شارك المقال
  • تم النسخ

د. إدريس بنيعقوب يكتب: وزير الأوقاف والربا ومحاولات علمنة اللغة وفصلها عن سياقها الديني والثقافي

جاء في الدرس الذي ألقاه  السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يوم الجمعة 15 مارس من هذه السنة 2024 ضمن سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية والتي تبث على القنوات التلفزيونية بشكل مباشر، في موضوع “تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين”، انطلاقا من الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”: “أما القضية الثالثة عشرة فتهم التعامل مع الأبناك، ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك، أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار، وفي ما عدا ثمن الأجل ومقابل الخدمات فإن الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصاد في البلد”.

وتجذر الإشارة إلى أن السيد التوفيق لا ينتمي بحكم تكوينه، ولم يعرف عنه مناقشة الفقهاء والعلماء في قضايا فقهية أو في فتاوى شرعية، مناقشة علمية بواسطة مؤلفات مؤسسة على أسس النقاش الفقهي المتأصل، لذلك فإن خوضه في مثل هذه المواضيع والقول فيها قولا يفيد الحقيقة العلمية النهائية، ما قد يضعه كمشرف إداري عن قطاع تدبير جزء من مؤسسات التدين، خصما للمتكلمين والمحدثين الشرعيين المالكيين، وأيضا خصما للجماعات الإسلامية، وحليفا محتملا للتيار العلماني الذي يبشر بحرية المعتقد ويرفض التقعيد المعياري لإمارة المؤمنين.

لذلك فإن موضوع الدرس كان مرتبطا بإمارة المؤمنين بهدف دعمها وصيانتها وسط الجدالات المنتشرة حولها، لكنه يبدو لنا أن وزير الأوقاف أساء إلى هذه المؤسسة أكثر مما نفعها درسه الرمضاني هذا، لأنه في عند حديثيه عن الربا فكأنه أفرغ الملكية والملك والحكم من إمارة المؤمنين الدينية، ووضع مكانها نظام علماني غربي لا ينطبق مع أطروحات الخصوصية المغربية.

لذلك فإننا نرى أن مناقشة رأي السيد وزير الأوقاف يتجاوز المواقف الفقهية والفتاوى، إلى خبايا لغة تواصله في هذا الدرس، وإلى الخطاب الذي اعتمل في درسه والذي في نظرنا يلامس العلمانية اللغوية، ويحاول فصل اللغة عن سياقها الديني والفقهي والثقافي، مما يستدعي النظر في عدة مفاهيم ترتبط بالموضوع في أفق وضع صورة شاملة عن محاولات علمنة اللغة بالمغرب منذ فترة الاستعمار الفرنسي.

لقد واجه  العقل السياسي-الاستعماري الفرنسي، في سعيه لفرض توجهاته وفرض مبادئ  الجمهورية الفرنسية  “العلمانية” وفي سعيه لبناء نظام جديد في المغرب، صعوبة  تدبير العلاقة مع الإسلام ومؤسساته ورموزه، حيث يعتبر الإسلام المصدر الرئيس للشرعية السياسية في النظام السياسي التقليدي بالمغرب[1]. وقد استطاع الساسة الفرنسيون وعلى رأسهم المارشال ليوطي (Hubert Lyautey) التغلب على هذه الصعوبات، وتحقيق نوع من الاستقلالية للمجال السياسي عن الديني، وإعادة تنظيم المرفق الديني والأوقاف الإسلامية، وحصر الدين ووظائفه في زوايا ضيقة تتعلق بالعبادات، والأحوال الشخصية، والإرث، وبعض القضايا العقارية بعدما كان حاكما ومهيمنا على كل شيء[2].

ويركز الباحثون عند دراسة العلمانية في علاقتها بالديمقراطية وبالدولة المدنية وأيضا بمكانة الدين في الدولة العلمانية، على مسألة الفصل بين التشريع الديني وبين الحياة السياسية، غير أنه يمكننا القول بأن العلمانية هي أيضا نسق ثقافي وفكري، بمعنى أن مسألة علمنة دولة ما أو مجتمع ما ليست فقط عملية فوقية تهتم بوضع حدود في العلاقة بين السلطة والسياسة والقانون وبين الدين، وإنما تمتد أيضا إلى الوجود الثقافي واللغوي للدين في حياة الناس.  إن اللغة ليست مجرد وعاء لغوي للكلمات تستعمل في مجال الكلام والتواصل فحسب، وإنما هي تنطوي على ثقافة، تاريخ، وعي وهوية معينة، فالمجتمعات تعبر من خلال اللغة عن ثقافتها وعن تراثها وتاريخها، وإن هناك مفردات وكلمات نشأت في سياق ذهني وسياسي معين ومن الصعب فصلها عن سياق النشأة في أذهان المستعملين[3].

مفهوم علمنة اللغة

يقصد بمفهوم علمنة اللغة “إبعاد الدين عن صياغة التصورات والمفاهيم والمصطلحات الدارجِ استخدامُها في عمليات التواصل في كل الميادين بما فيها الميدان الديني”، واختزال الديني في  شعائر علنية للعبادات كالصلاة مثلا، ليسهل فصله عن تشريعاته التي تنظم أمور الدنيا و لإنشاء أجيالٍ تتقبل الفكرة العلمانية وتعمل على تقريرها والتوسع في اعتمادها، أي أن تكون هناك خطط ثقافية وسياسية تحصر استخدام المصطلحات ذات الحمولة الدينية في المجتمع ككل، سواء بالقيام بمجهود فكري ولغوي، لإعادة صياغتها أو فصلها عن هذا الأصل وربطها بمفاهيمَ علمانيةٍ حتى لا تعارض الشؤونَ الدنيوية ولا تفرض حمولتها الدلالية على مستخدميها.

وتعد عملية علمنة اللغة خطوة أساسية من أجل مشروع كبير يهدف لتأسيس علمانية شاملة تضم الدولة والمجتمع، بطريقة سلسة ودون صدامات. وقد تمر العلمية عبر مناهج التعليم وعبر الإعلام وأيضا عبر اللغة المستعملة في الإدارة والقانون، لكي يتقبلها المجتمع على مراحل وبدون صدامات وحتى تخرج اللغة الدينية ومعانيها في المخيال العام وتحل محلها لغة ومصطلحات ليس لها دلالات ذات مرجعية دينية.

وهناك أمثلة في اللغة الانجليزية تعبر عن التغيير الذي وقع في بنية المصطلحات لإخراجها من دلالاتها الدينية. مثلا كلمة Christmas،  والتي يعتقد الناس أنها تعني ولادة المسيح والتي كانت في الأصل Christ’s Mass،  أي موت المسيح وليس ولادته. ثم تحول الاستعمال في كلمة God be with you،  أي الله معك تحولت إلى استعمال لغوي آخر فأصبحت good luck   أي حظ جيد، ثم كلمة God willing  أي بمشيئة وإرادة الله، فصارت تستعمل مكانها hopefully،  أي على أمل ذلك، بمعنى أن هناك إخراج لهذه المفردات من سياقها الديني[4]، وإخراج كل ما له علاقة بالدين وبالله من حركة ونسج نظام يؤسس لإرادة الإنسان منفصلة عن إرادة الله حسب هذه المصطلحات، وهذه في نظرنا تعد أحد محاور اشتغال العلمنة الذي تجاوز علاقة الدولة والمجتمع بالدين إلى فصل الانسان أو الفرد عن الدين.

ويرجع الباحثون صعوبة علمنة اللغة العربية دون سواها، لكونها تتميز بثبات دلالات مصطلحاتها، ولاتصالها بالقرآن الكريم وبأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، رغم محاولات زرع ترجمات لمصطلحات غربية مثلا في السياق العربي، فالواضح أنها لم تتوفق في إزاحة المصطلح العربي الأصلي من سياقه الثقافي ومن الاستعمال العام.

في علاقة اللغة بالدين وبالسياق العام

لقد كانت العلاقة بين اللغة وبين السياق السياسي العربي كبيرة، فظهور مصطلح “نائب الفاعل” في الدراسات النحوية -على يد الإمام النحوي ابن مالك الجياني ( 672هـ/1271م)، كان استلهاما من “حقل السياسة ليواكب فيما يبدو تضخم سلطات نائب السلطان”[5]. وهذا الاتساع في صلاحيات “نائب السلطان” هو الذي جعل السبكي -وكذلك ابن تيمية- يفرد له الكثير من التفصيلات في الحديث عن الولايات والصلاحيات، لا سيما إذا عرفنا أن الكثير من السلاطين تولوا الحكم وهم دون سن البلوغ فكان نوابهم هم المتصرفون[6].

وفي اختيار المصطلحات وارتباطها بالدين أو التصوف أو السياسية هناك أمثلة كثيرة في السياق النحوي العربي ومن أشهرها، ما ذهب إليه تاج الدين السبكي المصري ( 771هـ/1369م)، في كتابه “معيد النعم ومبيد النقم” في التمييز بين كلمة “الشكر” و”الحمد”، مفضلا الشكر على الحمد لأن الحمد هو سلوك قلبي، ينبغي أن يكون حال كل فرد لإنسان سواء في نعمة أم في ابتلاء، أما الشكر فلا يكون إلا عند حضور النعمة. والشكر وصفه القرآن بالعمل (اعْملوا آلَ داودَ شُكرا)؛ (سورة سبأ/الآية: 13). وهو رد الفعل اللازم تجاه أي مِنة أو هِبة مست الإنسان، وبالتالي فهو فكرة معيارية يمكن أن تحس وتشاهد. وربط السبكي سؤال الشكر بالأمة ككل وبحكامها، وفي مقدمة ذلك أن يمارس الناس وظائفهم ومهنهم على الوجه الأمثل دينا للتقرب بها إلى الله، باعتبارها شكرا لنعمه التي جاد بها الله على صاحب الوظيفة أو الصنعة، وهذا يرفع من مستوى الاحتراف والإنتاجية بإتقان العمل[7].

ولاشك أن اللغة العربية بحمولتها الدينية نتجت وتطورت بعد اتصال قوي وطويل الأمد مع الدين، مما ساهم في تشكيل هوية لغوية للمتحدثين بها. فمثلا هناك مصطلحات لها عمق ديني وأخلاقي يستعملها الناس بشكل يومي، ككلمة الصدقة في اللغة العربية كقيمة دينية وأخلاقية وصفة تدخل الجنة، في مقابل كلمات في الفرنسية والانجليزية لا تحمل ذات المعنى.

أيضا كلمة “رزق”، على سبيل المثال، التي كانت تدلّ في النسيج القرآني على ما يهبه الله من الخيرات لعباده، صارت تعني “لقمة العيش” التي يكسبها الإنسان بكدّ يمينه. وأكثر المجالات التي تأكّدت فيها هذه العَلْمَنة هي المجالات السياسية والقانونية، بحيث تحرّرت المفردات من حمولاتها الفقهية التي التصقت بها لقرون وصارت تُحيل على مبادئ قانونية وضعية. وهناك كلمات أخرى أخذت في الاختفاء لتحل محلها مصطلحات أخرى كمصطلح الشذوذ الجنسي، وما يعنيه من حمولة دينية لاسيما فيما يتعلق بالتحريم الديني للشذوذ، والذي كان من بين أنواعه ممارسة الميول الجنسي مع نفس الجنس ثم بدأ المصطلح في التواري فحل محله مصطلح المثلية الذي يعني الانجذاب الجنسي إلى شخص من نفس الجنس، سواء بسبب عوامل بيولوجية أو نفسية أو بسبب اختيار هوياتي عادي[8].

وهناك مثال أكثر دلالة يتعلق الأمر بكلمة “الربا”، التي يعتبرها الإسلام محرمة على الناس، والتي حل محلها في المؤسسات والبنوك والإدارة بفعل القانون والتنظيم، مصطلح “الفائدة البنكية”، لتخرج من سياقها الديني الذي يصنفها في خانة الحرام والممنوعات والأمور السيئة السلبية، وتتحول إلى ميزة إيجابية وقيمة اجتماعية واقتصادية، ومع ذلك لازال الجدال مستمرا حولها حينما يلجأ الناس إلى فتاوى الفقهاء حول جوازها فيكون غالبا رد الفقهاء أن استعمالها حرام إلا للضرورة القصوى. فالمصطلح وإن تم تغييره بمصطلح آخر إلا أن معناه الديني لايزال حاضرا، مما قد يساهم في خلق نوع من التفرقة بين المتدينين وغير الملتزمين دينيا الشيء الذي قد يكون له آثار على الاختيارات السياسية عموماً للفرد أو على ميولاته الحزبية.

ولعل أبرز العوائق التي تحول دون علمنة اللغة العربية بشكل عميق هو ارتباطها، في المخيال الجمعي، بالدين الإسلامي باعتبار القرآن نزل باللسان العربي. وقد بُني هذا التلازم على “سلسلة مصادراتٍ متخيَّلة وخيارات عقدية وأيديولوجية يجدر تفكيكُها: أولاها أنَّ الله اختار هذه اللغة للتعبير عن مراده الأزلي، فانتقى من كلماتها وتراكيبها ما يترجم “مقاصده” التي أراد إبلاغها للناس. وتفنّن علماءُ الكلام المسلمون في توضيح هذه العلاقة وانتهى الأشاعرةُ إلى افتِراض ثنائية “الكلام النفسي”، أي: المعنى القائم بذات الله، والكلام اللفظي وهو التعبير عنه، مع تأكيدهم أنه قد يكون غير عربي، لأنَّ الله تعالى تكلّم مع الأنبياء بلغات أخرى”.[9]

إضافة إلى ذلك فإن كل حقول وعلوم الدين ومصطلحاته وفقهه وتفسيراته تبلورت باللغة العربية وانتشرت. وهناك نصوص تشريعية كثيرة منها مثلا مدونة الأسرة في المغرب أو نصوص مرتبطة بالعقارات والحقوق العينية والأوقاف وغيرها، تحمل مفردات ذات معنى ديني وفقهي إسلامي صرف. وهذا لا يعني أن قداسة العربية عقيدة، بل إن استعمالها هو حرية شخصيّة، وليست مما يُفرض على الناس بالقوة، فالقاعدة الأساسية في الإسلام هي أنه “لا إكراه في الدين”.

وقد عرفت المنطقة العربية والإسلامية محاولات لفصل العربية عن المقدس، حيث  نادى عدة مثقفون عرب منذ أواخر القرن 19 إلى ضرورة كتابة العلوم الحديثة باللغة العامية[10]. ومنهم من ألف الكتب ونظر العلمية و لقواعدها ومنادياً باتخاذها لغةً للعلم والأدب، وحتى كتابتها بالحروف اللاتينية، وحثّ على استخدامها في تدوين العلوم، مؤكّداً أنّ اختلاف لغة الكلام عن لغة الكتابة هو من أهم أسباب تخلُّف العرب الثقافي، كما رأى البعض أنَّ تعلُّق المسلمين بالفصحى لا مبرّر له، لأنَّ الكثير منهم لا يتحدّثونها ولا يكتبون بها، ولأنّ لغةَ العرب المسلمين هي غير الفصحى، وطالبوا التحرُّرَ من رقِّ لغة صعبة المراس، استنزفت أوقاتهم، وهي مع ذلك لا توليهم نفعاً، بل أصبحت ثقلاً يُؤخِّرهم عن الجري في مضمار التمدُّن، وحاجزاً يصدُّهم عن النجاح[11]

واستمرت الدعوات إلى عدّ العربية كائناً “دنيوياً”، ومحاولات فصلها عن الدين، فكانت تجربة الدولة التركية في عهد مصطفى كمال أتاتورك بعد سقوط نظام الخلافة الإسلامية، سباقة حينها في هذا  الموضوع، بحيث تم استبدال كتابة التركية بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية. وفي كتابات أدباء مفكّرين عربٍ كُثر كان “أجرأهم” عبد العزيز فهمي الذي “اقترح” سنة 1943 كتابة العربية بالحروف اللاتينية. ثم أحمد لطفي السيد وسلامة موسى ولويس عوض الذي قال: “ما من بلدٍ حيٍّ إلّا وشَبَّت فيه ثورة أدبية هدفُها تحطيم لغة السادة المقدّسة، وإقرار لغة الشعب العامية أو الدارجة أو المنحطّة”. وفي المشهد الثقافي الفرنسي أعيد هذا النقاش مؤخرا، عندما صرح وزير الثقافة الأسبق جاك لانغ حول ضرورة “سحب تعليم العربية من أيدي الإسلاميّين”[12].

محاولات علمنة اللغة بالمغرب من قبل الاستعمار الفرنسي

ومن أمثلة محاولات علمنة اللغة والمؤسسات في المغرب وظيفة مؤسسة المحتسب، هذه المهمة التي كانت تستند إلى شخصية تمتاز بحسن الخلق والمروءة والتفقه في الدين. فقد كانت مرتبطة بما يمكن وصفه بمهام شرطة تعمل على مراقبة الأسواق وحماية الناس من الغش وأيضا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعادت إدارة الحماية الفرنسية تنظيمها وحصر اختصاصاتها في أمور مراقبة الأسواق فقط من الغش في السلع والأثمنة[13].

ثم هناك إصدار الظهير البربري لسنة 1930، الذي حاولت من خلاله الحماية الفرنسية فصل الثقافة الأمازيغية عن الفضاء العربي المسلم، بتمتيعه باختصاصات حل نزاعاته عن طريق تأسيس محاكمه الخاصة المؤسسة على أعراف الأمازيغ وليس على أساس الشريعة الاسلامية[14]. وإضافة إلى ذلك كل النصوص القانونية التي أسسها الاستعمار الفرنسي في المغرب منذ 1912، في القانون المدني وفي تنظيم المهن والتعمير والمدن، تحمل مصطلحات غربية ولدت في سياق علماني فرنسي، وتمت ترجمتها بناء على معناها في ذهنية العلمانية الفرنسية. وقد يكون النقاش الذي ساد مؤخرا في المغرب حول التدريس في المدارس المغربية باللغة العامية بدل اللغة العربية الفصحى، أحد هذه المحاولات لإخراج العربية من سياقها الذهني والثقافي الديني.

 ويعتبر هذا الموضوع أحد الإشكالات التي قد تحتاج إلى دراسة مستقلة مستفيضة وشاملة لاتسع هذه الورقة لتفصيلها بشكل موسع.

وكان من أهم ما جاء به الاستعمار الفرنسي هو فرض اللغة الفرنسية في مجموعة من المجالات وعلى رأسها صناعة القاعدة القانونية الوضعية، وبذلك فلا شك أن العقلية العلمانية بلغتها وتصورها لما هو ديني وما هو زمني، ستنعكس على عدد من النصوص القانونية والمفاهيم وعلى لغة الإدارة وغيرها، وهي محاولة يمكن أن نصفها بأنها محاولة لعلمنة  اللغة المستعملة بين الدولة والمجتمع من خلال القواعد المعيارية، ومن خلال التعليم الحديث الذي فرضته فرنسا وأيضا بواسطة نصوص قانونية حديثة مقارنة مع قواعد الفقه الإسلامي الذي كان سائدا قبل الاستعمار. ويرى المؤرخون أن عملية تجاوز الشريعة الإسلامية في علاقتها بالقانون وفي علاقتها بالتوصيفات اللغوية للجرائم، بدأت فعليا  سنة 1914 بصدور ظهير «مجلس الجنايات»، الذي أوكلت له مهمة النظر في الجنايات الخطيرة التي يكون الحكم على مرتكبها بالسجن والغرامة المالية. تجاهل هذا الظهير بصورة شبه كلية الإحالة على الشريعة الإسلامية، “مع  العلم أن عددا من الجرائم المشار إليها في هذا القانون هي «جرائم شرعية»، تتعلق بالحدود وعدد من أحكام الفقه الجنائي الإسلامي”[15].

 وقد نص هذا القانون المحدث لهذا المجلس في فصله الرابع على ما يلي: ” يصدر الحكم بأكثر من عام واحد وبذعيرة تزيد على الألف بسيطة حسنية الجرائم الآتي ذكرها :

أولا: الخروج عن الطاعة والبحث عن الثورة والشتم الموجه نحو الملك؛

ثانيا : القتل عمدا والجرح المبرم المتسبب عنه الموت غالبا وقتل الأطفال وإسقاط الجنين عمدا؛

ثالثا: اختطاف المرأة والزنا بها؛

الرابع: إيقاد النار المؤدية للحريق عمدا؛

الخامس: النهب بحمل السلاح؛

سادسا: السرقة واختلاس الدراهم بالتحايل وأخذ الرشوة إذا كان مبلغ ما ذكر أكثر من خمسمائة بسيطة حسنية؛

سابعا: تزوير السكة وتقليد الطوابع أو خيانة الإمضاء بها وتزوير الكيل والوزن ؛

ثامنا: تزوير الأوراق”[16] .

ومن تم، فجرائم الفساد أو قطع السابلة، والقتل العمد، والنهب والسرقة.. لها أحكام واضحة في الشريعة الإسلامية، ومتوارثة، وكان يمكن الاجتهاد فيها، وتعويضها بأحكام أخرى من قبيل ما جاء في هذا القانون استنادا إلى أدلة شرعية واضحة، غير أن شيئا من ذلك لم يحصل. ومن المثير للانتباه في هذا السياق أن صدور هذا القانون كان بتوقيع أحد شيوخ السلفية الوطنية المغربية وأحد رواد الإصلاح السلفي الشيخ أبو شعيب الدكالي، بصفته نائبا للصدر الأعظم[17].  وسيتعزز هذا الاتجاه في الخروج عن مرجعية الشريعة الإسلامية بصدور قوانين أخرى من قبيل الظهير المتعلق بالأوباش وبالأشخاص الذين يتعاطون صناعة القوادة على النسوة. لم يكتف هذا الظهير بالنص على أحكام وعقوبات غير «شرعية» جراء هذه المخالفات، بل تعداها إلى تبني أحكام القانون الجنائي الفرنسي في هذ الباب، بلغة شبيهة بالمفاهيم والمصطلحات الفرنسية[18].  واستمر نفس التوجه في محاولة إخراج الدين والثقافة الدينية من حياة الدولة المغربية، عن طريق الاهتمام بعصرنة التعليم وتهميش التعليم الديني[19]، الشيء الذي سيكون له على ما يبدو تأثير على نشوء نخب الدولة وعلى صراعاتها أيضا.

وخلاصة القول يمكننا أن نستنتج بشكل أولي أن هذا الإرث الاستعماري سواء في محاولات ضبط المجال الديني وفصله عن الدولة والسلطة، أو في مسعاه  لفصل الحمولة الثقافية للغة العربية عن التدبير العمومي وعن التشريع، في مشروع علمنة شامل حينها، يكون قد حاول خلق ذهنيات جديدة وثقافة عمومية جديدة داخل الدولة المغربية، ويمكننا أن نقول أن أثر هذه العملية، أي محاولات علمنة اللغة، نتج عنها صراعات نخبوية فيما بعد في تاريخ المغرب المستقل، شملت الحياة السياسية بشكل كبير وخلقت نوعا من الصدام الثقافي داخل المجتمع بين ثقافة تقليدية أساسها الدين، وثقافة عصرية أساسها أفكار غربية في شتى المجالات. غير أنه من الواضح أن الدولة المغربية من خلال سياستها في تدبير الحقل الديني بعد الاستقلال وإعادة الروح لدور الدين في الفضاء العام لاسيما بعد الترخيص لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية لممارسة السياسية بشكل شرعي وعلني يعد أحد مراجعات الدولة لأسلوب تعاملها مع المكون الاسلامي وفق مرجعية مغربية خاصة وخالصة لا تقصي الدين من الحياة العمومية. كما أن هذا الصراع بين دعاة العلمنة ودعاة الحفاظ على التوازن الحالي، يتجلى أكثر حالياً، من خلال مطلب تقنين حرية المعتقد التي تعتبر حرية ذات بعد فلسفي قد يكون إقرارها بمثابة بداية لتفكيك مفهوم مؤسسة إمارة المؤمنين، التي ترتكز على آليات اسلامية كعقد البيعة مثلا، مما قد يضعنا أمام نوع من الالحاد السياسي يدخل الدولة والمجتمع في صراعات قوية في سبيل تغيير أو الحفاظ على طبيعة النظام السياسي برمته، وقد تكون هذه هي نقطة الالتقاء بين دعاة حرية المعتقد وبين جماعة العدل والإحسان.


[1] جبرون امحمد، الملكية في أفق جديد، أسئلة الدين والديمقراطية والنموذج التنموي، دار الإحياء للنشر والتوزيع، طنجة، الطبعة الأولى، 2023، ص: 84.

[2] Susan Gilson Miller, A History of Modern Morocco, Cambridge university press, 2013, p: 92.

[3] علمنة اللغة كمدخل لعلمنة المجتمع، مجلة تبيان الإلكترونية، 21 يوليوز 2019، الرابط: https://tipyan.com/secularization-of-language

[5] عبد الله الطحاوي، رفضوا مساجدهم “الحرام” وقوانينهم الوضعية وقدموا رُؤى للإصلاح.. هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟، مقال منشور على موقع الجزيرة، بتاريخ 16 نونبر 2021، رابط:  https://urlz.fr/mIf8

[6] عبد الله الطحاوي، رفضوا مساجدهم “الحرام” وقوانينهم الوضعية وقدموا رُؤى للإصلاح..، مرجع سابق.

[7] نفس المرجع السابق.

[8] نجم الدين خلف الله، مصادرة العربية مرّتين: بين قداسة اللغة والتطرّف العلماني، منشور على الموقع الالكتروني لجريدة العربي الجديد، 24 ماي 2019، رابط: https://urlz.fr/mIeW

[9] نجم الدين خلف الله، مرجع سابق

[10] نجم الدين خلف الله، مرجع سابق

[11] نجم الدين خلف الله، مرجع سابق

[12]  نجم الدين خلف الله، مرجع سابق

[13] إدريس أجويلل، “دور المحتسب في حماية المستهلك ومراقبة الأسعار”، مجلة الإحياء، إصدارات الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، العدد 21، 2016، الرابط: https://urlz.fr/nsuZ

[14] امحمد جبرون، الملكية في أفق جديد مرجع سابق، ص: 142. 

[15] جبرون امحمد، الملكية في أفق جديد، مرجع سابق، ص: 85.

[16] انظر الجريدة الرسمية، عدد 40، بتاريخ 6 فبراير 1914، ص: 57.

[17] أنظر اسم صاحب التوقيع في نفس المرجع السابق.

[18] انظر الجريدة الرسمية عدد 47، بتاريخ 27 مارس 1914، ص: 105.

[19] جبرون امحمد، الملكية في أفق جديد، مرجع سابق، ص: 90-91.

*باحث في علم الاجتماع السياسي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي