شارك المقال
  • تم النسخ

من أجل سرديات ضد الرداءة

انتهى شهر رمضان، وانتهت معه كل المسلسلات والسيتكومات والبرامج الترفيهية التي أعدت خصيصا لهذا الشهر، لكن هناك إجماعا على أن أغلب ما كان يقدم كان رديئا، فلا الإعداد الفني كان في المستوى، ولا الموضوعات، أو طريقة أدائها جماليا وفكريا كان وفق المطلوب. وحين تسود الرداءة البرامج التي يمكن أن يتفاعل معها أكبر عدد من المتابعين، لا يمكننا إلا أن نرى أن هذه الرداءة سليلة رداءات أخرى في قطاعات متعددة. وإذا كان العمل الفني عموما يرمي إلى الإمتاع ونشر القيم الجمالية والأخلاقية، من خلال تعامله مع الواقع المعيش دون المستوى، فإنه بذلك يعكس واقعا أعم تهيمن فيه الرداءة على مستويات متعددة تبدأ بالوعي وتنتهي بالعمل. وإذا كان السرد الذي نقول عنه إنه موجود في كل شيء، يملي علينا تعميم مضمون هذه القولة بالذهاب إلى أن الرداءة هي تقريبا في كل شيء، فإن السؤال الذي نطرح: لماذا تسود الرداءة أعمالنا الفنية والأدبية والسردية؟ وهل يكفي إعلان أن هناك رداءة لنكون قد صرحنا بما يجب التصريح به بقصد التجاوز، والعمل على تقديم المختلف؟

تابعت مثل غيري ما كان يقدم خلال شهر رمضان، وكنت أتساءل دائما: لماذا وصلنا إلى هذا المستوى الفني المزري، رغم أن الطاقات البشرية موجودة، والإمكانات متوفرة؟ كما أنني كنت أتابع، بين الفينة والأخرى، بعض ما ينشر من ردود أفعال تكتفي بلعن الظلام بدل إشعال شمعة التحليل للوقوف على مكامن الخلل، وأتساءل: لماذا لا نمارس التحليل الذي يسعى إلى الوقوف على جوانب الضعف بهدف الكشف عنها، والارتقاء بإنتاجاتنا الفنية إلى مستوى أحسن؟ يذكرني هذا الوضع العام بما كنا نتداوله في السبعينيات من القرن الماضي حين كان المسرح نشيطا، خصوصا مع مباريات مسرح الهواة، وما كنا نقوم به في الأندية السينمائية حين نناقش الأفلام المغربية، خصوصا بعد عرضها. كان المشكل الذي يتم التركيز عليه في الغالب: هو غياب النص؟ لماذا لا ننتج عادة نصوصا سردية جيدة تكون قابلة للقراءة، أو للتحول إلى المسرح أو السينما، وتكون في مستوى يؤهلها للارتقاء بالذائقة الجمالية للمواطن إلى المستوى الأرقى؟

بعد كل هذا الزمن يمكنني أن أجيب الآن على بعض تلك الأسئلة بطريقة مختلفة عما كنا نقدمه وقتها. لقد كنا نكتب المسرحية، ونقرأ القصيدة بوعي السياسي الذي يريد نشر قيم جديدة تسهم في التغيير. كان هذا الوضع مهيمنا ردحا من الزمن. لكننا أمام التغيرات التي طرأت على المسرح والسينما، وبداية إنتاج المسلسلات، وبعد ذلك السيتكومات، بدأ الاهتمام يتركز أكثر ليس على المشاركة في نشر الوعي، لكن على إثارة الضحك. وبسبب التركيز على «القضية» الكبرى، أو «السخرية» المرة، كان التفريط في كيفية المواءمة بين المحتوى والشكل الفنيين، وكأن حصول أحدهما (المحتوى) دون الآخر كفيل بتحقيق المراد. وكانت التحليلات التي نمارسها وهي تعطي أسبقية المحتوى على الشكل ترى الشكل أداة فقط، وكأنه بلا مضمون؟

هذا التصور الذي اشتغلنا به في السبعينيات، ونحن نشارك في الجمعيات الثقافية هو الذي مارسناه في التحليل الأدبي عموما، والسردي بصورة خاصة بعد أن صارت الرواية النوع السردي المهيمن، ودفعتنا البنيوية إلى تجاوز ذاك التصور عندما بدأنا نستشعر أهمية الشكل وقيمته في أي عمل فني، سواء كان أدبيا أو غير أدبي. وصارت الدراسات السردية مدخلا للتفكير في فنية العمل السردي وجماليته في الثمانينيات وحتى التسعينيات، ثم بدأنا نضيق ذرعا بالشكل، رغم أننا لم نقدم فيه تراثا حقيقيا، ومقنعا، ولم نراكم فيه عطاءات نوعية، وبتنا نطالب بالرجوع إلى المحتوى والسياق، وأن الأدب هو المحتوى دون شكل أو تقنية؟ وإذا كانت مسوغات الارتهان إلى المحتوى سابقا مشروطة بوعي سياسي سائد، نجد الأمر مختلفا حاليا، وقد صار الاهتمام «المثقفوي» خاليا من أي دعوى أيديولوجية محددة، أو أفق سياسي مناسب.

ما هي علاقة السرديات بالرداءة؟ إنها علاقة الوعي بالموضوع الذي نشتغل به، فحين يكون وعينا الفني متدنيا لا يمكن للعمل الفني الذي نقدم إلا أن يكون رديئا. وتدني الوعي يعني تأخرنا في فهم العمل الذي نقوم به، سواء كنا مبدعين أو محللين. جاءت السرديات، باعتبارها علما للسرد سواء كان فنيا أو يوميا، لتقدم لنا تصورا للتحليل، وعلبة أدوات للقراءة. ولعل الأساس الذي انطلقت منه في تحديد السرد يكمن في جماليته، وحين لا نعطي لهذه القيمة الجمالية ما تستحق من العناية باعتبارها جوهر أي عمل فني في اشتغالنا الفني بالرواية، أو المسرحية أو السينما، أو غيرها نكون نعنى بمضمون بلا شكل، ونرمي إلى الإضحاك بلا قيمة فنية. وحين نقدم أفكارا، مهما كانت قيمتها، بلا طريقة جميلة، نكون نقدم الرداءة، وحين نمارس الإضحاك دون جمال، نكون نضحك على الذقون.

يتميز الإبداع الأدبي، عموما، والسردي خاصة، بجماليته التي تتحقق في شكله ومضمونه معا. وغيابها يعني الرداءة التي على السرديات أن تعمل على مواجهتها.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي