شارك المقال
  • تم النسخ

الوكيلي: التدين السلفي يزحف في المغرب عبر إقحام الرقية الشرعية

حاوره نورالدين لشهب

يرى يونس الوكيلي أن التدين السلفي بدأ يبسط سيطرته في المجال العام عبر وسيلة الرقية الشرعية التي أصبح يتعاطاها الكثير من السلفيين المرتبطين بـ”التسلف الوهابي” تحديدا.

انخراط السلفيين في المجال العام من خلال الرقية الشرعية جعلهم يشعرون بتعرض مصالهم المشتركة للتهديد؛ ما جعل بعضهم ينخرط في جمعيات للدفاع عن حقوقهم وحماية ممارستهم من التضييق و”الدخلاء” على المهنة من غير السلفيين.

ذلك أن “الرقية الشرعية” عند السلفيين الوهابيين تتأسس، بحسب الباحث في الأنثروبولوجيا، على نظام وطقوس أخرى ضد الرقية المتوارثة في التدين المغربي، التي تصفها أدبيات السلفيين بـ”الرقية البِدعية”.

إليكم الحوار كاملا مع الباحث يونس الوكيلي، أستاذ علم الاجتماع مساعد بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بجامعة محمد الخامس بالرباط متخصص في سوسيولوجيا الإسلام والتطرف الديني بالمغرب.

في السنوات الأخيرة انتشر ما يسمى بالرقية الشرعية بالمغرب، وأغلب الفاعلين في هذا المجال سلفيون، كيف تتابع هذه الظاهرة مع ارتباطها بالتدين السلفي؟

فعلا، انتشرت منذ التسعينات ظاهرة “العلاج” بالرقية الشرعية، وفي العقد الأخير تمثلت بشكل أكبر في انتشار ما يسمى بمراكز الرقية الشرعية. والملفت للانتباه، كما تفضلتم، أن الفاعلين الرئيسيين في هذه الممارسة هم السلفيون. ويمكن على وجه العموم أن نلاحظ ارتباط هذه الظاهرة بالسلفيّين لبعض الاعتبارات.

ماهي هذه الاعتبارات، تحديدا، التي تجعل التدين السلفي مرتبطا بهذه الظاهرة؟

هناك ثلاثة اعتبارات رئيسة:

الأول، تسميةُ الرقية بالشرعية؛ فكما نعلم أن الرقيّة أو العزيمة من الممارسات العلاجية الشائعة في التدين المغربي أو الإسلام المغربي منذ قرون، وهي رقية لها نظام وطقوس أخرى غير التي نُعاينها لدى السلفيين، الذين يضيفون إليها وصف “الشرعية”، فتصبح تحت اسم “الرقية الشرعية”، وبذلك فهي تتأسس عندهم على نظام وطقوس أخرى، بل أكثر من ذلك تتأسس ضد الرقية المتوارثة في التدين المغربي، التي تصفها أدبيات السلفيين بـ”الرقية البِدعية” (من البدعة).

الثاني، لاحظتُ أن جميع الأدبيات المتاحة في السوق حول الرقية الشرعية، التي تمثل الدليل التفصيلي للرقاة في الممارسة، وبعد دراسة وافية لها، يتبين أن أسسها سلفية، وأكثر دقة سلفية وهابية، أي إن الكتب التي يستهدي بها ممارسو الرقية الشرعية، والتي تُشكل أسلوب “العلاج” بمختلف مراحله، تنتمي إلى الإيديولوجيا الوهابية (وهنا أستعمل الوهابية كوصف بعيد عن أيّ حكم قيمة).

الثالث، الملاحظة المباشرة للمظهر الخارجي لمعظم الرقاة في هيئتهم ولباسهم وتصرفاتهم وعاداتهم تبيّن أنهم ينضبطون للمعايير السلفية في نمط الحياة، مثل إعفاء اللحية وقص الشارب ولباس القميص القصير وارتداء الطاقية أو العمامة على الرأس واستعمال عود الأراك للسواك والحرص على الحديث بالعربية الفصحى في كثير من المواقف، فضلا عن التزام أداء الشعائر الدينية بانضباط… وغيرها من المعايير.

هذه الاعتبارات الثلاثة تؤكد ارتباط الرقية الشرعية بالسلفيين في الغالب، قد تكون بعض الاستثناءات، وهذا أمر عادٍ في الظواهر الاجتماعية التي قد تفتقد إلى الانتظام والاطراد.

وإكمالا للجواب، أود أن أوضح أن الرقية الشرعية “نظام علاج ديني” يتأسس على مصادر دينية، وطريقته في ذلك التوسل بالكلام المقدس الذي يتجلى أساسا في القرآن والأدعية، وهو المسمى رُقية. وأقول ذلك حتى أميزه عن نظامين من العلاجات السائدة، من جهة أولى النظام العلاجي السحري الذي يقوم على طقوس علاجية شعوذية لأنه يعتقد بأن المرض نتيجة سحر من طرف قوى ما، ومن جهة ثانية النظام العلاجي الطبيعي المتمثل في الطب الحديث، الذي يُعرّف المرض بأنه نتيجة علاقة سبب بنتيجة في عالم الطبيعة. وهذه الأنواع الثلاثة توجد في كل المجتمعات البشرية، تتعايش جنبا إلى جنب، ويتخذ كل نظام علاجي مساحة معينة حسب تقدم المجتمعات وتطورها. وهذا توضيح جد هام كي نضع الرقية الشرعية في خانتها المناسبة التي تمكننا من مزيد من الفهم.

طيب، لماذا يلجأ الممارسون للرقيّة إلى “التدين السلفي” الغريب شيئا ما عن التدين المغاربي؟

من الواضح أن التدين بالطريقة السلفية أسبق على ممارسة الرقية الشرعية، فبعد انخراط المتدين السلفي لفترة قصيرة أو طويلة في السلفية، قد يصبح ممارساً للرقية الشرعية، التي يعتبرها السلفيون في المقام الأول دعوة إلى الله، فالرُقاة كما يصرحون يبتغون من الرقية الشرعية دعوة الناس إلى الله.

التصور القائم في عقل السلفي أن ابتعاد الناس أفرادا وجماعات عن الدين يجعلهم معرّضين لاعتداءات الجن، سواء بالسحر أو المس أو العين، ودور الراقي الشرعي أن يتدخل لإعادة المُصاب إلى صحته العادية، ولا يكون ذلك إلا بإرجاعه إلى الانضباط إلى الشريعة، وتَمثلها وممارستها.

هذا هو الداعي الأساسي لممارسة الرقية الشرعية. من هنا، فالإيمان بالمشروع السلفي كمشروع للمجتمع، وأنه الأفضل للمجتمع في نظر السلفي، يجعله ينتهز حاجة الأفراد إلى العلاج مما يسمونه “أمراض الجن”، فيقدم “خدمته العلاجية” لفائدة الجسد “المريض”، وفي الوقت نفسه، ومن خلال ذلك، تقديم “وصفة حياة” أو “نمط حياة” سلفي.

أغلب السلفيين بالجزائر الذين كانوا في الجبال يمارسون العنف ضد الدولة، كما أن الكثير من السلفيين بالمغرب كانوا معتقلين لأسباب تتعلق بقانون الإرهاب، هؤلاء جلهم يشتغل بالرقية الشرعية التي أضحت تذر مالا على أصحابها. السؤال هنا أستاذ يونس، ما الفرق بين الرقية التي يمارسها السلفيون وغيرهم من الرقاة؟ ما الفرق بين الرقية عند السلفيين وعند غيرهم بالمغرب؟

هذه ملاحظة مهمة بالنسبة لي كباحث في الموضوع. عموما، أقول: فيما يخص الفرق بين رقية السلفيين وغيرهم، يمكن أن نسجل الفرق على مستويين:

مستوى الرقية الشرعية نفسها، التي تأتي بديلاً عن الرقية المتداولة في تقاليد التدين المغربي، التي يعتبرها السلفيون رقية بِدعية وضلالات، لأنهم يرون أنها تتوسل بغير الله وتقحم طقوسا غير منصوص عليها دينيا.

أُوضح ذلك كالتالي: عادة يتوجه المغاربة المُصابون بالسحر أو المس أو العين إلى الأضرحة المنتشرة في كل أنحاء المغرب، طقوس عديدة تجرى داخلها، يمكن أن تبدأ من “تعليق لْحْجاب” كممارسة يقوم بها “لْفقيه” في القرية إلى تقديم “ذْبِيحة” إلى الأرواح في الأضرحة، وغيرها من الطقوس (وقد وفّى منذ ما يقرب من قرن إدموند دوتي في كتابه “السحر والدين في شمال إفريقيا” في وصف الرُقى والعزائم بأنواعها اليدوية والشفوية والكتابية) التي تهدف كلها إلى التخلص من الأرواح الشريرة التي يُعتقد أنها تعتدي على الجسد الإنساني. إن الرقية الشرعيّة تستمدّ مشروعية وجودها باعتبارها نظاماً علاجياً بديلا عن تلك الممارسات، التي يعتبرونها شِركا وضلالا.

كذلك، نسجل فرقا آخر على مستوى تكوين الراقي، فتكوين الراقي لا يعتمد المسارات المعروفة في تكوين المعالجين في بنيات التدين المغربي في الأضرحة وعند الفقها…إلخ، المتمثلة في القداسة الموروثة، أي البركة، والتأهيل الروحي، وأحيانا الشرَف، بل إن مؤهلاتهم ترتكز بالأساس على قدْر من التديّن والورع حسب معايير التدين السلفي، ثم التجربة المعززة بإشراف راقٍ مجرب، بالإضافة إلى صقل المعارف بالممارسة الميدانية المتواصلة، وأيضا التكوينات التي يستفيد منها بعض الرقاة في مجال النباتات الطبية.

في كلمة واحدة، إن الرقاة، إذا استعملنا مفاهيم ماكس فيبر، لا يتوفرون على مواهب “فائقة الطبيعة” جسدية أو روحية، غير متاحة للجميع، إن قدراتهم تعلُمية مكتسبة.

الملاحظ دكتور أن الرقية في الأدبيات السلفية لم تكن مهنة تتخذ محلات وسوقا خاضعا لقانوني العرض والطلب، هنا نتساءل، كيف تمت مهننة Professionnalisation الرقيّة من قبل السلفيين المغاربة؟

سؤال مهم، أرى أن هذا أهم تحول عرفته ممارسة الرقية الشرعية في السياق المغربي على الأقل الذي أعرفه. الرقية الشرعية التي كانت تُجرى داخل البيوت، أصبحت تُفتتح لها ما يسمى بمراكز الرقية الشرعية. وهذه الظاهرة بدأت في السنوات العشر الأخيرة. وهذا التحول لا يعني أن الرقية الشرعية لم تعد تمارس داخل البيوت، بل مازالت، وإن بشكل أقل.

الانتقال إلى ممارسة الرقية الشرعية في المراكز يعني أنها غدت نشاطا مهنيا يظهر كما عاينا ميدانيا في عدد من المؤشرات، منها: التفرغ، حيث إن الراقي لا يمارس عملاً آخر غير علاج الناس بالرقية الشرعية داخل مركزه (أو بالانتقال إلى بيوتهم الخاصة إذا استدعت الظروف ذلك وبمقابل مالي أكبر)، ولا يمكن التفرغ للممارسة دون اشتراط أجر مالي محدد يلبي حاجيات الراقي ونفقات إدارة المركز. ونظرا لتوافد طالبي العلاج، كما لاحظت في معاينتي الميدانية، يتطلب العمل حداً أدنى من الهيكلة والتنظيم، تتجلى في تحديد أوقات عمل ومساعدين وضبط المواعيد.

نلفت الانتباه أيضا إلى أن الرقاة أصبحوا مؤخراً يعون مصالحهم المشتركة وتعرضها للتهديد، مما جعل بعضهم ينخرط في جمعيات للدفاع عن حقوقهم وحماية ممارستهم. وهكذا رأينا أن الرقاة انتقلوا من وضع اللاشبكة، أي الجماعة المُتخيّلة التي يتمتعون فيها بوضع مشترك لكن دون تجمع مُنظم، إلى وضع الشبكة النشيطة التي ينظمون فيها أنفسهم. والواقع أن هذا المستجد يعزز بشكل أكثر حضور الرقاة في المجال العام بعدما عززوه بالانتقال من البيوت إلى المراكز.

المستجدان معا، يدفعاني إلى القول، إذا ما استعملنا عبارة آصف بيات، عالم الاجتماع الأمريكي من أصل إيراني، إننا أمام “عملية زحف بطيء” وتدريجي للرقية الشرعية في المجال العام.

نرى أن السلفيين الممارسين للرقية يمكن أن نطلق عليهم “سلفيون بدون سلفية” أي إن ممارستهم للرقية تختلف عن “التدين السلفي الحقيقي”.

هذا يقتضي أن نحدد صورة نموذجية للسلفي، من هو السلفي؟ مبدئيا السلفي (وأنا أفضل أن أستعمل “السلفي الوهابي” حتى أميزه عن السلفية الإصلاحية في بداية القرن العشرين التي كانت في المشرق مثلما كانت في المغرب) هو المتدين الذي يفهم المصادر الدينية الأساسية، قرآنا وسنة، بفهم السلف الصالح؛ وذلك وفق منهج محمد بن عبد الوهاب (1703-1791)، الذي أسس تصورا للفهم توارثه علماء عديدون في المملكة العربية السعودية وخارجها إلى حدود اليوم، وهو تصور يقوم على فهم ظاهر النصوص والاتباع وإيلاء مفهوم التوحيد والبدعة قيمة كبرى في الخطاب، مما يجعل هذا الخطاب يحرص دائما على تصحيح التصورات والسلوك بالعودة إلى الأصل النقيّ.

هذا التدين السلفي الوهابي سرعان ما سيصبح منذ الثمانينات حركة اجتماعية داخل عدة بلدان عربية وإسلامية، منها المغرب كما وضح ذلك الباحث عبد الحكيم أبو اللوز. ونشير هنا إلى أن تقي الدين الهلالي كان من بين الأوائل الذين دعوا إلى الوهابية في المغرب، وخاض معارك فكرية في ذلك كما يصف في مذكراته “الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة”.

بعد أن استتبت السلفية الوهابية حركة داخل المجتمع المغربي، بدأنا نلاحظ تمظهرات هذا الحضور في مدارس قرآنية خاصة بالسلفيين ودعاة وكتب وأشرطة تدعو إلى التدين الوهابي. وفيما يتعلق بالكتب، ظهر التأليف في الرقية الشرعية من قبل دعاة كثيرين، مئات الكتب المتخصصة فقط في توضيح أسس وقواعد الرقية الشرعية، وأذكر عنوانين شهيرين: الأول “الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار” الذي يعود إلى مؤلفه الداعيّة المصري وحيد عبد السلام الذي ألّفه في منتصف الثمانينات، وهو من الدعاة الوهابيين المشهورين بكتابتهم في الرقية الشرعية، ودرّس في المملكة العربية السعودية، ولا تكاد تجد ممارسا للرقية الشرعية في المغرب لا يعتمد هذا الكتاب دليلا في الممارسة.

والكتاب الثاني هو “مفاهيم الرقية والجن والرقاة” للداعية المغربي مصطفى لقصير (وأنتهز الفرصة هنا لأوجه له الشكر على قبوله بكل ترحيب إنجاز المقابلات الميدانية معي)، تأثر بتقي الدين الهلالي، وهو أيضا درَس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وكتابه أيضا منتشر بين الرقاة في المغرب.

رجوعا إلى سؤالك، الممارسون للرقية الشرعية بما أنهم يستمدون طريقة ممارستهم من كتابات تستند إلى المتن السلفي الوهابي، فإنهم سلفيون وهابيون.

فالرقية الشرعية مرتبطة بنوع من التدين السلفي، وهو السلفية الوهابية، هذا قصدك، أليس كذلك؟

كما سبق أن قلت، المتدين يكون سلفيا في تصوره للدين والحياة والمجتمع ثم لسبب من الأسباب الاجتماعية يصبح ممارسا للرقية الشرعية؛ لذلك لا أرى أنهم سلفيون بدون سلفية. هم سلفيون وهابيون تصورا وممارسة.

كيف تقرأ ادعاء الرقاة علاجَ حالات مرضية، مثلما رأيناهم مؤخرا يتحدثون عن حالة المرأة التي ادّعت أنها حامل منذ تسع سنوات؟

لاحظتُ فعلا تدخل كثير من الرقاة في حالة المرأة المدعية أنها حامل لمدة تسعة أعوام، بثوا فيديوهات عديدة على “يوتيوب” و”فيسبوك مباشر”، لقيتْ مئات آلاف المشاهدات، مما يبين أن الرقاة يراهنون على فعالية استعمال وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، ويبين كيف أن هناك متابعة كبيرة من الجمهور لهذه العروض. كان الرقاة يقومون بعمليات: “تصور المرض” و”التشخيص” ثم “العلاج”.

دعنا نفهم ذلك من خلال حالة المرأة. بالنسبة للرقاة يعتبرون المرأة تُعاني مرضاً، والمرض عند الرقاة يرتبط بعوامل خارج الجسد والعالَم المرئي، إنه الجن. فهم يتصورون المرض تدخلا من الجن يُحدث اضطرابا في جسد المريض. هذا من ناحية أولى.

من ناحية ثانية، يمرون إلى التشخيص لتحديد نوع تدخل الجن هل هو مس مباشر من الجن أم فعلا جنيا بإيعاز من بشر، أي سحرا. وبهذا نفهم الخلاف الذي وقع بينهم في تشخيص حالتها.

ثم من ناحية ثالثة، ما يعتبرونه علاجا عبر قراءة آيات قرآنية وأدعية، وأحيانا استعمال أعشاب إلى غير ذلك، هذا بشكل عام أسلوب تدخل الرقية الشرعية.

بالنسبة للمرأة الحامل سبب المرض محسومٌ عند الرقاة، بعدما رأوا حركات في بطن المرأة، وادعاءها أن الأطباء فشلوا في علاجها، فسروا ذلك بأنه جنٌ يستقر في بطنها. التفسير الطبي العلمي لا يهمهم، ما يهمهم هو التفسير الديني، والدين هنا في نسخة إيديولوجية معينة، سبب المرض يحدده الدين، وهو الجن، والعلاج لا يكون إلا بقوةٍ مكافئة بالنسبة لهم، هي الكلام المقدس. فالمرض والعلاج في تصور الرقاة، كلاهما من طبيعة فوق طبيعية، الجن المُعتدي في طرف والقرآن الشافي في الطرف الآخر.

السؤال الآن: لماذا تدخل الرقاة بشكل مكثف في هذه الحالة؟ لأنهم يقدمون أنفسهم بكونهم قادرين على علاج ما استعصى على الطب، فإعلان المرأة أنها لجأت إلى الأطباء ولم ينجحوا في علاجها، يعتبره الرقاة فرصة لتكريس دورهم الاجتماعي، وفعالية نظامهم العلاجي، وإثبات مشروعية وجودهم وحاجة المجتمع إليهم.

هل يمكن القول دكتور يونس إننا إزاء “إسلام السوق” بخصوص الرقية الشرعية في نسخة سلفية، كما أورد الأنثروبولوجي السويسري باتريك هاني الذي تحدث عن إيديولوجية السوق عند صنف من الإسلاميين الحركيين؟

أعتقد أن باتريك هايني قصد في كتابه “إسلام السوق” أن هناك أبعادا ليبرالية في التدين الفردي الجديد، فضلا عن النزعة الاستهلاكية التي تطبع خطابه دعاته…إلخ. من الصعب استعمال مفهومه في تحليل ظاهرة انتشار الرقية الشرعية.

لكن يمكن أن أوضح ارتباط الرقية الشرعية بالسوق والجمهور عموما كالتالي: بالنسبة للرقية الشرعية كنشاط مهني للرقاة السلفيين، هي إحدى وسائل التجذر والامتداد الاجتماعي، إنهم يتصورونها “خدمة عمومية” يحتاجها المجتمع، ويتصورون أنهم الوحيدون المخول والمشروع لهم تقديمها. ولعل الإقبال الكثيف الذي عاينته على ما يسمى مراكز الرقية الشرعية يؤكد أن هناك جمهوراً واسعاً يُقْبل على الرقية الشرعية. فهناك طلب كثيف وهناك عرض يحاول الاستجابة. إن الرقية الشرعية تعطي للتدين السلفي الوهابي إمكانية الظهور الاجتماعي، ولذلك كما بيّنت في أبحاثي أن الرقية الشرعية ليست مجرد “علاج ديني” لأجسادٍ يُعتقد أنّ الجن تلبّس بها، إنها فرصة بالنسبة للرقاة للدعوة إلى نمط من التدين ونمط من الحياة. الرقية الشرعية وجهٌ من وجوه المشروع السلفي الوهابي في المجتمع.

كيف تفسر إقبال فئات من المجتمع على العلاج بالرقية الشرعية؟

طبعا، بعض عناصر الجواب تتضمنها الإجابات السابقة. ولكن، لأوضح بتفاصيل أخرى، نحن في مجتمع يعتقد بوجود الجن، ويعتقد بإمكان دخوله في جسد الإنس. وهذا معطى قائم ثقافيا واجتماعيا. عندما ييأسُ الناس من اللجوء إلى الأطباء في أمراض عضوية معينة، تبرز لديهم فرضية السحر أو المس أو العين، فيلجؤون إلى الرقية الشرعيّة أملاً في الشفاء. المريض شديد البرغماتية حينماً يكون متألما. وقد رأيت في حالات عديدة أن استراتيجية المرضى في العلاج تبدأ من الطبيب وتنتهي عند الرقية الشرعية.

الراقي ليس الاختيار الأول؛ مما يدفع إلى القول إن ضعف الخدمات الصحية إحدى العوامل الأساسية للإقبال على الرقية الشرعية. هذا عامل أول. عامل ثانٍ هو أسلوب الجذب في الرقية الشرعية، الرقية الشرعية تشتغل في انتشارها على أساس شبكات اجتماعية على مستوى الأسرة والأصدقاء والعمل، فكل شخص يخبر شخصا آخر بفعالية العلاج، فتتكون صورة خارقة عن القدرات العلاجية للراقي، يتناقلها الناس بينهم بعجائبية وتهويل، لذلك لا غرابة أن نجد في ذهن الناس تمثلا عن قدرات الراقي تفوق ما يتوفر عليه في الواقع.

إذا شئتُ أن أستعمل عبارة كلود ليفي ستروس مع بعض التعديل الذي يناسب موضوع الرقية، أقول: “إن الراقي لم يصبح راقيا لأنه يشفي المرضى، بل إنه يشفيهم لأنه أصبح راقيا معروفا”. بشكل أبسط، إن الناس عندما يلتفون على الراقي ويحكون عن علاجاته للأمراض المستعصية، والعلاج هنا يعني التخلص من ألمٍ ما، معاناةٍ ما، فإن الناس يزدادون التفافا، ودائرة المعتقدين في الراقي تزداد اتساعا.

العامل الثالث، أن الرقاة أنفسهم يروجون بشكل فعّال لممارستهم العلاجية عبر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، فقد لاحظت صفحات فيسبوكية تتابع بالآلاف، وفيديوهات على يوتيوب تتابع بمئات الآلاف. إن استعمال مختلف الوسائط الإعلامية يجعلنا أمام استراتيجية تسويقية من أجل صناعة صورة الراقي “الشافي”، وبمقدار نجاح الراقي في رسم هذه الصورة يضمن إقبال جمهورٍ أوسع على طلب خدماته، تصبح الشهرة في حد ذاتها عاملا في الإقبال على الراقي.

إن الشهرة، وحرص الراقي على إظهارها، تصنع ما يسميه ماكس فيبر بـ”الكاريزما”، وهي سلطة خاصة يمنحها الشخص الاجتماعي للراقي، ولا تُبنى بواسطة استدلال منطقي وإنما بعوامل متعددة، مثل التنشئة الاجتماعية والثقافة الدينية وغيرها.

العامل الرابع، أن بعض الرقاة أدخلوا بعض عناصر الطب التقليدي في ممارستهم العلاجية، مثل استعمال الأعشاب الطبية والحجامة؛ وذلك حتى ينوّعوا عرضهم العلاجي، ويخلقوا مصادر دخْل مالي متعددة، ويستقطبوا فئات أوسع من داخل المجتمع، علما أن استعمالهم لتلك العناصر يدمجونها ويضفون عليها خصائص ترتبط بأمراض الجن كما يصفونها. هكذا على وجه العموم أفهم الانتشار والإقبال على الرقية الشرعية.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي