شارك المقال
  • تم النسخ

تحولات المفاهيم الأخلاقية ودور التسامح في بناء النظام الأخلاقي العالمي

*بحث ألقي في أشغال المائدة المستديرة للأساتذة العرب في الجامعات والمعاهد العليا داخل الوطن العربي وخارجه في دورتها السادسة عشر  حول موضوع : (( القيم الأخلاقية والمتغيرات الدولية )) ، طرابلس 23- 28 يوليوز 2006.

يحمل مفهوم الأخلاق دلالة على مجموعة من المبادئ والقيم ، والقواعد العامة التي تؤطر السلوك البشري داخل المجتمعات ، بهدف الوصول إلى ما يعتقد أنه الخير ، وتجنب ما ينظر إليه أنه يعكس الشر . وتتمثل غاية الأخلاق في السعي إلى بناء علاقات اجتماعية بين البشر، وتحصين الإنسانية بجدار صلب يحافظ على التماسك الاجتماعي رغم الاختلافات والتناقضات داخل المجتمعات البشرية الواحدة ، وبينها وبين نظيرتها في المجتمعات الأخرى [1] . ونظرا لاستناد الأخلاق على مرجعيات ذات حدود فاصلة بين الخير والشر، وارتكازها على معايير خاصة تحددها جملة من السلوكات والأفعال والآثار المتصلة بالفرد والجماعة، فإنها تشكل بهذا الاعتبار النظري وعيا بموقف مبدع تنتظم آثاره بحسب اتساقها الخاص [2] . ويذهب بعض الباحثين إلى القول بفطرية الأخلاق وارتباطها بالكينونة البشرية ، لكنها في حاجة إلى من يوقظها ، وتلك هي عين الحكمة التي بعث الله من أجل تحقيقها الرسل لإزالة الغشاوة عن النور الفطري الذي أودعه الله في الإنسان [3] .

    وإذا كانت هذه المفاهيم تشكل القاعدة الأصلية للأخلاق ، فإن ما عرفه المجتمع البشري من تطورات حرّكها تصادم المصالح  السياسية والاقتصادية ، جعل العالم ينحو منحى خطيرا خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن ، ولا غرو فقد أصبحت المجموعة البشرية غارقة في أوحال أزمة أخلاقية واضحة المعالم ، وتردى السلوك الفردي والجماعي إلى أسفل درجة في ظل ما يعرف بالعولمة التي انعدمت فيها القيم الإنسانية النبيلة وحلت محلها (( نزعات عدمية عابثة حولت المشهد الدولي إلى ساحة كره وعداء وغابة صراع واقتتال )) [4] ، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى مراجعة المشهد الأخلاقي العالمي الحالي، والدعوة إلى إعادة تخليق الحياة العامة بين الشعوب على أساس مبدأ القبول بالآخر ، والتعايش معه والتعاون من أجل تحقيق المصالح والمنافع المشتركة وتبادل مشاعر المودة والإخاء [5] .

   وقد عرف هذا المشهد الأخلاقي العالمي المتأزم تصاعدا خطيرا بعد أحداث 11 سبتمبر الدامية ، التي نتج عنها تغيرات عميقة في المفاهيم الأخلاقية ، فصارت الفضيلة “جريمة ” والخيانة “وطنية ” ، وتحول مفهوم الجهاد ومقاومة المستعمر إلى ” إرهاب ” ، وأصبح الباطل “حقا ” ، وتحول مصدر تشريع الأخلاق ووضع معاييرها إلى الغرب على يد أعتى قوة في العالم وهي أمريكا التي أصبح من حقها تصنيف محور الخير والشر بحسب ما يتماشى مع مصالحها السياسية والاقتصادية .

   إن هذه المفاهيم الجديدة للأخلاق وكيفية تجاوز احتكار صياغتها من قبل الغرب ، تشكل الإشكالية الأساسية التي تطرحها هذه الورقة ، أو بتعبير آخر فإننا نسعى إلى نقد هذا التصور الأخلاقي المبني على أساس التفوق التكنولوجي والعسكري ، وتقديم التسامح كفضيلة أخلاقية نرى أنها ستكون البديل الناجع لبناء ثقافة أخلاقية إنسانية مشتركة بعيدة عن التسلط والهيمنة والوصاية.

         1 تحولات المفاهيم الأخلاقية بعد أحداث 11 سبتمبر:

         1- العولمة وتسييس الأخلاق

     إذا كان الدين يشكل مصدرا للأخلاق ، وهو ما دافع عنه الفيلسوفان الكبيران أوغسطيس وتوماس الأكويني مستندين على أصلين أساسيين وهما الإيمان بالله وإرادة الله [6] ، فإن تدخل السياسة في الأخلاق أو ما يسمى بتسييس الأخلاق دمغت معظم فترات التاريخ البشري ، يشهد على ذلك دفاع ميكيافيلي المستميت في جل كتاباته عن أطروحته المتمثلة في أن على السياسي أن يتصرف دوما كما لو أن البشر كانوا على الدوام خبثاء ، وأن الحرب هي مهنة الحكام التي تحولهم إلى أشرار[7] ، وهو ما دعّمه أيضا الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل في كتابه ” الأخلاق والسياسة ”  حيث قال : (( إن القيم الأخلاقية خلال التاريخ المكتوب كله كان لها مصدران مختلفان تماما ، إحداهما سياسي والآخر ديني )) [8]. وفي نفس السياق خلص ريمون بولان إلى القول أن (( الأخلاق بدون سياسة وهم أو نقص يدع الإنسان الذي يعيش في المجتمع أعزل أو ضائعا متخبطا )) [9] .

            ومع ظهور العولمة ، أصبحت وتيرة تسييس الأخلاق تسير بإيقاع سريع بسبب بروز مجموعة منالمعطيات نذكر منها :

  1. تداخل المحلي والعالمي حيث أصبحت القضايا الداخلية الوطنية – بما في ذلك العادات والأخلاق – قضايا عالمية . كما أصبحت القضايا العالمية ذاتها قضايا داخلية تمس توجهات الأمة وخصوصيتها. ومن ثم بات بديهيا أن تتأثر الخصوصيات الأخلاقية لأي بلد من هذا التقاطع الذي حصل بين المحلي والعالمي .
  2. لم تعد التوجهات القطرية ملكا لأصحابها ، بل صارت رهينة أساطين النظام العالمي الجديد الذي أصبح يراقب كل ما يمس مصالحه ، وله حساباته الخاصة التي قد لا تلتقي مع ما هو وطني .
  3. انحسار فرص المحافظة على التنوع الثقافي وتآكل المساحات الوطنية التي توفر لهذا التنوع قوة استمراره بسبب هيمنة ثقافة الغرب ، وخاصة الولايات المتحدة على العالم ، والسعي إلى فرض هيمنتها عليه [10] .
  4. انفراد النظام القيمي للحضارة الغربية بعد انتهاء الحرب الباردة بتمام الهيمنة والتأثير على الصعيد العالمي ، وإن كان الواقع يثبت أن النظام القيمي الأخلاقي الغربي كان قد بدأ منذ القرن 19 ، إذ سبق لماكس فيبر (1864-1920) أن بشر بنظريته المشهورة حول الخصائص المميزة للحضارة الغربية وتفوقها على الحضارات الأخرى ، و لا يزال كتابه ” الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ” يثير الكثير من الجدل . ولم تفقد أطروحته بريقها حتى بعد ظهور النظام العالمي الجديد ، لا بل اكتست أبعادا جديدة من خلال آخر صيحات بعض المنظرين المعاصرين من أمثال فوكوياما وهنتجتون في أن الحضارة الغربية هي الوحيدة التي تحمل قيما يمكن أن تكون أساسا للعقلانية الحديثة التي أسست العلم الحديث والرأسمالية والديموقراطية وحقوق الإنسان ، وأن القيم الأخلاقية في الحضارات غير الغربية لا توفر الظرفية الملائمة لظهور حقوق الإنسان فيها [11] .
  5. – يضاف إلى ذلك ما أفرزته العولمة من ثورة تكنولوجية في عالم الإعلام والاتصال إذ أصبح العالم قرية واحدة ، انعدمت فيها الحدود التقليدية وكل أشكال الرقابة[12] ، مما أسفر عن نتيجتين خطيرتين على مستوى الأخلاق الإسلامية :

أ – اختراق وسائل الاتصال لكل التحصينات الأخلاقية عبر شبكة الإنترنت والقنوات الفضائية ووسائل الاتصال المتطورة ، مما جعل الأخلاق الإسلامية عرضة للتغيرات والاختراقات الخطيرة .

ب – استغلال وسائل الإعلام الغربية المتقدمة لتشويه صورة أخلاق العالم الإسلامي ، وإظهاره بمظهر المتخلف أخلاقيا .

           تأسيا على هذه المعطيات ، فإن الثقافة الأخلاقية المحلية بدأت تهتز تحت ضربات معول السياسة الغربية المستأسدة ، مما يعني أن العولمة صارت تدك قلاع الأخلاقية الإسلامية وتسعى إلى اختراقها وتغيير مفاهيمها بما يتناسب مع مصالحها السياسية والاقتصادية .

         2– التأثير السلبي للسياسة الدولية علىالأخلاق بعد أحداث 11 سبتمبر :

         أ- الكراهية والعنف :

           لا يختلف اثنان في النتائج السلبية التي تمخضت عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، خاصة على العالم الإسلامي الذي صار عرضة للمزيد من الضغوطات والتكالب من كل الجهات ، وبدأت الأوساط اليمينية في الغرب عموما وأمريكا وإسرائيل خصوصا تشهر في وضح النهار حملات عدائية ضد الإسلام والمسلمين ، وتتهمهم بالإرهاب ونشر الحقد والكراهية . ولاغرو فقد وجدت تلك الأوساط المناخ المناسب لإيقاظ الحروب الصليبية، والعثور على عدو مزعوم ، والترويج لما يسمى بالصدام الحتمي بين الحضارات ، في تنكر سافر لما جاءت به الشرائع السماوية من فضائل الأخلاق والتعارف والتعايش والتنوع الثقافي للبشرية [13] .

           ومنذ اندلاع تلك الأحداث ، تكونت نظرة الغرب الدونية للعالم العربي – الإسلامي فأخذت وسائل إعلامه تصور الرجل العربي على شاكلة البدوي المتطرف ، الميال إلى الغزو والغارة والإرهاب ، وأن قيم الإسلام هي أشد القيم مخالفة لقيم الحضارة الغربية . وباختصار ، لم تعد الأخلاق بعد 11 سبتمبر مسألة سلوكية ، بل وسيلة يلجأ إليها الغرب للحط من قيم العالم الإسلامي ، وتحقيق مصالحه الخاصة ، حتى ولو كان ذلك على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية المتعارف عليها . وفي هذا الإطار ، دخلت الولايات المتحدة في حربين غير أخلاقيتين في كل من أفغانستان والعراق ، خاصة الحرب الأخيرة في العراق ، وهي حرب قذرة لا تستند على أي أساس شرعي . وحسبنا أن الولايات المتحدة حشرت أنفها فيها تحت غطاء أكبر أكذوبة في هذا القرن ستظل بصمتها وصمة عار في سجل انتهاك المبادئ الخلقية ، ألا وهي أكذوبة توفر العراق على أسلحة الدمار الشامل .

  وتحت ذريعة محاربة الإرهاب ، خاضت قبل ذلك حربا لا أخلاقية في أفغانستان ، والحال أنها كانت في الحربين معا  تبحث عن منابع البترول والمواقع الاستراتيجية في البلدين معا بعيدا عن أي وازع أخلاقي ، مما يؤكد أن المصالح الاقتصادية الكبرى للدول المهيمنة في عالم اليوم ، أصبحت وحدها القادرة على الدفاع عن ” حقوق الإنسان ” في العالم ، والقادرة على صناعة الأسباب الكافية والمشروعة لتبرير التصرف وفق ما تسميه الخير العام [14] .

         ب- الكذب والتزوير :

  بعد أن ثبت واقعيا عدم صحة التوجهات الأمريكية ومن لفّ لفها من دول الغرب ، لجأت الولايات المتحدة إلى الكذب المفضوح في كل  يصدر عنها من تقارير وتصريحات في حربها ضد أفغانستان والعراق . ففي حرب أفغانستان على سبيل المثال صرّح الجنرال ” فرانكس ” ، رئيس القيادة المركزية الأمريكية في معرض تعليقه على مقتل 16 أفغانيا عن طريق الخطأ في منطقة هازار كادام  بأنه لا يصف الحادثة بأنها وقعت نتيجة خطأ أو إخفاق ، مما يدل على أنه لم يطلع على الحقائق أو أنه  شخص لا يقيم وزنا لأي مثل أخلاقية [15] .

  والحاصل أن الكذب والمراوغة والتدليس أصبحا عنوانا للسياسة الأمريكية ، وتمخض عن ذلك تغيير كبير في المفاهيم الأخلاقية حتى صارت المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي جزء لا يتجزأ من ” الحرب ضد الإرهاب “[16] ، وأصبح الدعاة للأخلاق الإسلامية والجهاد في الإعلام الغربي ، ” دعاة  للإرهاب ” [17] .

         ج- إلباس الحق بالباطل :

   ومن المفارقات الغريبة أن تظهر مفاهيم أخلاقية جديدة كان القانون الدولي يحرمها لتتصدر لائحة الأخلاقيات في عصر العولمة والهيمنة الأمريكية ، فقد أوردت صحيفة ” يو إس توداي ” أن الحلّ الناجع للقضية الفلسطينية يكمن في الفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتهجير الفلسطينيين ، ثم إعادة توطينهم في الأردن . وقد علّق ” روبيرت فيسك “على هذا الرأي بقوله : (( إنه بحق أمر غريب ومحيّر ، فالترحيل والطرد من ضروب التطهير العرقي ، والتطهير العرقي يعد من جرائم الحرب كما ينص على ذلك القانون الدولي )) [18] .

  وقد بلغ السقوط الأخلاقي للغرب ذروته بأكذوبة توفر العراق على أسلحة الدمار الشامل وحصولها على كمية من اليوناريوم من النيجر . ولاغرو فقد كشفت التحقيقات التي جرت مع لونيس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني عن أزمة عميقة في السياسة الخارجية الأمريكية إذ أكدت عملية تزوير البيانات الاستخبارية عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق بغية إنزال القوات الأمريكية بها . وقد أكد السفير السابق جوزيف ويلسون بعد زيارته للنيجر أن المسألة برمتها مجرد تلفيق لمعلومات كاذبة [19] .

  ولا يحتاج المرء إلى دليل على ما اقترفته القوات الأمريكية في هذا البلد من فساد أخلاقي لم يرحم الطفل ولا الشيخ ولا المرأة ، بل إن فضيحة تعذيب المعتقلين في سجن أبو غريب التي صورتها عدسات الكاميرا لتجعلها تحت بصر العالم ، تعد أكبر فضيحة في سلسلة فضائح الغرب وسقوطه الأخلاقي المريع .

  ومن الأمثلة الواضحة على تأثير السياسة على الأخلاق بعد أحداث 11 سبتمبر ما عرفه التقرير الأمريكي حول حقوق الإنسان في العالم . ففي التقرير الذي أصدرته الولايات المتحدة حول حقوق الإنسان لعام 2000 ، صرحت أن المحاكم العسكرية في مصر لا تضمن حصول المتهمين المدنيين على محاكمات عادلة أمام محاكم مستقلة، إلا أن هذه الجملة حذفت من ذات التقرير عام 2001 . ويعزى ذلك إلى أن الرئيس الأمريكي كان هو نفسه منهمكا في تشكيل محاكم عسكرية لمحاكمة الأسرى المحتجزين في قاعدة ” غوانتينامو ” ، دون توفر أي ضمان لحصولهم على محاكمات عادلة [20] .

 وقد وصل الانهيار الكامل لأخلاق الغرب إلى أدنى مستوياته مع تدنيس المقدسات الإسلامية حيث تجرأت قوات الاحتلال الأمريكي على العبث بالمصحف الكريم في العراق وجوانتينامو . وباتت حالة الإساءة إلى الإسلام في المجتمع الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر ، خاصة في وسائل الإعلام أمرا مألوفا ، علما أن انتهاك الأديان وازدراء معتنقيها يعد من أسوأ أنواع انتهاكات الأخلاق [21] التي بلغت أوجهها مع ظهور مسألة الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) في إحدى الصحف الدنماركية ، وبعض الصحف الأوروبية الأخرى ، وما خلفه ذلك من مسّ جارح بالشعور الديني للمسلمين ، و توترات جعلت البعض يصف الحضارة الغربية بأنها (( حضارة ناقصة عقلا وظالمة قولا ومتأزمة معرفة ومتسلطة تقنية )) [22]، بل إن أحد المثقفين الغربيين عبّر عن هذا السقوط الأخلاقي للغرب بعد أحداث 11 سبتمبر بقوله : (( بدأت أحس بأن أحداث الحادي عشر سبتمبر قد طفقت تتحول شيئا فشيئا إلى لعبة أبلغ ضررا وأشد بشاعة من الدمار الذي ألحقته الهجمات الانتحارية بمبنى البانتاغون ومركز التجارة العالمية ، كما يوشك الأثر العميق الذي خلفته تلك الأحداث في نفسية الأمريكيين أن يطمس كل مبادئ الأخلاق وقواعدها في أمريكا …)) [23] .

         3– منطق القوة الأمريكي في تبني نظرية محوري الخير والشر .

     تجمع النظريات السياسية على أن الدولة التي تتميز بقوتها ، تقوم بالترويج لنظام سياسي على أنه الخير العام، وتعيد من منظور أخلاقي صياغة التسميات والتوصيفات ، ليصبح كل معارض لذلك النظام أو تلك القوة السياسية محشورا في خانة محور الشر [24] ، وهي نفس القاعدة التي تسير على هديها الولايات المتحدة في هيكلتها لنظامها العالمي الجديد المزعوم .

  ويعتبر الرئيس جورج بوش أول رئيس أمريكي يجعل موضوع الأخلاق ضمن برنامجه الانتخابي. وفي هذا السياق يتحدث مؤلف كتاب ” أخلاقيات جورج دبليو بوش رئيس الخير والشر” عن الأخلاقيات الإيجابية والسلبية للرئيس الأمريكي ، فيرى أن هذا الأخير كان الرئيس الأكثر إلحاحا على مسألة الأخلاق من بين جميع رؤساء الولايات المتحدة . ففي عهد كلينتون ، كان يتحدث تارة عن السلام وتارة أخرى عن ” محور الشر” و ” محور الخير”، وقيم النزعة الإنسانية والمثل العليا . ومنذ الصفحات الأولى للكتاب ، يؤكد المؤلف أن بوش ليس فقط مجرد رئيس أمريكي ، وإنما هو أيضا مفكر أخلاقي من الطراز الأول ، فلم يسبق أن تحدث رئيس أمريكي قبله عن مفاهيم الخير والشر ، وبالتالي فهذا الرئيس على عكس الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه – باستثناء جيمي كارتر – كان لا ينظر للعالم إلا من زاوية أخلاقية وأحيانا دينية ووعظية . و أبرز المؤلف أن بوش تحدث عن مفهومي الخير والشر في 319 خطابا رسميا منفصلا ، وكان الشر هاجسه الأكبر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 . فمنذ ذلك التاريخ صار يعتبر أن بلاده دخلت حربا طويلة الأمد مع قوى الشر ،  بل كان حتى قبل وصوله للبيت الأبيض قد عبّر غير ما مرة عن دور الأخلاق ، فراح ضمنيا يتهم كلينتون بأنه شخص فاسق لأنه أغوى مونيكا لوينسكي بطلة الفضيحة الشهيرة ، وقال أن من يجلس في البيت الأبيض يجب أن يكون ((محترما وعلى قدر من الأخلاق )) .

  غير أن ما ورد في الكتاب السالف الذكر ، أو ما جاء في تصريحات الرئيس بوش لا يؤكد بالمرة تطابق القول مع الممارسة ، بل أبان الرئيس الأمريكي عن ميكيافيلية سياسية تؤكد أنه أبعد ما يكون عن الأخلاق ، إذ لم يخرج عن نهج من سبقوه مثل نيكسون صاحب فضيحة وترجيت ، وريجان صاحب فضيحة إيران كونترا ، وكلينتون صاحب فضيحة مونيكا و ما تبعها من حنث في القسم .

  لقد أكدت الوقائع تخبط الرئيس بوش في سلسلة من الفضائح الأخلاقية لعلّ أهمها تضليل العدالة الأمريكية وإطلاق تصريحات كاذبة في التحقيق عن كشف هوية عميلة المخابرات فاليري بريم ، وما تمخض عن ذلك من فضيحة أكذوبة توفر العراق على أسلحة الدمار الشامل كما سبق الذكر .

  والأدهى من ذلك أن القيادة الأمريكية الحالية تستعمل منطق القوة لفرض مصالحها دون الالتفات إلى أي وازع أخلاقي ، فكل فعل في عرفها مسموح مهما كان مشوبا بنفاية الانحطاط الأخلاقي ، خاصة إذا كان يحقق المصلحة الاقتصادية [25] . ويبدو أن بعض القرارات السياسية الأمريكية رغم اختبائها وراء الستار الأخلاقي ، فإنها تكشف في نهاية المطاف هدفها الحقيقي المتمثل في خدمة المصلحة الأمريكية . ولنأخذ العراق على سبيل المثال حيث تختلط المصلحة بالجانب الأخلاقي ، فإزالة الديكتاتورية و” تحرير” العراق ، وفرض الديموقراطية ارتبط بالجانب المصلحي للولايات المتحدة التي تسعى إلى السيطرة على بترول العراق  . وهكذا تتحول حقوق الإنسان في المنظور الأمريكي من مبادئ أخلاقية إنسانية إلى استراتيجية سياسية للهيمنة ، بل والتدخل السياسي والعسكري في شؤون الدول الأخرى . وما الخطاب المحموم السائد هذه الأيام حول ” العدالة المطلقة ” و ” محاربة محور الشر ” و ” نشر الديموقراطية ” إلا صورة من صور هذا النزوع نحو فرض أخلاق ” مصنوعة ” حسب النموذج الأمريكي بطريقة فجة وسافرة[26] .

4 – التحيز المفضوح والكيل بمكيالين :

  الملفت للانتباه أن التعامل مع حقوق الإنسان من وجهة النظر الأمريكية ” الأخلاقية ” يتم بمعايير مزدوجة ، ففي الوقت الذي يوظف كسلاح ضد دول معينة لأنها تتبنى توجهات غير منسجمة مع مصالح الغرب ، يتم السكوت أحيانا أخرى عن الانتهاكات السافرة التي تتعرض لها هذه الحقوق في دول أخرى . ولعلّ ما يقع اليوم على أرض فلسطين والعراق خير دليل على ذلك ، فعندما تعتدي إسرائيل على الشعب الفلسطيني ، فإن الولايات المتحدة تفضل الصمت أو تبارك قتل الأبرياء ، وتستعمل الفيتو في الأمم المتحدة لمنع استصدار أي قرار يعاقبها ، بل تحاول إيجاد مبررات لدعم إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني الأعزل ، وحين يفجر استشهادي نفسه ويقتل عددا قليلا من الإسرائيليين، فإن الولايات المتحدة يجن جنونها ، وتقيم الدنيا ولا تقعدها ، وتستبسل في معاقبة الشعب الفلسطيني الأعزل نفسه ، فأي ضمير أو وازع أخلاقي يلجم سلوكات الولايات المتحدة عندما تكيل بهذين المكيالين المختلفين .       

  ولا عجب أن نرى مثل هذه الازدواجية في التعامل الأخلاقي للولايات المتحدة التي تعاني هي نفسها داخليا من هذه الازدواجية ، فالسود لا يزالون يعانون من الاستعلاء والميز العنصري ، وهو ما أكده الرئيس كلينتون نفسه في إحدى خطبه التي قال فيها ((…ولكننا وبحسب القانون لمدة قرن غير متساوين )) ، وهو ما دعمه أيضا غور فيدال الذي قال خلال حرب الخليج بأنه (( ليس شديد القلق من صدام لأنه ليس أسوأ من شرطة لوس أنجلوس )) ، علما أن أفرادا من شرطة لوس أنجلوس كانوا قد صوروا على شريط فيديو الشرطة وهم ينهالون بالضرب على أمريكي أسود [27] .

5 – فرض قيم أخلاقية أحادية المصدر :

  مقابل ذلك يحاول الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة محاصرة أي توجه نحو الأخلاق الإسلامية كجزء من استراتيجيتها لفرض أخلاق الحضارة الغربية . وتتمثل هذه المحاصرة في مظاهر الضرر والإذلال الذي يتعرض له الداعية المسلم في البلاد الأجنبية من ضروب المناهضة لأقواله وأفعاله وإغلاق مراكز الدعوة ، ومنع التجمعات أو تضييق اتصالاته بالجاليات الإسلامية أو تقييد تنقلاته ، أو مراقبة حركته وتتبع آثاره . وقد يودع الداعية المسلم في غياهب السجون أو تقام عليه الحراسة الإجبارية . كما قد تحاك ضده المؤامرات أو يدخر للمحاكمة في المناسبات أو يكون موضع مساومة مع حكومة بلده [28] ، ناهيك عن المحاصرة الداخلية من طرف الدولة والجمعيات والتي تتم في غالب الأحيان بإملاءات خارجية[29] .

  وتعني هذه المحاصرة للقيم الأخلاقية النابعة من حضارة الإسلام محاولة غربية صريحة لفرض ثقافة أخلاقية أحادية المصدر ، علما أن الساسة والعلماء فطنوا إلى خطورة القولبة والنمطية الثقافية الصادرة من ثقافة واحدة تكون المرجع الوحيد لكل البشرية ، لأنها تضع وحدها معايير الحق والعدل والديموقراطية وكل القيم المقبولة والمرفوضة ، وتفوض لنفسها الحق في تغيير أنظمة التربية وتوجيه معتقدات الناس بالألوان التي تلائمها ، وتفرض أنماطا من التفكير والسلوك بحجة أنها تضع التاريخ المعاصر بحكم ما تتوفر عليه من مؤهلات مادية وعلوم تقنية وعتاد حربي [30] ، متجاهلة خصوصية الثقافات المحلية وعاداتها وأخلاقها وشيمها التي تكيفت مع بيئاتها الخاصة ومسارها التاريخي .

   كيف إذن يمكن تجاوز هذه النظرة الاستعلائية للقيم الأخلاقية للحضارة الغربية والمساهمة في تأسيس عالم جديد يراعي خصوصية المجتمعات ، ويبحث في القيم الأخلاقية المشتركة للإنسانية برمتها في النظام العالمي المرتقب ؟ نعتقد أن الأخذ بالتسامح كقيمة أخلاقية يشكل مفتاحا أوليا لحلّ إشكاليات الصراع الحضاري المفتعل و المساهمة في بناء مفاهيم أخلاقية إنسانية مشتركة تؤسس لنظام عالمي جديد .

2– التسامح كبديل أخلاقي لتأسيس مفاهيم أخلاقية كونية مشتركة :

         1- في مفهوم التسامح :

                يطرح التسامح إشكاليات مرتبطة بمضمونه و تاريخيته وتشابك مفهومه مع مفاهيم الدين والسياسة والأخلاق [31] ، ومع ذلك يمكن تعريفه أنه موقف يتجلى في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة تجاه السلوك والرأي وحرية المعتقد والعقل ، والتعبير والتنوع ، مع ضرورة التعايش والتعاون . ويقف هذا المفهوم في مواجهة ضدية صلبة في وجه مفهوم التعصب ، ففي حين يرتكز المفهوم الأول بما يحمله من قيم الخير في معانيه المبسطة على صفة الصفح والتنازل الطوعي ، يقوم المفهوم الثاني بما يحمله من قيم الشر على الانتقام وحب الذات . وفي حين يقوم التسامح في تجليات معانيه الأولى على مبدأ الحوار الذي يتسع للرأي والرأي الآخر ، يقوم التعصب على مبدأ احتكار الرأي الأوحد ورفض الرأي الآخر [32] .

  والتسامح فضيلة ملازمة للكينونة البشرية والطبيعة الإنسانية ، وهي الأصل والقاعدة ، بينما التعصب والتطرف يمثل الاستثناء[33] . وقد أدرك الإنسان مسألة التسامح واحتاج إليه لتنظيم معاملاته وتسهيل ديمومة علاقاته ، شأنه شأن بقية الفضائل الأخرى كالصدق والأمانة والشجاعة والعفة والكرم [34] . وقد حملت كل الرسائل السماوية فضيلة التسامح ، بل إن كل الأديان كانت تسمى بالحنيفية السمحاء كدليل على التسامح والتواصل والمحبة [35] . وذهب فولتيير إلى تعريف التسامح أنه نتيجة ملازمة لكينونتنا الإنسانية وأن البشر ضعيف ميال للخطأ ، لذلك فإن التسامح يصبح ضرورة متبادلة وقانونا من قوانين الطبيعة [36] .

  وقد ورد تعريف التسامح في نص إعلان مبادئ التسامح الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) الصادر في 16 نوفمبر 1995 ، – وهو اليوم الذي اعتبر يوم التسامح العالمي – أنه (( يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا لأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا )) . وعرّف التسامح أيضا في نفس الإعلان أنه (( اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا )) [37] .

  والحصيلة أن التسامح قيمة أخلاقية وسياسة ودينية وقانونية ، قاعدتها المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان ، وفي مقدمتها التعددية واحترام المعتقد والرأي والعدل القائم على مبدأ الانسجام في الاختلاف ، وتهدف إلى تحقيق السلم والأمن والتقدم الاقتصادي والاجتماعي للأفراد والشعوب [38] .

  بيد أن التسامح لا يعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي الإنسان عن معتقداته . فللتسامح خطوط حمراء  لا يجوز تخطيها ، إذ في الوقت الذي يعطي الحق لكل معبر عن الرأي ، فإنه لا يقف مكتوف الأيدي مع من يتجه في الاتجاه المعاكس أو يسعى لتدمير الأخلاق [39].

2 – الإسلام والغرب وضرورة السعي إلى التسامح :

  منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 ، أصبح القلق والتخوف يسود الأوساط السياسية والثقافية من إمكانية اندلاع صراع بين الإسلام والغرب ، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإيطالي Silvio Berlusconi    الذي صرّح بأن الأمرسيكون مروعا terrible  إذا اندلعت مواجهة بين الإسلام والغرب ، بل  سيشكل كارثة [40] .

  ولعلّ هذا الرأي ينسجم مع آراء نخبة واسعة من السياسيين والمثقفين في العالم الذين أدركوا استحالة فرض ثقافة أخلاقية نمطية بسبب تنوع الثقافات الإنسانية وخصوصيات المجتمعات المكونة لها ؛ وحسبنا أن التتبع الدقيق لتاريخ البشرية يثبت بأن التنوع والتعدد الثقافي هو الأصل ، وأن التماثل والتطابق هو الشاذ والنادر . ففي إحدى الدراسات الحديثة التي حاولت كشف خريطة التنوع الثقافي على الصعيد العالمي ، تبيّن أن عدد البلدان التي لا تتوفر على تماثل عرقي- ديني ثقافي ولغوي بنسبة 100% لا يتجاوز 10 بلدان من أصل 160 بلدا من البلدان التي تمّ مسحها ميدانيا ، وأن العالم يستعمل 6000 لغة مكتوبة أو شفهية بمتوسط لا يقل عن 26 لغة ولهجة [41] ، مما يعني استحالة عيش العالم على النمطية الأخلاقية الواحدة ، ومن ثم ضرورة رؤية التسامح كمنهج أخلاقي بديل عن النمطية الأخلاقية الغربية ، وهو أمر أصبح يشكل محل اقتناع الفئات المستنيرة في العالمين العربي والغربي على السواء .

  ينهض دليلا على ذلك أن الدعوة إلى ثقافة اللاعنف أصبحت تمثل القاسم المشترك بين العديد من المثقفين ورجال الدين والسياسة والمفكرين ليس في العالم العربي وحده ، بل في العالم برمته ، بغية إنهاء دورات العنف المتكررة ، والدعوة للتسامح في ضوء مراعاة الخصوصيات الذاتية لكل ثقافة ، والتخلي عن موقف الاستعلاء من طرف الثقافة الغربية [42].

  ولاغرو فقد برزت مراكز ثقافية جديدة تدعو إلى تبني التسامح كمنهج أخلاقي ، نسوق من بينها على سبيل المثال المركز الأندلسي لدراسات التسامح و مناهضة العنف في القاهرة [43] ، ومركز الحضارة الأندلسية والتسامح بالرباط [44] ، ومركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان . كما ظهرت مجلات تحمل اسم ” التسامح ” ، كتلك التي يصدرها المركز السالف الذكر [45] ، كذا مجلة ” التسامح ” التي تصدر في سلطنة عمان ، ناهيك عن عقد مؤتمرات وندوات تصب في خانة موضوع التسامح [46] .

   وفي الاتجاه ذاته ، عمل مؤتمر القمة الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة يومي 7 و 8 دسمبر 2005 بحضور 57 من رؤساء الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي ، إلى الدفع بعملية التسامح بين الإسلام والغرب في الاتجاه الصحيح ، فقد أكد البيان الذي تمخض عنه على ضرورة تفعيل دور الحضارات واعتبار الحضارة الإسلامية جزءا من الحضارة العالمية ، وأنها تقوم على مبدأ العدل والخير والتسامح ، ومناهضة كل أشكال التعصب والإقصاء [47] .

  وبالمثل ، وجهت مجموعة من المثقفات السعوديات رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطالبنه بتشريع قانون يمنع الإساءة للأديان [48] .

  ولم يقتصر الأمر على الجانب الإسلامي فحسب ، بل ساهم الجانب الأوروبي بدور ملحوظ في هذا الإتجاه، وحسبنا ما دعا إليه مؤتمر مدينة كوردو الإسبانية في 9 يونيو 2005 من ضرورة محاربة ظاهرة العنف والدعوة إلى التسامح[49] .

  أما المبادرة الغربية التي نعتبرها خطوة هامة لبناء وشائج التسامح بين الإسلام والشعوب المتوسطية ، فهي مبادرة رئيس الحكومة الإسبانية Zapatero لتفعيل الحوار بين الحضارتين معا ، وهي المبادرة التي طرحها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فتبنتها كمبادرة دولية في 14 يوليوز 2005 . وكان الهدف من هذه المبادرة غرس قيم التسامح والحوار والتحالف بين الغرب والعالم العربي –الاسلامي من أجل دحض مقولة حتمية صراع الحضارات [50].

  وقد انطلق السيد Zapatero في مبادرته من كون إسبانيا مثلث الأرض التي تعايشت فيها الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية في وئام وتسامح لعدة قرون ، مما يعطي لها دورا هاما لإقناع الأطراف المعنية بموضوع التسامح في العالمين العربي-الإسلامي والغربي .

  ومن جهته أيد رئيس الحكومة التركية الطيب أردوغان هذه المبادرة الإنسانية وصرّح لجريدة ” لومند ” الفرنسية في 14 أكتوبر 2005 أن هدف تركيا من الدخول للإتحاد الأوروبي هو إنجاح تحالف الحضارات . كما تبنى كوفي عنان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة اقتراح Zapatero  فأصبح هذا الإقتراح مبادرة دولية ، وعيّن في 2 سبتمبر 2005 لجنة عليا مؤلفة من 19 شخصية عهد إليها بإعطائه تقريرا في آخر سنة 2005 لتفعيل هذه المبادرة  . وقد عقدت اللجنة أولى اجتماعاتها في ميورقة تحت رئاسة رئيس وزراء إسبانيا من 27 إلى 29 نوفمبر 2005 فصرّح هذا الأخير بما يلي :

(( إن الخلافات التي كانت سائدة بين الإمبراطورية العثمانية والدول المسيحية تحولت إلى شراكات إيجابية ، ويجب أن نضع حدا للتطرف وسوء التفاهم )) [51] .

  وعقد الاجتماع الثاني لهذه اللجنة بالدوحة في فبراير 2006 ، وتلقّت اللجنة دعم رؤساء الدول الأوروبية . وصرّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك بخصوص هذا الاجتماع أن تحالف الحضارات هو مطلب عاجل في الوقت الراهن )) [52] .

  وبعد نشر الصور المسيئة للرسول (ص) ، والتي تعبّر عن أبشع الفضائح الأخلاقية للغرب ، تحركت بعض الأصوات التي تدعو إلى تجنب الإساءة للمسلمين ، فقد سعى الاتجاد الأوروبي مع منظمة المؤتمر الإسلامي لتقديم مشروع حول التسامح الديني ومنع الإساءة للأديان [53] .كما عقد في كونبنهاجن مؤتمر الحوار الذي رعته حكومة الدنمارك ، والذي جمع بين بعض الدعاة المسلمين وعدد من المثقفين ورجال الدين بالدنمارك في محاولة لمحو الآثار المترتبة على خلفية الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) [54] .

  ومن أجل ترسيخ التسامح أيضا أصدرت مجموعة الحكمة بيانا حول ضرورة تعزيز التعاون الثقافي وتحقيق الحوار بين البلدان الأوروبية وبلدان جنوب البحر المتوسط.

  وفي السياق ذاته ، عبّر الأمير البريطاني تشارلز عن الرؤية التسامحية التي يحملها تجاه الإسلام والحضارة الإسلامية ، ففي زيارته الأخيرة لكل من مصر والسعودية ، حاول توصيل رسالة واضحة مفادها أن بلاده معنية بالتسامح ، خاصة بعد ظهور الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) . وأثناء زيارته للرياض ، ارتدت زوجته كاميلا وهي في رفقته غطاء الرأس دون أن يطالبها أحد بذلك ، معبرة عن احترامها لأخلاقيات العرب والمسلمين.

  والواقع أن الأمير تشارلز يعد نموذجا للتسامح والإعجاب بالحضارة الإسلامية ، فمنذ تسعينات القرن 20، ومن مدينة الرياض ذاتها ، ثمن غاليا دور وإسهامات الحضارة الإسلامية في إثراء رصيد الحضارة والتجربة الإنسانية، لذلك لا عجب أن تكتب صحيفة الشرق الأوسط مقالا تحت عنوان : (( تشارلز أمير التسامح المعجب بالحضارة الإسلامية )) . ومن جملة ما ذكره صاحب المقال : (( على كثرة الألقاب التي تحف بالأمير تشارلز ، يبدو لقب “أمير التسامح والنبل ” ، ولاعتبارات كثيرة هو الأقرب بين ألقاب كثيرة يمكن خلعها على تشالز فيليب )) [55].

  من جهته ، أبان وزير الداخلية و وزير شؤون الإستصلاح الإقتصادي الفرنسي  السيد نيقولا ساركوزي في الدورة التاسعة للقاءات الدولية من أجل السلام المنعقدة في 11 سبتمبر 2005 في مداخلته في هذا الملتقى عن روح تنم عن التسامح ، إذ أكد أنه على ضوء تجربته كوزير سابق للشؤون الدينية ، أنه يعترف بمكانة الإسلام في فرنسا وأنه عمل بكل ما لديه من طاقات لتحظى فرنسا بمجلس تمثيلي للديانة الإسلامية [56] .

  هكذا يبدو أن التسامح أصبح منهجا أخلاقيا مطلوبا من طرف المسلمين والغربيين على السواء ، وإن كانت الملاحظة الدقيقة تبرز أن التسامح عند الغربيين لا يشير صراحة إلى جديتهم في إبعاد نظرة الاستعلاء والإقصاء التي يعاني منها المسلمون ، ولكنها مع ذلك تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح القائل بأن الثقافات مهما اختلفت فإنها لا تتصادم، بل تتكامل و تتشابك ، في حين أن المصالح هي التي تتضارب و تتناقض [57] ، ومن ثم فإن الهدف من هذه المؤتمرات واللقاءات الإسلامية الغربية هدف أخلاقي يتمثل في التوصل في النهاية إلى الاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم العالمية التي تأخذ بعين الاعتبار التنوع الإنساني الخلاق ، في الوقت الذي تسعى فيه إلى التركيز على القواسم المشتركة بين ثقافات العالم برمته [58] ، ولكن ما السبيل لإنجاح هذا التسامح كمنهج أخلاقي بديل لتسلط الغرب وهيمنته على مفاهيم الأخلاق دوليا؟

  إن الإعتراف المتبادل بين الإسلام والغرب حول الهويات الثقافية والبحث عن أرضية مشتركة بين الأخلاق المكونة للحضارة الإنسانية هو السبيل الأوحد لبناء نظام أخلاقي كوني.

   ولا يخامرنا الشك في أن من أهم المعايير لإنجاح ثقافة التسامح بين الإسلام والغرب الابتعاد عن الاستعلاء ومحاولة الهيمنة وفرض صورة الأخلاق التي يتبناها طرف على الطرف الآخر، والاعتراف به واحترام عاداته وأخلاقه . وفي هذا الصدد سجل المصلح الاجتماعي والديني محمد عبده عندما زار فرنسا إعجابه بالأخلاق الغربية في جانبها الإيجابي والمتمثلة في الصدق مع الذات ، والبعد عن الكذب والرياء . ووصف هذه الجوانب الأخلاقية بأنها تطابق الأخلاقية الإسلامية [59] . كما أن إعجاب الأمير تشارلز بقيم الحضارة الإسلامية يصب في نفس الإتجاه ، لكن هذه الانطباعات الفردية لا تكفي ، بل ينبغي أن تتحول إلى قناعات مجتمعية تقر بمبدأ احترام أخلاق الآخر والاعتراف بخصوصيات كل مجتمع بعيدا عن أي وصاية أو استعلاء  ، لأن الاستعلاء لا يسعى للبحث عن أرضية أخلاقية مشتركة، بل يهدف إلى تعميم مفاهيم الطرف المستعلي وفرضها بأشكال مختلفة ، في حين أن الحوار الأخلاقي لإيجاد أرضية مشتركة يقتضي احترام الآخر ومعرفة قيمه والإصغاء إليه ، والعمل معه بدل الإقصاء والعجرفة [60] .وبالمثل ينبغي إزالة سوء الفهم والخلفيات المسبقة لأي تقارب أخلاقي [61] .

  ولاشك أن الوعي بالذات واحترام الآخر ومعرفة قيمه ، سيكشف عن القاعدة الأخلاقية المشتركة التي يمكن انطلاقا منها بناء نظام كوني جديد ، وتتمثل على الخصوص في الحرية السياسية وحرية المعتقد وحقوق الإنسان بكافة أشكالها ، والقبول بالتنوع الأخلاقي والديموقراطية والمساواة في التعامل الدولي.

ب- ضرورة تطبيق إعلان مبادئ التسامح العالمي

  الواقع أن إعلان المبادئ حول التسامح الذي أقرته اليونيسكو في 16 نوفمبر 1995 حدد بوضوح مسؤولية دول العالم في ترسيخ قيم التسامح حيث طالبها في مادته الثانية مراعاة العدل والنزاهة في التشريع وتطبيق القانون وتوفير الفرص الاقتصادية والاجتماعية للجميع  دون تمييز، ودعا للمصادقة على اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية ووضع تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة والفرص لكل المجموعات والأفراد في المجتمع.

  ومن بين المواد الستة في المعاملة التي تكون مجموع مواد إعلان مبادئ حول التسامح، تم تخصيص مادة مستقلة للحديث عن دور التعليم في نشر قيم التسامح ، لأن التعليم يلعب دورا بارزا في تعميق حقوق الإنسان في الوجدان والسلوك البشري ويمنع من التعصب [62] .

  ولا شك أن تطبيق إعلان مبادئ التسامح الذي هو في أصله مرجعية أخلاقية ، سيعزز الأخلاق السامية وينتصر للضعفاء والمقهورين ، ويكبح جماح القوى الظالمة والمتغطرسة على مستوى الدول والجماعات [63] ، ويعطي للعلاقات الإسلامية-الغربية منعطفا جديدا يسير به إلى السلم والتعاون بدل العداء والكراهية .

ج- تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الأخلاقية الإسلامية

  إن الغرب الذي استطاع أن يروج لقيمه الحضارية و الأخلاقية عبر ترساناته الإعلامية والتكنولوجية لا يزال يعيش لحظة سوء فهم مع الأخلاقية الإسلامية ، بل يسعى إلى محاصرتها وتضييق الخناق عليها ، معتبرا أنها تشكل النظرة الأحادية ، بينما يكشف التحليل التاريخي أن قيم الحضارة الإسلامية هي حضارة عالمية بكل المقاييس ، فإلى جانب أصولها الإسلامية ، فإنها اغترفت من قيم الثقافة اليونانية والبيزنطية والهندية والفارسية ، مما يجعلها اليوم مهيّئة للحوار مع أخلاق الآخر لأنها تتضمن التراث الأخلاقي لمختلف الحضارات البشرية [64] . وتتميز بالاعتدال والوسطية والنظام والعدل والتجانس . والمرجعيات الغربية التي أمدتها بتراثها ، هي في حدّ ذاتها مرجعيات متفتحة [65] ، تسمح بجعل الحوار الأخلاقي أسلوبا متناسقا ومتناغما مع إيجاد قواعد أخلاقية كونية في العالم المنتظر .

  وبالمثل ، فإن أخلاقيات الإسلام تقوم على أسلوب أساسه ((الحكمة )) و ((الموعظة الحسنة )) و ((الحوار)) بغض النظر عن الجهة أو الشخص الذي تتوجه الدعوة إليه ، سواء كان من أتباع الديانات السماوية أو من المشركين [66]، ولو أن القرآن خصّ في بعض آياته ديانات أهل الكتاب [67] .لذلك من الخطأ أن يستمر الغرب في رؤية الأخلاق الإسلامية من هذه الزاوية المتحجرة المتقوقعة حول الذات ، وبالتالي إزالة وهم ((الإسلاموفوبيا )) و انعدام الثقة  [68].

د- دور وسائل الاتصال في البحث عن قاعدة أخلاقية مشتركة

  إذا كان البعض يرى أن وسائل الاتصال بدأت تحقق ما يتوقع منها من إشاعة القيم الأخلاقية [69] ، فإنه لا يمكن إلا أن نتفق مع هذا الرأي ، فالشعوب بدأت تظهر – في ظل ثورة الاتصالات وسرعة تبادل المعلومات – تفاعلا كبيرا مع الأحداث أنى كانت ، وبدأ شعورهم بالتضامن المشترك حول القيم الإنسانية العامة يتنامى بصورة ملحوظة رغم انتماءاتهم المختلفة ، مما ينعش الثقة بإمكانية نمو موقف عالمي قادر على نصرة الشعوب وقيم الخير والحق ، ليرفض العنف والحروب ، ويساعد على إنضاج آلية ناجحة ، وتكريس قانون عادل عماده صون حقوق الناس وجعلها متساوية ، ورعاية العلاقات بين الدول على أساس التنافس السلمي والاحترام المتبادل للمرجعيات الأخلاقية المختلفة [70] . ومع ذلك  نعتبر أن الإعلام لا يزال مقصرا في دوره ، بل يلعب أحيانا دورا سلبيا ، لذلك وجب تجنيد كافة وسائل الإعلام لخدمة قضايا الأخلاق. 

    وفي الختام يمكن القول أنه رغم صعوبة التطبيقات العملية لبناء نظام عالمي جديد يقوم على أساس قاعدة أخلاقية مشتركة ، خاصة أن المبادرات المتعددة التي عرفها التاريخ البشري لنقل القيم الإنسانية العليا إلى أرض الواقع علمتنا أن الإخفاقات المتكررة كانت هي حصاد التجارب، فإن التسامح الذي أصبح محل اقتناع الجميع ، وحاجة راهنية ضرورية ، صار يشكل منهجا أخلاقيا لا محيد عنه لإزالة التوتر بين الإسلام والغرب ، وكابحا لعدم استخدام العنف والعنف المضاد ، وبالتالي فإنه كفيل بتهذيب السلوك الأخلاقي للعالم ، وفهم أفكار الغير واستيعابها واحترامها ، وتبادل المنفعة وتعزيز التواصل والانفتاح بين الأطراف ، شريطة أن يكون هذا التسامح متبادلا وهادفا ، مما يجعل منه قيمة أخلاقية من قيم المستقبل الكفيلة بإيجاد قاعدة أخلاقية مشتركة قوامها الحرية وحقوق البشر، والاحترام المتبادل في ظل النظام العالمي المرتقب.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي