شارك المقال
  • تم النسخ

توفيق قريرة يكتب عن “سيميائيات الخريف”

 توفيق قريرة*

أسراب من سنونو الشّبابيك تجتمع كلّ صباح فوق أسلاك الكهرباء تتخذها مطارا تطير منها في أسراب، وعلى أشكال تحسبها فوضى وهي نظام، وتجعلها محطتها تقع عليها بلا تدافع، تحسبها تتخاصم على كراسيّها السلكية، لكنّها لا تأبه بالجلوس ولا بالكراسي.


الأصوات التي يصدرها السنونو اليوم هي نفسها التي أصدرها بالأمس، ولكنه يقول بها شيئا آخر، فلعلّه يعلن بها قدوم الخريف.. ولعلّه يخطّط للهجرة. أسراب السنونو التي أراها في هذا الصباح الخريفيّ المنعش لا تثير فيّ إلاّ بالتداعي قصّة العودة في أغنية فيروز: سنرجع يوما: «أسراب السنونو عادت إلى الشبابيك العتيقة.. أترى نرجع مثل سنونو مثل راع جبليّ مثل شراع عائد؟».


مالي وحكاية عودة يائسة.. الخريف هو العائد الوحيد هذا اليوم.. عائد تفرح له النفس رغم أنّ كثيرا من الأنفس لا تريده.. مالي وللأنفس الأخرى.. وللخريف سيميائيات تستهويني هذا الصباح؟ لا شيء في المجَال اسمه خريف هو شيء له أثر، ولكنّه لا يُرى هو ليس زمانا وإن كان يُعدّ في الزمان، هو ليس مكانا وإن كان له أثر في المكان، هو ليس حقيقة وإن كان له أثر في الحقائق، هو ليس استعارة وإن كان له أثر في الاستعارات.. هو شيء عابر تشعر بعبوره ولا تراه تشمّه ولا تقطفه ّ إنّه أثر لشيء مرّ من هنا، بل هو بصدد المرور.


عنفوان الصيف الذي تراه في النور المبهر، وتشعر به في اللّفح الحارق ينكسر حين يجيء الخريف، من لا يحبّ الخريف يلبسه ثيابَ البشر ويمثّله في صورة شيخ هرم في أرذل العمر، يأتي ليعلن أنّ الطبيعة ستثور قريبا، وأنّ الطــــوفان ربّما في الطرقات.. ومن يحبّ الخريف يلبسه ثياب البشر، ويمثّله في صورة شيخ هرم في أرذل العمر، يأتي متهاديا حكيما رصينا يأمر بيد متعبة، لكنها واثقة فصْلا شابّا كأعتى ما تكون الشبيبة يأمره أن انصرف.


الخريف سيميائيّا لا استعارة تحكمه، هو دلالة لا تحتاج أن تلبس ثياب الاستعارات لتقول معناها. سيميائيات الخريف تعتمد كسيميائيّات كلّ فصل، الاستدلال الاقترانيّ: يُستدلّ على معانيها بآثارها القريبة في الفضاء الأرضي والسماوي وفي عناصر ذلك الفضاء النورانية والنباتية. علاماتها هي المؤشّرات لا الرموز ولا الإيقونات المؤشّرة: هي الآثار المحسوسة لظاهرة معيّنة، هي تعبير مباشر عن الشيء الظاهر، لذلك تكون مرتبطة بالشيء نفسه، كارتباط الدّخان بالنار حين يكون الدخان مؤشّرا على وجود نار. من السهل إن كنت تبحث عن النار أن تتبع خطى الدّخان. هذا أمر بدهيّ من فرط وضوحه، لكنّه لم يكن في أوّل ارتباط الدّخان بالدلالة على النار كذلك. لم ينفصل دخان عن نار البتّة فهذا اقتران أبدي لكن أن يستعمل الإنسان (أو الحيوان الذكي) النار دليلا فذلك هو الاستعمال العلامي له. نارنا في حديثنا هو الخريف والدخان هو كلّ شيء دالّ في الطبيعة عليه دلالة سيميائيّة.


الفصول تختلف باختلاف التقطيع الثقافي للزمن الطبيعي فهناك ثقافة تقسّم ذلك الزمن إلى أربعة فصول، وأخرى تقسّمها إلى فصلين لا غـــير، بينما يتسع التقسيم في ثقافات أخرى إلى ستة فصول. كلّ هذه التقسيمات مقبولة ثقافيّا كما أنّ كلّ تقسيم لغويّ للكون مقبول ثقافيّا (بالطبع نحن لا نتحدّث هنا عن مقاييس العلماء في تقسيم الفصول بمقاييسهم الفلكيّة). الخريف الذي سنتحدّث عنه ههنا هو خريف يقع في القسمة الرباعيّة للفصول.

ما يعرف بسيميائيّة الفضاء يمكن أن توصلنا إلى دلائل الخريف. الفضاء الطبيعي هو أقدم المؤشّرات على الفصول، بعض علاماته تقع تحت مسمّى عربيّ قديم هو النّصبة. فالأشجار على سبيل المثال تنتصب طبيعيّا لتدلّ على الفصول، هي لا تدلّ عليها، إلاّ إذا أردناها أن تفعل. تدلّنا الأشجار غالبا على الخريف حين تصفرّ أوراقها وتتجرّد منها أغصانها. ما يفعله الخريف بالشجر أنّه يجعلها بعناصره نصبة تتحرك من أجل أن تسقط أوراقها وتنكشف غصونها.. تتعرّى استعدادا لنوم الشتاء. يفعل الخريف بعناصره: الريح والرعد والعواصف ما لا يفعله الشتاء بالعناصر نفسها هو بها، ويعلن الخروج من إيقاع السكينة والهدوء إلى إيقاع الحركة والاضطراب.


في الألوان والأضواء ما يمكن أن نوظّفه في سيميائيات الخريف، لكن بجمع بين العنصرين، فالألوان الباهتة والأضواء الخافتة هي ما يميّز هذا الفصل، ذلك أنّ اللّون المسيطر على الخريف هو اللون الرمادي، الذي ينسجم مع النور الخافت لماض من توهج النور في الصيف، إلى انكسار الضوء في الشتاء. كلّ شيء يصل في الصيف إلى ذروته النارية، ثم تعود الحركة مع الخريف تراجعا وانحدارا، وكلّ شيء يصل في الشتاء إلى ذروته المائيّة، ثم تعود الحركة مع الربيع تراجعا وانحدارا، والتراب بين الحركتين: بين الجمر والغمر. هناك موسم وسط لتعديل الذروتين المائية والنارية، ويكون الخريف موسما لتعديل الذروة الناريّة، لذلك قال بعضهم إنّ الخريف هو ربيع الشتاء.


الجسد الذكيّ: جسدنا يمكن أن يكون معبرنا الثّالث إلى سيميائية الخريف شريطة أن نعتبره جزءا من سيميائية الفضاء. يقول السيميائي الفرنسي غرايماس إنّ «الجسد يتحرّك داخل سياق فضائيّ ينبغي أن يكون، في وقت سابق، قد مْقِوَلَ لحاجات وصفيّة، بالحجم البشري الذي يملؤه ويقع فيه ويتحرك»، لذلك يكون الجسد الذكيّ جزءَ دلالة من علامات طبيعية على تغيّر الفصول، لكنّه ليس كعلامات طبيعيّة أخرى من نوع النّصبة، الجسد الذكيّ علامة حسيّة حركيّة يبعث إلى أذهاننا رسائل بها نعلم أنّنا في فصل معيّن. كلّ جسد يتكيّف مع المحيط الخارجي لكن عليه أن يستوعب، بما هو جسد ذكيّ، الفصل الذي هو فيه. شعورنا بأجسادنا وهي في فصل معيّن هو جزء من شعورنا بأجسادنا وهي في زمان وفي فضاء معيّنين. نحن لا ندرك أجسادنا وهي معزولة عن زمان أو مكان يحويانهما، ونحن نوظّف وعينا بهذه المظروفيّة في تجاربنا النّفعيّة مع أجسادنا. في الصيف وحين نشعر بالبرد ليلا لا نحتاج أن نلبس شيئا إضافيّا، لأننا سنترجم البرد إلى شعور بالانتعاش. وفي الخريف سيكون لبرد أجسادنا رسائل أخرى غير تلك، لذلك علينا أن نحسن استلام الرسالة، صحيح أننا سننتعش، ولكنّنا سنفكر في الشتاء المقبل لذلك نضيف لباسا خفيفا.


يمكن لأجسادنا أن تحمل آثار سمرة الصيف. في الصيف يعرض الباحثون عن التسفّع أو التسمّر أجسادهم للشمس، فيحصلون على حمّام شمسيّ وهم على شاطئ البحر. تحمل أجسادهم علامات الصيف ويتجمّلون بها: إنهم كسروا رتابة البياض. لكن لا يترك الخريف أثرا على الأجساد، فالشكل البشري المتنقل في الفضاء لا يحمل علامات الخريف إلاّ استعاريّا حين يتحدّث الناس عن خريف العمر.
في الحكمة الصينية أنّ الإنسان لا يعيش إلاّ حياة واحدة والصّرار لا يعيش غير

خريف واحد. قد يعني ذلك فيما يعنيه أنّ الصّرار أفضل حظّا من الإنسان: فعلى الأقلّ كان للصرّار صيف عاشه بفنّ لكن ليس للإنسان من حياة صيفيّة أخرى سابقة عاشها إلا على سبيل الافتراض.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي