شارك المقال
  • تم النسخ

مواهب الفقراء وإنجازات الصدفة

استيقظ الحالمون وهدأ المنرفزون.. ورجعت الأمور إلى رتابتها المعهودة بعد أن عاد منتخب الكرة بما دون خفي حنين من رحلته الإفريقية..

الصدمة كانت كبيرة بالنسبة للذين منوا النفس بالكأس القارية بعد قرابة نصف قرن من الانتظار..

لكن الحقيقة قاسية دائما، خاصة عندما تقف عارية تحت الأضواء..

هناك من صدق أن المغرب صار فعلا قوة كروية عريقة قادرة على الاكتساح في كل المناسبات.. لولا أن كأس إفريقيا كانت بمثابة دوش بارد أيقظ -مؤقتا- بعض الحالمين، لكنه لن يوقظ من بيدهم أمر الكرة والرياضة عموما.. بما أنهم سيستمرون في “بيع القرد” والضحك لاحقا على من يشتريه..

الصدمة كانت قوية هذه المرة، بسبب “إنجاز” مونديال قطر، الذي جعل البعض يصدق أن “الصدفة” يمكن أن تتكرر أمام المنتخبات “الفقيرة” لإفريقيا..

وهنا مربط الفرس..

لا توجد قناعة ولا إرادة حقيقية للاستفادة من الرياضة كتجارة وصناعة ونشاط اقتصادي يدر الدخل ويوفر مناصب الشغل..

هناك فقط رهان على الصدفة.. وقد صادفت صدفة المونديال هذه المرة تغول “المؤثرين” الذين حولوها إلى نتيجة خالصة لعبقرية فلان أو علان..

ربما لم يكن هؤلاء “المؤثرون” قد ولدوا بعد عندما عجز منتخب ميكسيكو 86 عن الفوز بالكأس القارية حتى عندما احتضن نهائياتها في عقر داره.. سنة 88، بعدما سقط في منتصف الطريق في سابقتها في مصر بسبب الحكم الإثيوبي الشهير “تسفاي” وبسبب الكولسة المصرية المفضوحة في دهاليز الاتحاد الإفريقي الذي كان يومها ملحقة من ملحقات الاتحاد المصري..

وللتاريخ فإن منتخب ذلك الزمن كان أفضل تقنيا من المنتخب الحالي رغم انعدام الإمكانيات المادية..

ولهذا كان إنجاز مونديال المكسيك 86 هو أيضا مجرد صدفة .. تماما مثل إنجازات رياضات أخرى كألعاب القوى وكرة المضرب..

المثير في الأمر أن هناك من يريد إقناعنا بأن هذه “الصدف” هي “إنجازات” بفعل فاعل..

لا نحتاج لتكرار أن جل لاعبي منتخبنا الحالي هم خريجو مراكز التكوين الأوروبية في البلدان التي ولدوا وترعرعوا فيها واستفادوا من “سياساتها الرياضية الحقيقية”، ولحسن “الحظ” أنهم اختاروا تمثيل المغرب بدل الدول التي اكتشفتهم وصقلت مواهبهم..

فهل استقطاب شاب موهوب في لعبة كرة القدم من مغاربة العالم.. إنجاز يستحق كل هذا الاحتفال؟

المفارقة التي لا ينتبه إليها كثيرون، بسبب الضجيج العالي الذي يحدثه ضاربو الدفوف، والدخان الذي يثيره حاملو المباخر، هي أن الإنجاز الحقيقي يتطلب نفسا طويلا، وتدرجا، ومراحل، عكس ما يحدث عندنا.. بعقلية “سلق البيض”..

والدليل الواضح أن اسم المغرب اختفى تماما في رياضة ألعاب القوى، اللهم حين يتعلق الأمر بفضائح المنشطات، وذلك رغم أن عبد السلام أحيزون رئيس الجامعة من الأسماء اللامعة في مجال “التدبير”، ورغم الإمكانيات الهائلة المتوفرة حاليا.. والسبب بسيط، يتمثل في أن أبطال هذه الرياضة يولدون موهوبين ويطورون أنفسهم بإمكانياتهم الذاتية ولا تتم صناعتهم..

إذاً على جامعة ألعاب القوى أن تنتظر إلى أن تظهر موهبة ما في جبال وقرى الأطلس لتشاركها في جني ثمار نجاح لا يد لها فيه..

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن رياضة كرة المضرب، حيث النتائج المحققة سابقا على الصعيد الدولي كانت بفضل اجتهادات ومواهب شخصية لثلاثة أسماء لا غير، وإلا فلم اختفى اسم المغرب في عالم الكرة الصفراء، بل ذُكر مؤخرا بسبب فضيحة التلاعب في النتائج من طرف بعض لاعبي “النخبة”، وهذا علما أن رئيس الجامعة ليس سوى فيصل العرايشي الخالد في شركة التلفزة والراديو، ورئيس اللجنة الأولمبية..

فهل يصح أن نتحدث عن إنجازات في ظل الرهان على الصدفة وحدها؟

ثم هناك مفارقة أخرى لا ينتبه لها كثيرون، تتمثل في أن الإنجازات، لا ترتبط فقط بالمواهب الاستثنائية التي لا دخل للجامعات في تكوينها أو تأطيرها، بل إن هذه الإنجازات ترتبط أصلا برياضات “الفقراء”.

فإذا تتبعنا المجالات الرياضية التي تألق فيها أبطال مغاربة في العقود الأخيرة دوليا، نجد أنها في معظمها رياضات لا تحتاج إلى تجهيزات كثيرة أو إمكانيات مادية ضخمة، بل ربما تتطلب قوة التحمل فقط.

فالرياضات الحربية لا يتألق في سوى أبناء الطبقات الكادحة من المهاجرين في أوروبا، وزملاؤهم أبناء الأحياء الشعبية في المغرب.

وهذه الرياضات تحديدا لا يقدم عليها سوى “المغامرون” لأنها قائمة على الضرب واللكم والركل..

وألعاب القوى كانت أهم أبوابها بطولات “العدو الريفي” التي تجري في الطبيعة والأوحال ويشارك فيها الحفاة، ومنها تخرج معظم أبطال المسافات المتوسطة، الذين أصبح كثير منهم يفضل الدفاع عن رايات أخرى في الخليج أو أوروبا..

وكرة القدم لا يحتاج واقعها إلى تشريح، بدليل أن المنتخب المنتكس في ساحل العاج ليس فيه من “المنتوج” المحلي سوى بضعة لاعبين احتياطيين، والأغلبية الساحقة من أبناء الطبقة الشعبية المقيمة في أوروبا..

لكن بالمقابل، وهذا مربط الفرس، لا نجد أدنى إنجاز في رياضات “الأغنياء”، التي تتطلب تجهيزاتها أحيانا ملايين الدراهم كسباقات السيارات والدراجات المائية…

ولنتوقف مثلا عند الرياضة التي كانت دائما مثار جدل بسبب “نخبويتها” المبالغ فيها، وكلفتها “المائية” ألا وهي رياضة الكولف التي يستهلك مسلك واحد من مسالكها -حسب خبراء- ما تستهلكه 20 ألف نسمة من المياه.. فهل أنتجت لنا هذه المسالك التي يناهز عددها 56 أي بطل حتى على الصعيد الإفريقي؟

أظن أنه ربما من الأجدى تخصيص هذه المياه لسقي حقول البطاطس التي ستقوي عضلات متعاطي رياضات الفقراء فتتضاعف سرعتهم في الجري، أو تتصفح أجسادهم لتحمل مزيد من اللكم والركل..

***

بعيدا عن التنكيت، أختم بملاحظة مهمة..

تعتبر الألعاب الأولمبية المقياس الحقيقي لاختبار مدى الحضور الرياضي لمختلف الشعوب والدول، وبإلقاء نظرة على جدول ميداليات آخر ألعاب نلاحظ أن الدول العشرة الأولى كلها من الدول المتقدمة، وأن رياضيها حصدوا أكثر من 200 ميدالية ذهبية، بينما تقاسمت 193 دولة 137 ميدالية فقط، بل ومن مجموع الميداليات البالغ 1080، حصدت الأمم العشر الكبرى 587 وتركت لبقية أمم العالم 493 ميدالية

علما أن المغرب على مدى مشاركته في هذه الألعاب منذ إطلاقها سنة 1960، لم يحصد سوى 20 ميدالية 7 ذهبيات و5 فضيات 8 نحاسيات وكلها في رياضة ألعاب القوى، إضافة إلى 4 نحاسيات في الملاكمة..

وعلى سبيل المقارنة المستحيلة، فقد حصدت إيطاليا المركز العاشر في دورة طوكيو 2021، بأربعين ميدالية، 10 ذهبيات، و10 فضيات، و20 نحاسية..

ومع ذلك هنا من يتبجح بالإنجازات..

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي