء المذعور.

من ذات إلى ذات، يمكن أن نُصْغي إلى حياتنا المغدورة، وأن نعيد الأمور إلى مكانتها في زمن يقل فيه ضوء الشعر لصالح التقنية التي تُروجها وسائط الميديا وأدعياؤها بالوكالة ويُعممونها داخل عالم سادر في ماديته الشرهة؛ حيث بالكاد يصل صوت الشعر الأجش والمبحوح. وأما الذين يربطون الشعر بحالة الطمأنينة وبلوغ الخلاص، إنما يتحاملون على الشعر، ويُكرسون فَهْم العامة له كشيء ساذج، نفعي وآني. قُـوة الشعر في هشاشته التي لا تُزهر إلا في العتمة، وفي مواعيده اللامتوقعة، التي تودع في الشقوق بستانا من الأمل، وتترك لتصدعات الروح أن تتكلم زمنها بفرح، غيرَ آبهةٍ بقهقهات البرابرة. وقد يستغرق التغيير الذي ينشده الشعر أمدا طويلا، فهو ليس موظفا في مصلحة المستعجلات، ولا تعنيه الإملاءات من خارج. إنه ابن داخله وسمي جنسه الذي يتدفق بأنهار الفقدان، ووليد لحظته التي اختلسها من السفر اللامرئي، وهو ينطق بأسمائنا ونواقصنا وشفافيتنا الهائلة، ويعبر أشياءنا المتناثرة حولنا ويبث فيها شعلة الجوهر، من غير أن ننتبه عادة إلى ذلك. وإذن، فليس بوسع أحد من الشعراء أن يدعي بأنه سينقذ أو يغير العالم، فإن أقصى ما يطمح إليه الشعر هو أن يغير نظرتنا المتراخية للعالم، ويؤنسن العلاقات بيننا وبين الكائنات، ويجدد صلاتنا مع أشياء في غاية البساطة لكنها ضرورية بالنسبة إلينا وإلى وجودنا الإنساني؛ ذلك ما يرسخ اقتناعي بقيمة الشعر وضرورته في آن.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي