شارك المقال
  • تم النسخ

علي الإدريسي يكتب: منطقة المغرب الكبير إلى أين؟ هل عادت أقطار المغرب إلى عصر البايات؟ 

طرح الأستاذ عبد اللطيف الحناشي الباحث والمؤرخ التونسي سؤالا استفهاميا في جريدة القدس العربي، بصيغة استنكارية عن تحالف أنظمة الجزائر وتونس وطرابلس (وهي بايات عثمانية قديمة) ضد المغرب، وقد تم توقيع ذلك التحالف على هامش اجتماع الجزائر حول الغاز في اليومين الأوليين من شهر مارس 2024. وتم استبعاد المغرب وموريتانيا من عضوية هذا الحلف؛ ونظر إليه الملاحظون كبديل عن “الاتحاد المغاربي” المقبور بدون قبر، وبدون جنازة رسمية لدفن معاهدته الموقعة في مراكش سنة 1989.

 وحاول الكاتب الصحفي التونسي نزار بولحية أن يجيب في الجريدة نفسها، بتاريخ 5 مارس 2024، عن سؤال هذا التحالف الثلاثي الجديد باستحضار اعتراف بومدين ذات يوم بأنه وضع حجرا صغيرا في حذاء المغرب، إشارة إلى احتضان نظامه جبهة البوليساريو الانفصالية. واليوم يرى السيد نزار بولحية أن النظام الوريث لحذاء بومدين الصغير ربما يكون قد قرر أن يضع حجرا أكبر في حذاء المغرب باسم هذا التحالف؛ خاصة أن وضع هذا الحجر تزامن مع ما أعلن عنه نظام “الجزائر الجديدة” بتبنيه المطلق لحجر بومدين القديم فحسب، بل قرر لأن يُكبّر حجم الحجر بفتح “تمثيلية الريف” في الجزائر العاصمة، كخطوة ثانية لعرقلة حركة الدولة المغربية المنغّصة لطموحات النظام الجزائري الهادفة إلى أضعاف المغرب، وتمزيقه، وتقزيمه، إرضاء لأوهام قيادته للمنطقة. إنه منطق من لا يفرق بين أضغاث أحلامه وأماني إعلامه، وبين الواقع.

   نعتقد بأن طموحات نظام “الجزائر الجديدة” في منظار السيد نزار بولحية قد لا يكون فشلها أقل من فشل وضْع حجر بومدين الصغير، لأن دولة المغرب “تملك أكثر من حذاء قد يسمح لها بالتحرك بأريحية تامة” لإفشال الحجر الكبير للجزائر الجيدة. ومن ثمة سيكون الجاران للجزائر (تونس وطرابلس) أكبر متضررين من الحجر الكبير للجزائر الجديدة.

 أفق التحالف الثلاثي في المستقبل أم في الماضي؟

   يبدو أن طموحات النظام السياسي لحكام “الجزائر الجديدة” والغباء السياسي لأنظمة أخرى في المنطقة، وانعدام الرؤى الاستشرافية لما يمكن أن تؤول إليه الأمور ضمن هذا الحال، يؤكد عدم استماع أصحاب القرار النافذين إلى كلام عقلاء شمال إفريقيا وحكمائها وهم كثر في مختلف الميادين والمجالات، كما يؤكد التنكر لعمل رواد حركات التحرير المغاربية، الذي لخصته أنشودة “شمال إفريقيا يبغي الاتحاد”؛ الأنشودة التي عبرت عن أحد أهداف ملحمة “أنوال” في الريف بالمغرب، صاغها حزب “نجم شمال إفريقيا”، الذي عزم على أن يكون امتدادا سياسيا لأنوال، يقول مطلعها، حسب ذاكرتي:

“حيوا الشمال الإفريقي يا شباب، هذا الشمال يبغي الاتحاد”

   اعتقدنا  نحن المغاربيون الأحرار التواقون إلى التوافق والاتحاد بأن زمن التشرذم قد ولى، وأن عصر الامتثال لغريزة الأنا القائد الأعظم قد تجاوزه وعي المغاربيين، ورموا به في أقبية الماضي السحيق، والماضي، كما هو معلوم، لن يكون له رصيف تبحر منه سفن الشعوب والأمم إلى المستقبل الأفضل؛ فهل نترحم على زمن الاستعمار الذي كان فيه سكان شمال إفريقيا يتنقلون، مثلا، عبر أقطارهم بالقطار من الدار البيضاء إلى تونس، وهل يجب علينا أن نلعن الحركات التحريرية التي طالبت باستقلال شمال إفريقيا، ونجرّم أصحاب انشودة “الشمال الإفريقي يبغي الاتحاد”؟

وهل عادت أنظمة حكمنا إلى ثقافة زمن “ما بعد الموحدين” الذي يجعلنا نخجل من ذِكر الذين صنعوا أنوال في 1921، وأول نوفمبر 1954 وعشرين غشت 1956 وامتزاج دماء المغاربة والجزائريين في مواجهة الاستعمار، وكذا ضحايا غار ديماو 1958، ونلعن تلاحم ليبيا وتونس والمغرب مع جيش التحرير الجزائري لتحرير بلده؟

إن مصطلح “إنسان ما بعد الموحدين” نحته المفكر مالك بن نبي الجزائري، كتلخيص لفقدان الفاعلية لدى الأنظمة السياسية التي خلفت سقوط دولة الموحدين؛ وأمست السياسة عندها هي الامتثال للغرائز والأهواء، والرغبات الهوجاء، والنعرات البلهاء، قبل أن يستولي العثمانيون / الأتراك على الجزائر وتونس وليبيا، منذ القرن السادس عشر الميلادي بنظام البايات، التي لم تكن لها فاعلية في أشياء كثيرة إلاّ في محاصرة المغرب، الرافض للسلطة العثمانية. وعُزل المغرب كذلك عن جيرانه الأوروبيين في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط لأسباب تاريخية ودينية.

  مما لا شك فيه أن الأنظمة السياسية الثلاثة المتحالفة تكون قد ورثت قاعدة الاستعمار القديمة الجديدة، القائمة على منهج “فرّق تسد”، مدعّمة بإحياء الثقافة السياسية والأخلاقية المعروفة في زمن ما بعد الموحدين، التي أدت إلى إقبار إرث الموحدين، بتمزيق رسالتهم التوحيدية، وإحداث الضغائن بين مجتمعات هذا الشمال الإفريقي. الأمر الذي جعلها عاجزة حينها عن الذود على نفسها أمام الغزاة؛ وها هي اليوم أقطار الشمال الإفريقي تعيد صنع ذلك الماضي، وتلك الثقافة السياسية في علاقاتها البينية والمشتركة، لأن أصحاب السلطة والنفود فيها لا يتعظون من وقائع التاريخ؛ لأن استحضار التاريخ الحقيقي قد يزعجهم ويفسد عليهم شعور مركزيتهم المتخيلة للمنطقة المسيطر على مخيالهم السلطوي.

محاولة لإحياء سياسة زمن البايات على المغرب؟  

 التاريخ الحقيقي يتحرك تحو المستقبل، والمستقبل بِناء، وتطور، وتغيير اجتماعي نحو الأفضل. ولا يوحد عاقل يؤمن، أو يعتقد مجرد اعتقاد بأن التاريخ هو خطوة أو خطوات للرجوع إلى الوراء. غير أن العقل السياسي لأنظمة التحالف الجديد في المنطقة (الجزائر وتونس وطرابلس) يؤكد أنه لا يملك رؤية مستقبلية لعلاقته مع المغرب إلا الاستنجاد بما حصل في زمن البايات من حصار عدائي للمغرب، هذا المغرب الذي يعده شعار شبه رسمي للنظام الجزائري بأنه “جار السوء”. ويرفض متزعم تحالف البايات الجدد كل المحاولات الدبلوماسية، والنداءات الإنسانية، التي تدعو وتقترح إيجاد حل للمشكلات التي كانوا وراء استفحاها، من أجل تجاوز الانسداد الحاصل في المنطقة المغاربية الحالية. وبدلا عن ذلك يسعى المتزعم إلى وضع حجر في حذاء تواصل الشعوب التي تجمعهم قواسم مشتركة كثيرة، حجر أخطر من الحجر الذي وضعه نظام بومدين في حذاء المغرب.

   لكن ما غاب عن هؤلاء البايات أن زمن عزل المغرب عن محيطه قد ولى، وتمزيق شعبه بصناعة كيانات انفصالية بين مكوناته الاجتماعية، هي مجرد تكهن وهمي للمصابين بعقدة أنا القوّة العظمى الضاربة في المنطقة؛ لأن المتكهن المؤمن بالوهم يصعب عليه أن يدرك أن لمغرب اليوم رؤية تتجاوز عصر البايات بقرون، سواء من خلال علاقات المغرب المتينة بمحيطه العربي المدِعِّم بقوة لوحدة التراب المغربي، أو تعميق وروابطه بمحيطه الأوروبي بمنطق رابح – رابح، وبمشروعه الأطلسي والإفريقي، ذات الفوائد الاقتصادية للجميع، وبتوظيف رؤيته الدبلوماسية والاقتصادية مع كل دول العالم، شرقا وغربا بمنهج براغماتي ناجع.

 إن الذين استغربوا، ويستغربون، تحالف البايات الجدد، ويتعجبون من أنظمة سياسية، تنسب إلى الزمن الفزيائي للقرن الواحد والعشرين، ولكنها سياسيا وثقافيا لا تزال تقبع في زمن ما بعد الموحدين؛ لا يجب عل ى المستغربين أو المتعجبين أن يعتقدوا بغياب الحكماء في شمال إفريقيا، أو أنهم قلة قليلة ضعيفة. الأمر ليس كذلك، لأن الواقع السياسي المعيش يؤكد أن أهل الرأي السديد والحكمة لا تنظر إليهم السلطات السياسية في المنطقة كنخب ينتفع بآرائهم، أو تستفيد منهم كمستشارين، أو أهل خبرة وحكمة تشارك في توجيه السلطات نحو الصواب النافع للجميع، بل عليهم أن يعرفوا أن أنظمتنا السياسية لا تعترف إلا بأهل القوة والنفوذ، طبقا لمقولة قديمة، جديدة: “من لا سلطة له لا رأي له”.

*مونتريال في 9 مارس 2024

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي