شارك المقال
  • تم النسخ

بين الفصل 47 من الدستور المغربي والفصل 89 من الدستور التونسي: في سؤال النجاعة القانونية

في خلفية النقاش السياسي و الدستوري الذي عرفه المغرب في أعقاب الإنتخابات التشريعية الأخيرة ،تزامنا مع تعقدات مسلسل تشكيل الحكومة ،و ارتباطا بتركيز الفاعلين و المتابعين حول الفصل 47 من الدستور المغربي ، كان الكثيرون يحيلون من باب القانون المقارن الى الفصل 89 من الدستور التونسي، حيث غالبا ما تم تقديم صياغة هذا الفصل كدليل على الجودة التشريعية و الإحكام القانوني ،و خاصة الإحاطة التفصيلية بالحالات الممكن تصورها ،مع ضبط دقيق للمساطر و الآجال.

فهل فعلا استطاع هذا الفصل الصمود في أول اختبار سياسي حقيقي له ؟

وهل استطاع التفوق ” المعياري” على الفصل 47 في طريقة تقنينه لمسار تشكيل الحكومة عقب الانتخابات التشريعية؟

أسئلة يمكن مقاربتها في ضوء راهنية النقاش الواسع حول هذا الفصل المركزي في الحياة السياسية و الدستورية التونسية.

يحظى الفصل 89 من الدستور التونسي بموقع استراتيجي داخل الهندسة المؤسساتية للنظام السياسي، إذ يُخصَّصُ لطريقة وإجراءات وآجال تشكيل الحكومة.

بعد أن يُعرّف هذا الفصل مكونات الحكومة: الرئيس والوزراء وكتاب الدولة، مع تأكيد مسألة اختيار أعضائها من طرف رئيس الحكومة، باستثناء وزارتي الخارجية والدفاع، اللذان يتم التشاور حولهما مع رئيس الجمهورية، ينص في فقرة ثانية على أنه في أجل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، يُكلّف الرئيس مرشَّح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بتشكيل الحكومة خلال شهر يُجدّد مرة واحدة.

الفقرة الثالثة من الفصل 89، والمعروفة إعلاميا في التداول العمومي بفقرة “حكومة الرئيس”، تنص على أنه في حالة تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس النواب، فإن الرئيس يقوم في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر.

الفقرة الرابعة تنص على أنه إذا مرّت مدة أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس النواب الثقة للحكومة، فإنه لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس النواب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في آجال محددة.
لأول مرة في مرحلة ما بعد إقرار دستور 2014، يتم بمناسبة تشكيل الحكومة استنفاذ الفقرة الثانية، والمرور إلى الفقرة الثالثة، وتقريبا الوقوف على أعتاب الفقرة الرابعة (حل البرلمان).

وإذا كان بلاغ تكليف السيد “إلياس الفخفاخ” بعد فشل حكومة “الحبيب الجملي” (مهندس مستقل اقترحته حركته النهضة )في نيل ثقة البرلمان، قد كرّس القراءة الدستورية السليمة، عندما اعتبر الرئيس أن حكومة “الفقرة الثالثة” ليس قطعا حكومة الرئيس -كما في التداول الإعلامي والخطاب السياسي الرائج- بل هي كذلك حكومة برلمانية ما دامت لن تُنَصَّبَ إلا بعد نيلها لثقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، فإن عددا من النقط قد أثارت كثيرا من الإشكاليات، من ضمنها الأطراف المقصودة بالتشاور (الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية)، وعما إذا كان المطلوب تعميم المشاورات على كل الأحزاب أو الاقتصار على الممثلة منها داخل البرلمان؟ وهو ما كان موضوع خلاف بين أساتذة القانون الدستوري، فضلا عن الجدل الواسع الذي عرفته عبارة “الشخصية الأقدر”.

ولا شك أن تفعيل الرئيس لصلاحياته في ظل التكليف ذي الصلة بالفقرة الثالثة من الفصل 89، من شأنه أن يؤسس لممارسة دستورية تجيب على بعض الأسئلة المطروحة، سواء فيما يتعلق بالمقصود بالشخصية الأقدر وبطبيعة القدرة في علاقتها بالمؤهلات الذاتية أو بالقدرة على تجميع الأغلبية البرلمانية، أو بما يرتبط بحدود الأطراف المعنية بالتشاور (اقتصر الرئيس على الأحزاب الممثلة في البرلمان) أو بطبيعة هذا التشاور نفسه (اختار الرئيس مسطرة كتابية).

إحدى عناصر الجدل، الذي رافق مسار تشكيل الحكومة التونسية الجديدة، على ضوء تتابع فقرات الفصل 89، تتعلق بتساؤل الفقه الدستوري عن إمكانية استقالة إلياس الفخفاخ قبل حلول الأجل الدستوري (30 يوما) الذي يفصل لحظة التكليف عن لحظة التنصيب، وإعادته للتكليف الى رئيس الجمهورية قصد تعيين شخص ثالث؟ شرعية السؤال السالف اِنبنت على التفاعل مع مطالب بعض قيادات حركة النهضة التي دعت رئيس الحكومة المكلف بإرجاع تكليفه للرئيس قصد تعيين شخصية جديدة.

أساتذة القانون الدستوري الذين عالجوا هذه النقطة أجمعوا على عدم دستورية “التكليف الثالث” وغياب المعنى والمنطق القانونيين لفعل الاستقالة.

هكذا اعتبرت أستاذة القانون الدستوري “سلسبيل القليبي” أنه لا وجود لنص صريح يفيد إمكانية تكليف شخصية أخرى تشكيل الحكومة في صورة فشل السيد إلياس الفخفاخ، كما أنه لا مجال للحديث عن استقالته ما دام لا يشغل رسميا أي منصب، إذ هو فقط شخصية مكلفة بتشكيل الحكومة.

الجدل سينتقل بعد ذلك نحو سيناريو ما بعد فشل التكليف الثاني واختيار رئيس الجمهورية عدم حل البرلمان، ما دام أن الفصل 89 سمح للرئيس باختيار اللجوء إلى الحل دون أن يلزمه بذلك، إذ جاءت الصياغة القانونية على الشكل التالي: “لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة”.

الجدل يرتبط أساسا داخل هذه الفرضية بطبيعة الحكومة التي ستمارس السلطة التنفيذية.

في حالة فشل مآل تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات واستمرار قيام مجلس نواب الشعب.

وإذا كان هذا الجدل قد فقد شرعيته العملية بعد إعلان الرئيس اعتزامه حل البرلمان في حالة فشل “إلياس الفخفاخ”، فإن الشرعية العلمية للنقاش ستبقى مطروحة كإحدى الفرضيات التي يطرحها الفصل 89 دون أي تدقيق.

مفهوم حكومة تصريف الأعمال نفسه نال هو الآخر نصيبا وافرا من الجدل، المفهوم الذي أسّس حوله الرئيس قيس سعيّد تأويله المتعلق بأولوية الفصل 89 وكفايته كتغطية قانونية للمرحلة، مستبعدا استراتيجية حركة النهضة باللجوء إلى الفصل 97 المنظم لحالة التصويت على ملتمس الرقابة، عندما اعتبر أن مجلس نواب الشعب الحالي لا يمكنه إسقاط حكومة تصريف أعمال، نالت الثقة من لدن مجلس سابق.

اجتهادات فقهية عبّرت عن اختلافها مع “التأويل” الذي أقره الرئيس، محتجة بصريح العبارة الدستورية، حيث ترد “حكومة تصريف الأعمال” مرة واحدة في كل الدستور من خلال الفصل 100 الذي يربط هذه الحكومة بحالة الشغور النهائي لمنصب رئيس الحكومة. وهو ما يعني في وجهة نظر هذه الاجتهادات أنه لا مجال لإمكانية الحديث عن حكومة تصريف أعمال بعد إجراء انتخابات تشريعية جديدة، وأن ورود هذه الصيغة في بلاغ إعلامي منسوب لرئيس الحكومة يوسف الشاهد إثر لقاء سابق برئيس الجمهورية، حيث يتحدث عن تكليف رئاسي بتدبير حكومة تصريف الأعمال إلى غاية تنصيب حكومة جديدة، لا يجعل من حكومة الشاهد حكومة لتصريف الأعمال، ذلك أن “الرئيس لا يُشرّع” وأن تصريحاته ليست بديلا عن الدستور.

سؤال آخر كان موضوعا للنقاش يتعلق بطبيعة التأويل الذي قام به الرئيس قيس سعيّد عندما صرّح “بعدم إمكانية سحب الثقة من حكومة تصريف الأعمال، وأن عدم نيل حكومة إلياس الفخفاخ يقتضي وجوبا حل البرلمان”.

أستاذ القانون الدستوري، “سليم اللغماني”، اعتبر أن ما ذهب إليه الرئيس ليس رأيا أكاديميا يحتمل الخطأ والصّواب، بل هو عبارة عن “تأويل رسمي أصلي” لا يحتمل مقاربته من زاويتي الخطأ أو الصّواب.

انفراد الرئيس بمساحات واسعة للتأويل الرسمي للدستور تعزز أساسا بغياب المحكمة الدستورية، لكن إقدام رئيس مجلس نواب الشعب على استقبال رئيس “الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين”، فتح بابا جديدا للجدل حول صلاحية هذه الهيئة المؤقتة في تفسير الدستور.

الباحث” أمين محفوظ” اعتبر لجوء “راشد الغنوشي” إلى الهيئة المذكورة في سياق إعلان الرئيس قيس سعيّد لتأويله المرتبط بعدم جواز سحب الثقة من حكومة تصريف الأعمال، هو بمثابة عمل غير أخلاقي وغير قانوني، ذلك أنها من الناحية القانونية «لا يمكن أن تقدم استشارة دستورية ضمن إطار ضيق، هو مراقبة دستورية مشاريع القوانين، سوى لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو 30 نائبا».

رأيٌ لم يشاطره الأستاذ، وعضو المجلس التأسيسي، “رابح الخرايفي”، الذي استند إلى سابقة الاعتماد على معاينة الهيئة الوقتية لحالة شغور منصب الرئاسة، إثر وفاة الراحل الباجي قايد السبسي، ليُقرّ بإمكانية اللجوء إليها طلبا لتفسير الدستور في ظل غياب المحكمة الدستورية، وأساسا اعتبارا لكون وظيفة رئيس الجمهورية تقتصر على حماية الدستور، لا على تفسيره.

في حصيلة النقاش حول الفصلين 89 و97، انتهى الجدل إلى مساءلة كل الدستور من حيث مستوى الصياغة والحبكة التشريعية والانسجام القانوني. في هذا الأفق ذهب أستاذ القانون الدستوري “أمين محفوظ” إلى اعتبار هندسة الفصل 89 تعود بالتأكيد لمهندس فاشل غامر بالدخول في زحمة التفاصيل.

أما الأستاذ” رافع بن عاشور”، فذهب أبعد مما وصله زميله عندما اعتبر أن حركة النهضة وضعت «دستورا ملغما كل جملة فيه تحتمل الشيء ونقيضه».

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي