شارك المقال
  • تم النسخ

المطالبة بالإعدام، تحقيقا للعدالة، أم رغبة في الانتقام

خلق الله الجسد الآدمي وكرمه تكريما  وشرفه تشريفا ونفخ فيه من روحه فانبعتث فيه الحياة وبث فيه العقل  باعتباره أقدس الأقداس، وجعله قائما يمشي على قدمين مرفوع الرأس، جميل الوجه، على خلاف جل المخلوقات، ولذلك فقد نهى الرسول ص عن الضرب على الوجه؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه. واللفظ للبخاري، وعند مسلم: إذا قاتل أحدكم أخاه… قال النووي: وفي رواية: لا يلطمن الوجه.

كما نهى عن التمثيل بالقتلى  فقد روي عن  عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا امرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى بالكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم،

لكنه تعالت بعض الأصوات النشاز على إثر الجريمة النكراء للطفل عدنان تطالب بإعدام المجرم علنيا في الساحات العمومية  وتقطيعه والتمثيل به بل هناك من طالب بإلقائه الى الجموع والجمهور ليقتص منه على طريقته  ،وكل هذه الصور   البشعة والمطالب هي ردود انفعالية غاضبة يمكن تفسيرها  في سياقها أنها مجرد حنق وتنفيس عن الحقد والكره الذي تتامى تجاه القاتل المغتصب، لكنه لا يمكن تبرير هذا الغضب، الذي ينم عن وحشية سوداء في قلوبنا وعقولنا ومرض يتصاعد رويدا رويدا ليختقنا  ويحولنا أنفسنا الى اناس ساديين يتلذذون بصور القتل والموت البشعة.

 نعم إن العدالة تقتضي  اعدام القاتل المغتصب وهو  نفس المطلب الذي أيدناه وطالبنا به، وألححنا عليه ولكن في إطار عقلاني هادئ رزين يبتغي سيادة القانون وليس يرجو  التشفي والانتقام  فجسد القاتل نفسه أمانة ليست له وسيشهد عليه يوم القيامة.

إن الإعدام الذي طالبنا بتنفيذه على نوعية خاصة من المجرمين دون سواهم وهم فقط الذين ارتكبوا جرائم  الاختطاف والقتل  والاغتصاب بطريقة  فظيعة بشعة وحشية لا إنسانية  وا غتصبوا الاطفال أو النساء ونوهنا وحذرنا الى آن عقوبة الاعدام يجب أن تبقى مقتصرة على مثل هذه الجرائم الى أبعد الحدود مع التضييق في شروط تطبيقها  وأن لا تشمل الجرائم العادية المرتكبة لأسباب أو ظروف معينة اضطرت الفاعل الى ارتكابها، وشددنا على ضرورة عدم الحكم بهذه العقوبة في مواجهة المعارضين السياسيين بأي شكل من الأشكال حتى لا تستغل من الأنظمة الاستبداديةوالديكتاتورية  هذه العقوبة لإسكات الأصوات الداعية للإصلاح والديموقراطية مثل ما يقع في السعودية من اعدامات للمثقفين وأصحاب الرأي السلميين من الدعاة والعلماء المعتدلين  مثل خاشقجي وسلمان العودة وعائض القرني. 

أما بالنسبة لمن ارتكب جرائم وحشية فإنه يستحق الاعدام وقد قلت سابقا  أن المجرم هو  من حكم على نفسه بالموت عند قتله للضحية، لكن هذا الاعدام يجب أن يتم في إطار   الدولة المدنية الحديثة  تطبيقا لحكم قضائي نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به غير قابل للطعن بأي وجه من الوجوه، بعد محاكمة عادلة تتوفر  فيها للمتهم كل الضمانات اللازمة من دفاع و إحترام إجراءات مسطرية في البحث والتحقيق  ومن أدلة تعرض   حضوريا وعلنيا، وأن لا يتم تنفيذ عقوبة  الاعدام إلا  بعد ثبوث الجرم تبوثا قطعيا يقينيا لا يتطرق إليه الشك، لأنه لا يمكن إرجاع بريء تم إعدامه الى الحياة  إذا تم الحكم عليه خطأ ، وقد حدثت  هذه الأخطاء القضائية   في عددا من الحالات حيث تم  الحكم بالاعدام ونفذ  على أشخاص تبثت براءتهم فيما بعد  ونقلا  عن المصدر: (هافنغتون بوست) تشير أرقام صادرة عن الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة إلى أن حوالي 4 في المائة من الذين حكم عليهم بالإعدام ليسوا مذنبين ،ليتضح فيما بعد للعدالة وذويهم أنهم أبرياء ولا يستحقون تلك الأحكام القاسية .لكن ماذا تفيد هذه الاعترافات وقد ذهبت أرواح أبرياء هدرا لسبب من الأسباب .

وإليكم بعضا من حالات أشخاص حكم عليهم بالإعدام عبر العالم ،وأعلن فيما بعد عن براءتهم ومنهم الطفل جورج ستني وهو فتى أمريكي من أصول إفريقية ،لم يتجاوز عمره حين نفذ في حقه الإعدام 14 عاما ،ليكون أصغر شخص يحكم عليه بالإعدام في الولايات المتحدة ،وبعد مرور حوالي 72 عاما على تنفيذ حكم الإعدام . تتم تبرئته من الجرم المنسوب إليه .وتعود تفاصيل الواقعة إلى سنة 1944 ،حين ألقي القبض على الطفل الأمريكي ذو البشرة السوداء بتهمة قتل طفلتين تبلغان من العمر11 و8 سنوات ،وذلك تحت ذريعة أنه كان آخر شخص رآهما وعلى الرغم من توسله إلى المحكمة ونفيه القاطع للتهمة الموجهة إليه طيلة جلسات المحاكمة ،اقتيد الفتى إلى كرسي كهربائي للإعدام.

نفذ حكم الإعدام في حق جورج ستني ،الذي دفع حياته ثمنا نتيجة شهادة رجلان من ذوي البشرة البيضاء على أنهما شاهداه مع الفتاتان قبل مقتلهما بقليل.

في سنة 2004 قرر مؤرخ أمريكي أن ينبش في حيثيات الواقعة وبعد مضي سنة على تعميق الأبحاث لفك خيوط الجريمة الغامضة ،أعلن عن براءة جورج من التهم المنسوبة إليه .وهو نفس ما طال عددا من الأشخاص الأبرياء مصل هيوجيت في سنة 1996 شاب صيني يبلغ من العمر 18 عاما يدعي سمع هيوجيت صراخ امرأة وهي تتعرض لعملية اغتصاب في أحد المراحيض العمومية ،فتدخل من أجل تقديم المساعدة لها والإتصال بالشرطة .

وبذل أن تلقي الشرطة القبض على الجناة الحقيقين ،اعتقلت هيوجيت ،وتمت إدانته وحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص.

وبعد انقضاء حوالي عقد من الزمن تمكنت الشرطة من الوصول إلى المجرم الحقيقي الذي كان ينفذ سلسلة من عمليات الإغتصاب ،واعترف بأن هيوجيت بريء من التهمة الموجهة له ،وأنه هو من اقترف ذلك الجرم.

 ومنهم  كذلك ثيموتي ايفانز ففي عام 1950 ،ألقت الشرطة القبض على ثيموتي إيفانز ،بتهمة قتل زوجته وابنته الرضيعة وإخفاء جثتيهما في الحديقة الخلفية للمنزل ،وبناء على خوفه الشديد وتلعثمه في الإجابة على أسئلة المحققين ،زعموا أنه القاتل الحقيقي.

وبعد جلسات المحاكمة التي عجز خلالها عن تقديم أدلة قوية تثبت براءته ،حكم عليه بالإعدام شنقا ،على الرغم من تشبثه ببراءته في كافة أطوار المحاكمة ،مشيرا إلى أن القاتل الحقيق هو جاره المدعو “كريسي” .مضت ثلاثة أعوام على حادث إعدام ايفانز ،توصلت أخيرا الشرطة إلى المجرم الحقيقي الذي كان بالفعل جاره كريسي ،حيث اتضح تورطه في سلسلة جرائم من بينها جريمة قتل زوجة ايفانز ورضيعته.

عقب هذه المعلومات المستجدة أصدر قرار بالعفو عن المعدوم وتبرئته من الجريمة المنسوبة إليه ، لكن ماذا سيفيد هذا القرار بعد فوات الأوان //انتهى النقل عن المصدر.

 ولكل  ذلك أقول أنه يجب التريث كثيرا قبل أن يتم تطبيق الاعدام، وحتى في حالة ثبوت الجرم  فإن هذا الاعدام يجب أن يتم  في الآماكن المخصصة لذلك بأقل الآت القتل  وتأليما وبعيدا عن أعين المواطنين تحقيقا للعدالة الأرضية مصداقا لقوله تعالى :وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.

لكن يجدر  الحذر من الشر المتغلغل في النفس البشرية  والعنف الكامن في اللاشعور الجمعي  فقد بدأ  يتشكل توجها  مخيفا  لدى أقليه تنحو الى المطالبة بالاعدام في الساحات العامة بحضور  الناس في أجواء احتفالية كرنفالية  يمارس فيه الجلاد أعتى وأقسى أنواع التعذيب والتنكيل على المجرم، بل إن البعض طالب  بأن يترك للعامة لتمزيقه إربا إربا.

لكن على ماذا سنحصل في النهاية،  ما العمل؟ هل نجلس ونقطع القاتل جزءا جزءا، ويقوم الجلاد باغتصابه كما اغتصب الطفل، ثم نأتي بالماء القاطع ونسكبه على عضوه التناسلي، ونديب النحاس في النار ونغسل له به ثم نسمل عينيه ونسلخ جلده ثم نقطع أطرافه ونتركه يتألم ويصرخ  ونحن وأطفالنا نشاهد هذه المناظر في ابتهاج وفرح متلذذين بهذا  العذاب  ثم نلقيه في النار،  ثم نذهب الي منازلنا مرتاحين وقد شاهدنا فلم الرعب الأمريكي المليئ بالمشاهد التقطيع والدم  SAW3 هل هذا هو المشهد الذي يريده البعض، إنه مشهد ينم عن نفسيات مريضة انفصامية سادية مصابة بالشيزوفرينيا  لمجرمين متوحشين متخفين في ثياب أناس صالحين لكنهم في الحقيقة  مرضى مجانين  وليس بشرا أسوياء، لن تتحقق العدالة بهذه الطريقة الهمجية، انها شريعة  حمو رابي  فهو من قال إذا قطع المجرم الضحية  يقطع، ياإخوان مالكم كيف تحكمون ليس الموضوع تشفي وانتقام ووحشية نحن في دولة حديثة ومدنية، كما أن  المجرم كان في يوم من الأيام  طفلا وشابا، وهو  يشبهنا على الأقل  مورفولوجيا وشكليا، وهو في نهاية المطاف آدميا، نعم بكل تأكيد هو  يستحق العقاب تحقيقا للعدالة وليس رغبة في الانتقام حتى ترقد روح الطفل في سلام، ثم إنه وإذا رسخنا القتل في أذهان الناس من خلال  الاعدامات الاحتفالية فسيصبح القتل  أمرا اعتياديا، غير صادم،  والله أمرنا بعدم التمثيل بالجثث لماذا نطلب التمثيل والتنكيل وتقطيع الأطراف ، هل ذلك أمر من عمل الانسانية، إنه نفسه عملا إجراميا بربريا؟.

قليلا من الحكمة والصبر، وعدم الارتكان الي الردود الانفعالية الغاضبة فالرسول صلى الله عليه وسلم قال :ليس القوي بالصرعة ولكن القوي من يملك نفسه عند الغضب،

سيأخذ الجاني العقاب الذي يستحق، وسيحكم عليه وفق قوانين الدولة الديموقراطية الحديثة وليست الدولة الاستبدادية  القروسطوية   وسيحكم عليه من طرف قضاء مستقل  عادل  غير  خاضع  للتأثيرات وضغط الرأي العام والاعلام قضاء موضوعي ومحايد ، لنا الثقة الكاملة في رجاله ونسائه،  ولهذا  ندعوا الداعين الى التعذيب والتنكيل الى الهدوء والتعقل وندعو الداعين الى الغاء عقوبة الاعدام الى مراجعة موقفهم بخصوص  نوعية معينة من الجرائم القاسية البشعة المقترنة  بظروف التشديد كالاغتصاب والطفولة، وأن الوقت لم يحن بعد لإلغاء هذه العقوبة، لأن المجتمع لم يبلغ بعد الرشد والكمال ولم يحصل على التعليم اللازم والرفاهية وأنه لا بد من إعدام مدني مؤنسن غير مؤلم ولا انتقامي غير علني لا يوجد فيه تنكيل أو تعذيب لا يتم تنفيذه في الساحات العامة  سري بعيد عن أعين المواطنين وليس احتفاليا كرنفاليا. وبذلك فقط تتحقق العدالة بأقل التكاليف.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي