شارك المقال
  • تم النسخ

الكنبوري: الجالية المغربية في أوروبا في حاجة إلى عرض هوياتي-ديني جديد

حاوره نور الدين لشهب

أكد إدريس الكنبوري، الباحث في الشأن الديني، على مسؤولية المغرب تجاه المهاجرين المغاربة بالدول الأوروبية، وما يعانونه في تشظي الهوية الدينية وغياب انسجام ثقافي ديني مرتبط بالبلد الأصلي، إذ اقتصر التعامل مع المهاجرين في العقود الماضية كطبقة عمالية تعمل في المخازن الأوروبية وتعود في نهاية العام للاستجمام والارتياح من عناء الشغل، في مقابل ذلك تم التغافل عن تقديم عرض ديني مميز في أوروبا في ما يتعلق بالواقع الديني.

واعتبر الباحث في الشأن الديني، في حوار خاص، أن الفضاء الديني بأوروبا في حاجة إلى عرض ديني وجب الآن التصدي له من قبل المغرب؛ وذلك عبر تعزيز الوجود الثقافي للمراكز الثقافية المغربية في أوروبا، وترجمة الكتب المتعلقة بالفقه المالكي والعقيدة الأشعرية باللغات الأوروبية، ولا سيما بعد تفجيرات بروكسيل وباريس وأحداث نيس التي أظهرت انتقادات واسعة لنموذج ديني معين كان مسيطرا في أوروبا، هو النموذج السلفي الوهابي بقيادة السعودية.

الحوار مع الكنبوري تطرق إلى النظرة النمطية الاستشراقية التي لا تزال تميز أغلب الكتابات الأكاديمية والإعلامية في النظر إلى الإسلام، وكذا الحديث عن الإصلاح الديني الذي أصبح كلاما مكرورا بعيدا عن النقاش العلمي الرصين.

بعد عملية برشلونة الإرهابية وما حصل في فنلندا، والتي تورط فيها مغاربة، رجعت بقوة صورة المغاربة في أوروبا كإرهابيين، كيف ترى الأمر؟

نعم، هذا صحيح؛ فصورة المغاربة في الخارج اليوم، خصوصا في أوروبا، أصبحت مرتبطة بالإرهاب والتطرف، وما حصل مؤخرا في برشلونة وفنلندا سوف يزيد في تشويه هذه الصورة ويعطي انطباعا سلبيا للرأي العام الأوروبي بأن المهاجر المغربي هو شخص إرهابي إلى أن يثبت العكس.

للأسف، توجد في الثقافة الأوروبية الحديثة نزعة لتنميط السلوك البشري وفقا للانتماءات العرقية أو الثقافية أو الدينية، مهما قيل إن الحداثة منغرسة في هذه الثقافة ومهما تم الحديث عن القيم الكونية في الغرب.

وهذه النزعة هي نزعة قديمة بدأت قبل الموجة الاستعمارية، ثم تطورت خلال هذه الموجة، وتنامت مع ظهور النفط، وبعد ظهور آفة الإرهاب بدأ الحديث في أوروبا وأمريكا عن الأشخاص ذوي الملامح الشرق أوسطية. ولذلك، فإن صورة المغاربة تندرج ضمن هذه النزعة المهووسة بالتنميط. وقد تابعت بعد هجوم برشلونة ما كتبته الصحف الإسبانية، فهي تساءلت أساسا حول ما إن كان منفذو الهجوم قد انخرطوا في التطرف عندما كانوا في المغرب أم بعد هجرتهم إلى إسبانيا، وهذا يعني أن هناك نزعة ضمنية للإدانة، لأنه إذا تبث تطرفهم عندما كانوا في المغرب فهذا يعني مسؤولية المغرب.

إن طرح القضية من هذا المنظور طرح تبسيطي من حيث التحليل؛ لكنه موجه سياسيا، ويتضمن مخاطر عدة بالنسبة إلى أوروبا مستقبلا، ذلك أن إدانة جنسية معينة أو فئة كاملة هي المهاجرون بسبب ما يقترفه بعض المنحرفين المغرر بهم يقود إلى نوع من الإقصاء الاجتماعي والثقافي لفئة عريضة تشكل اليوم جزءا من النسيج الأوروبي، وهذا الإقصاء هو ما سيؤدي إلى نمو التطرف كرد فعل سيكولوجي على واقع لا تريد أوروبا الاعتراف به؛ فالأوروبيون لا يريدون الاعتراف اليوم بفشل سياسات الاندماج، وبالأخطاء التي تشوب تدبير ملف الهجرة، ولذلك تلجأ إلى الحل المبسط وهو توجيه اللوم إلى الجنسيات الأجنبية.

هل يعني هذا أن المغرب غير مسؤول عن مهاجريه في أوروبا؟

أقول إنه لا يعني تبرئة ساحة الدولة المغربية من المسؤولية. لقد تأخر المغرب طويلا في التعامل مع ملف الهجرة، وكان يتعامل مع المهاجرين في العقود الماضية كطبقة عمالية تعمل في المخازن الأوروبية وتعود في نهاية العام للاستجمام والارتياح من عناء الشغل، وينظر إلى ما يحولونه من العملة الصعبة إلى الداخل.

ولذلك، لم يستثمر في المجال الثقافي والاجتماعي والديني، وترك المهاجرين في مواجهة معضلات حياتهم في الخارج، ولم يتم تغيير هذه المقاربة إلا في الأعوام الأخيرة، وفقط كرد فعل على التطرف وتحت مطالب الحكومات الأوروبية. ويجب القول بأنه في الوقت الذي كان المغرب غائبا عن واقع الهجرة في أوروبا، كانت هناك بلدان عربية وإسلامية أخرى تتحرك على قدم وساق لكسب ورقة المهاجرين؛ فالمغرب اليوم متأخر كثيرا عن هذه البلدان، وعليه أن يعمل بطريقة أسرع لكي يتمكن من سد هذا التأخر.

بعض الجهات في إسبانيا وجهت النقد إلى المغرب بدعوى أنه لا يقوم بواجبه تجاه الجالية المغربية فيها، هل هذا الانتقاد يعتمد على أسس موضوعية في نظرك؟

هناك نوع من الازدواجية تمارسه إسبانيا تجاه هذا الموضوع. إنها تنتقد المغرب بسبب ما تعتبره تهاونا منه تجاه مهاجريه، وفي الوقت ذاته تقوم بمحاصرته والتضييق عليه لكي لا تكون له اليد المطلقة في تدبير الملف الديني.

هل من توضيح أكثر؟

نعم، سأعطي مثالا على هذا. في عام 2011، نشرت يومية “إيل باييس”، الجريدة واسعة الانتشار في إسبانيا، تقريرا مهما يقول بأن الحكومة الإسبانية تريد سحب الملف الديني من قبضة المغرب، من خلال إزاحته عن الإشراف على بعض المنظمات التي تهتم بتمثيل المغاربة المسلمين أمام السلطات الإسبانية.

وبعد عام واحد، تحقق ما كتبته الجريدة، التي لديها علاقات قوية مع دوائر القرار في مدريد، فقد تم تدبير انقلاب داخل الفيدرالية الإسبانية للهيئات الدينية الإسلامية والمجيء بشخص من جماعة العدل والإحسان، وهذا هو أيضا ما كتبته الصحف الإسبانية نفسها.

فإسبانيا لا تثق في المغرب، وهي تتصرف بطريقة تجعله دائما تحت الضغط. ولذلك، فإن ما حصل في برشلونة، وما حصل عام 2004 في مدريد، تتحمل الحكومة الإسبانية المسؤولية الكبرى فيها من خلال محاربة المغرب والحيلولة دون الإشراف على الملف الديني، سواء في إسبانيا أو في سبتة ومليلية المحتلتين؛ فإسبانيا تخشى أن يتحول الحضور المغربي إلى تأثير على الساكنة مما يهدد إسبانيا مستقبلا، وهذا غير صحيح.

المعروف أن الجالية المغربية في الخارج تعيش تحت عدة مؤثرات دينية، ما إمكانات المغرب للتعريف بنموذجه الديني في أوروبا؟

توجد أمام المغرب فرصة غير مسبوقة لتقديم عرض مميز في أوروبا في ما يتعلق بالواقع الديني. نعرف أنه بعد تفجيرات بروكسيل وباريس وأحداث نيس ظهرت انتقادات واسعة لنموذج ديني معين كان مسيطرا في أوروبا، هو النموذج السلفي الوهابي بقيادة السعودية، ولاحظنا أن الصحف والمجلات الفرنسية والأوروبية، مثل “ليكونوميست” البريطانية، شنت هجوما واسعا على هذا النموذج وحملته مسؤولية انتشار التطرف في أوروبا.

ومنذ أسابيع قليلة نشر في فرنسا كتاب مهم تحت عنوان “الدكتور سعود والسيد جهاد: الدبلوماسية الدينية للعربية السعودية” (Dr. Saoud et Mr. Djihad)، وهو أول كتاب من نوعه في فرنسا حول هذا الموضوع، ومؤلفه بيير كونيسا كان سابقا موظفا في وزارة الدفاع الفرنسية، ويطرح الكتاب إشكالية التأثير السعودي على الواقع الديني في أوروبا خلال العقود السبعة الأخيرة؛ بل إنه يرى أن هذا الحضور السعودي الواسع في أوروبا وأمريكا وآسيا في الملف الديني يتجاوز كونه سياسة ثقافية، ويقترح دراسته ضمن إطار العلاقات الدولية. ويمكن للمغرب من هذه الزاوية أن يؤكد حضوره كنموذج بديل؛ لكن عليه أن يوفر الشروط الموضوعية لذلك.

ما الذي تعنيه بالشروط الموضوعية؟

أعني بنية تحتية ثقافية ودينية في أوروبا تمكن المغرب من أن يكون حاضرا بقوة كطرف أساس في المعادلة الدينية. هناك غياب للمراكز الثقافية المغربية في أوروبا، وهناك خصاص في الكتب المتعلقة بالفقه المالكي والعقيدة الأشعرية باللغات الأوروبية. كما أن هناك، وهذا هو الأهم برأيي، حاجة إلى تجديد النظرة إلى الواقع الديني في أوروبا.

وهنا لا بد من التذكير بأمر مهم؛ وهو أن مجلس الجالية المغربية بالخارج، الذي يتولى أمانته العامة الدكتور عبد الله بوصوف، سبق أن قدّم، منذ عام 2009، عدة مبادرات تهم الشأن الديني في أوروبا والغرب؛ فقد اقترح ملاءمة الممارسة الدينية في أوروبا للسياقات الثقافية والمجتمعية هناك، وتكوين الأئمة في سياق أوروبي لكي يكونوا أكثر دراية بالواقع الذي يتحركون فيه، والتركيز على التعليم بشكل خاص عبر نشر القيم الوسطية والمعتدلة للإسلام، وضرورة إبداع رؤى جديدة حول المفاهيم الكبرى السائدة في أوروبا اليوم، كالديمقراطية والحرية الفردية والعلمانية وحقوق الإنسان.

وأعتقد أن مثل هذه المبادرات كفيلة بأن تضع المغرب على السكة الحقيقية في أوروبا، بدل أن نظل في مستوى ردود الأفعال.

يثار موضوع الإصلاح الديني كثيرا كأحد السبل الكفيلة بالتصدي للإرهاب، إلى أي حد يمكن لهذا الإصلاح أن يحقق الأهداف المنشودة؟

عبارة الإصلاح الديني أصبحت أكثر العبارات رواجا في السنوات القليلة الأخيرة، منذ ظهور موجة الإرهاب الدولي المتقنع بالقناع الديني الإسلامي، وتحت هذه العبارة تتحرك رزمة من الأفكار والنظريات والإيديولوجيات المتصارعة.

إن الإصلاح الديني ضرورة لا بد منها، ولكن ما هو الإصلاح الديني بالفعل؟ الكثيرون ممن يطرحون هذا الإصلاح يطرحون الأمر بشكل عام وأحيانا بنوع من التعميم والغموض، ويريدون أن يشمل الإصلاح الأسس الكبرى للدين، وعوض أن ينتقدوا الممارسات يهاجمون هذه الأسس، وكأنها هي المسؤولة عن تفريخ الإرهاب.

إنني أطرح الأمر من زاوية مختلفة. إن هذه الأسس التي ننتقدها هي الأسس نفسها التي كانت موجودة طيلة التاريخ الإسلامي، ولكن لم يحدث عنف أو إرهاب بسببها، وهي الأسس نفسها التي أنجبت ابن رشد وابن خلدون وابن تيمية والرازي والغزالي وغيرهم بعشرات الآلاف من العلماء والفقهاء.

إن وجود بعض الأفكار المتطرفة مثلا في التراث الإسلامي الكبير والواسع لا يعني أن المشكلة موجودة في هذا التراث كله؛ بل يعني أنها وجدت لدى بعض الأشخاص دون الآخرين، لأسباب ذاتية وموضوعية. وهذا هو منطق التاريخ ومنطق أي ثقافة إنسانية.

من يعرف مثلا اليوم أن جون لوك مثلا، صاحب نظرية التسامح في أوروبا، كان متعصبا ضد المسلمين وكان يرفض التسامح معهم؟ القليلون يعرفون ذلك من الباحثين، فهل يجب علينا أن نرفض التراث الفلسفي الإنجليزي كله كعرب ومسلمين لأنه أعطانا جون لوك؟ وهل يمكننا أن نهاجم الثقافة الأوروبية كلها لأنها أنتجت أشخاصا أمثال إراسموس؟

حتى في أوروبا ما زالت هناك كتب متطرفة كتبت في العصور الوسطى تطبع وتقرأ على نطاق واسع وتكتب عنها الأبحاث والدراسات، ولكن لا أحد يشكو من ذلك. والأمر نفسه بالنسبة إلى الثقافة الإسبانية، إنها ثقافة ثرية تثير الإعجاب، فهل يمكننا أن نأخذ منها موقفا لأنها أعطتنا في القرن الخامس عشر مثقفين وسياسيين ورجال دين متطرفين وقتلة كانوا مسؤولين عن محاكم التفتيش؟.

ولكن المشكلة في الإسلام الثقافي (بعبارة بنسالم حميش)، وهي أن الأفكار القديمة ما زالت هي المسيطرة؟

إن الأفكار القديمة ستبقى دائما، هذا هو الواقع؛ لكن ما يجب علينا أن نقوم به هو اختيار ما يناسب العصر من هذه الأفكار وطرح الباقي، أي عملية تجديد واسعة في الفقه الإسلامي تأخذ بعين الاعتبار التطورات المعاصرة والظروف الزمنية التي نعيشها.

لا يجب أن نكون أمة معقدة من ماضيها ومن تراثها، لدينا تراث ثري وقوي ويجب أن نفخر به، ولست من الذين يلعنون الماضي، والمشكلة في واقع الأمر ليست في التراث الذي انتهى زمنه ورجاله، المشكلة فينا نحن لأننا لم نعرف كيف نجدد وكيف نبدع لأنفسنا ما يناسبنا. ودعني أقول لك شيئا، إن الهجوم المستمر على التراث في حقيقة الأمر لا يدل سوى على العجز والكسل والتخلف، لأنه نوع من لوم الأجداد القدامى لأنهم لم يفكروا لنا.

لدينا تعليم متخلف، لدينا جامعات متخلفة، ونحن أمة لا تقرأ مقارنة بالشعوب الأخرى، وما نطبعه في العالم العربي كله في عام واحد تطبعه دولة أوروبية واحدة في شهر واحد، وأكثر الكتب العربية مبيعا لا يتجاوز الألف نسخة، بينما في فرنسا مثلا يبيعون الملايين في المطبعة قبل التسويق، كيف يمكننا في واقع مثل هذا أن نتحدث عن التجديد والإصلاح؟. إنني نكذب على أنفسنا كثيرا لنرضي الآخرين.

هل الإصلاح الديني المطروح فيه إرضاء للآخرين، أو الغرب؟

إن كلمة الإصلاح نفسها فيها حمولة غربية، ولا يعني هذا أنني ضد استخدامها، ما أعنيه هو أن فكرة الإصلاح عندما طرحت في بداية الألفية الجديدة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001 كان فيها استحضار التجربة الأوروبية في الإصلاح الديني. لا ننسى أن الأوروبيين في البداية طرحوا المشكلة على أساس أنها مشكلة في الإسلام كدين، وبعضهم تحدث عن الإسلام المريض؛ بل إن البعض وجه التهمة إلى القرآن نفسه، ومنهم للأسف بعض الباحثين العرب الذين يجهلون الثقافة الإسلامية، ولذلك طرح الغرب فكرة الإصلاح للخروج من الأزمة، والحال أن المشكلة ليست في الإسلام كدين بل في الممارسة الدينية للإسلام.

لقد كانت قضية الإصلاح أو التجديد الديني مطروحة منذ بداية القرن العشرين، بل منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكنها طرحت آنذاك كأداة لتحقيق النهضة والتقدم الحضاري.. واليوم، للأسف الشديد، نتحدث عن الإصلاح الديني فقط لمحاربة الإرهاب، ولم نعد نطرح هدف النهضة أو التقدم.

إن هذا تحول كبير بالنسبة إليّ، وهو يكشف عن الأزمة الفكرية التي نتخبط فيها. ولذلك، قلت إننا نتحدث كثيرا عن الإصلاح الديني اليوم؛ لكننا لا نطرح أزمة التعليم وأزمة البحث العلمي وأزمة القراءة. نحن نريد إصلاحا دينيا من أجل الأمن فقط. لقد أصبحنا نطرح قضية الإصلاح بشكل متخلف، وهذا ما أعنيه بإرضاء الآخرين.

ولكن الغرب يقول إن الإسلام يدعو إلى العنف وإن هناك أحاديث نبوية وآيات قرآنية تحرض على الكراهية؟

إن واحدة من مشكلاتنا الرئيسة أننا ننصت إلى ما يقوله الغرب، ونجد بيننا من يؤمن بما يقول. لقد أصبح اتهام الإسلام تجارة مربحة، وهناك باحثون أوروبيون تخصصوا في النبش في الدين الإسلامي والبحث فيه عن الثغرات، وهم يكتبون أشياء مليئة بالأخطاء؛ لكنهم يجدون من يصدقهم لأنهم أوروبيون.

وهناك أيضا باحثون من العالم العربي صارت مهمتهم هي هذه، وهم يبحثون عن المال والشهرة، وقد يكون بينهم من هو مقتنع فعلا بأفكاره، وهذا أمر طبيعي. لقد نزل القرآن قبل خمسة عشر قرنا، ودونت السنة قبل هذه المدة الطويلة، فلماذا لم يكن هناك عنف أو كراهية؟. صحيح، لقد حصلت في التاريخ الإسلامي حوادث سالت فيها الدماء وحصل عنف وظهرت جماعات متطرفة؛ ولكن هذا كله كان الاستثناء، ولم يكن هو القاعدة.

وعندما نتحدث عن التاريخ الإسلامي فنحن نتحدث عن تاريخ بشري يقوده رجال لا ملائكة، والقرآن نفسه والسنة النبوية يتحدثان عن أن العنف ظاهرة بشرية، ولكن هدفهما هو تقليص مساحة العنف وتغليب جانب التدين والأخلاق؛ بل الأكثر من هذا نجد القرآن يربط خلق الإنسان بالعنف، “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”، ولكن في مقابل هذا الواقع كانت رسالة الإسلام هي دفع الناس إلى السلم والتسامح، فالصراع كله يدور باستمرار حول تقليص مساحة العنف وتوسيع مساحة السلام بين البشر على أساس مبادئ مشتركة.

ويجب أن لا ننسى أن مسألة العنف احتلت في الفلسفة الغربية مساحة واسعة جدا، أكثر مما يتصور أي شخص، وكان هدف عصر التنوير كله هو تقليص مساحة العنف وتوسيع مساحة السلام، لأن أوروبا عاشت قرونا طويلة في العنف بين الطوائف الدينية وعانت من محاكم التفتيش باسم الدين، فلنقارن هذه القرون الطويلة بحوادث صغيرة ومحدودة حصلت في التاريخ الإسلامي. وأهمية الإسلام ـ

وهذه فكرة أحب أن يفهمها القارئ جيدا أنه حدد منذ البداية سبل تحاشي العنف وحدد مبادئ معينة للتعايش بين البشر، بينما الثقافة الأوروبية المسيحية رسمت منذ البداية سبل العنف وحددت منطقه الديني، وتطلب الأمر قرونا طويلة لكي تصل إلى فكرة التسامح والتعايش. لا يجب أن ننسى الدماء التي سالت منذ اختفاء المسيح عليه السلام أو منذ صلبه كما يقول المسيحيون، بسبب الخلافات حول موته وحول شخصيته وحول ما كان يلبس حين صلبه وحول أمه وأبيه وإخوته وشكل الخشبة التي صلب عليها إلى غير ذلك، وهي حقائق معروفة لدى الباحثين المتخصصين.

معنى هذا أن أوروبا المسيحية عاشت في حروب دموية منذ موت المسيح إلى القرن التاسع عشر، والفترة الوحيدة التي كانت مرحلة تهدئة في ما بين الأوروبيين هي مرحلة الحروب الصليبية، لأنها شغلتهم عن الاقتتال في ما بينهم. إن الكثيرين يتجاهلون مثل هذه الأمور ويخوضون في الطعن في الإسلام على اعتبار أنه مسؤول عن العنف. وللأسف الشديد، حتى النخبة تمارس نوعا من التجهيل للناس وتنساق وراء الطروحات الغربية؛ لأن بعضها لا يملك العدة الفكرية اللازمة لمقارعة مثل هذه الطروحات.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي