شارك المقال
  • تم النسخ

أكاديميون يقاربون التلاقح البينيّ لمسألة الديمقراطية بشمال إفريقيا

نورالدين لشهب

كثير من الدراسات، التي تناولت ما يسمى بـ”الربيع العربي”، ركزت على مدى النجاح والفشل الذي طبع كل تجربة على حدة، وأغلب هذه الدراسات يكاد يجمع على تعثر التجارب في جميع البلدان التي مستها شظايا “الربيع العربي” إبان 2011.

كما أن هناك دراسات ذهبت إلى أن هذه البلدان تشهد “موجة ثورية” خاصة، وهي عبارة عن سلسلة من الثورات، التي تحدث في أماكن مختلفة في فترة زمنية متشابهة، وهذا ما وقع فعلا في سياق الموجة الثورية للربيع العربي، ذلك أن مفهوم “الموجة الثورية”، في علم الاجتماع السياسي، يقتضي وجود سلسلة من الهزات تتساوق زمنيا في مناطق مختلفة وفق سيرورة محددة قد تلهم في كثير من الحالات الثورات أو “الموجات الثورية” أو الثورات التي تحدث بعدها، إذ تُلهم الثورة الأولى الثورات الأخرى المتزامنة “أو التابعة لها” المتماثلة الأهداف. وقد درس هذا النوع الكثير من الباحثين من قبيل كرين برينتون وحنة آرندت وإريك هوفر وجاك جوديتشو.

في مقابل ذلك، فإن الفكرة التي يناقشها كتاب from democratic transition to democracy learning، الذي صدر مؤخرا – وهو من تنسيق الدكتور محمد الهاشمي من المغرب، الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة شعيب الدكالي، والبروفيسور العربي صديقي من تونس، الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة إكستر ببريطانيا- تتمايز، إن لم نقل تختلف، جملة وتفصيلا، عما ذهب إليه الكثير من الباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية في العالم العربي، وكذا في الغرب.

وهذا الكتاب، الذي نقدمه اليوم إلى القارئ، يعطي انطباعا منذ الوهلة الأولى بالتميز الحاصل في العلوم السياسية بالمنطقة المغاربية، خصوصا المغرب وتونس، اللذين عرفا مسارا مميزا بخصوص أحداث الربيع العربي، ناهيك عن كون المساهمين في الكتاب بمقالات بالإنجليزية أو الفرنسية، وأغلبهم من الدول المغاربية، يزيد من أهمية هذا الانطباع، إلى درجة القناعة بالدور الذي لعبته منطقة شمال إفريقيا، عبر التاريخ، من حيث المساهمات القيمة في الثقافات والحضارات الأورو-متوسطية.

وهذا يتبدى، من خلال مقدمتي الكتاب، اللتين كتباهما الدكتور الهاشمي والدكتور صديقي، إذ تقول المقدمة الأولى: “على غرار الحضارات الأخرى التي تعاقبت على المنطقة العربية، لعبت بلدان شمال إفريقيا، في لحظات معينة من التاريخ، دورا حاسما في مسارات انتقال وانتشار وتبادل المعرفة مع حضارات أخرى. هذه المسارات لم تكن أحادية الاتجاه، بل كانت تيارات تلاقح بينية. وما كان أثر هذا التلاقح بين الحضارات لينمحي أمام الانتقال الزاحف للأفكار التي تتخطى كل الحواجز، بل إنه بصم الخريطة الثقافية لمنطقة شمال إفريقيا”.

وكما أنه “في الوقت الذي تعيش منطقة شمال إفريقيا لحظتها “الديمقراطية” و”الثورية”، يبدو من الملح أكثر من أي وقت مضى الوقوف عند مسألة تعلم الديمقراطية والتركيز على المقومات الذاتية لبناء المعرفة الديمقراطية وتسليط الضوء على التبادلات البينية بين الديمقراطيات، وهي جوانب لم تحظ بالاهتمام اللازم في خضم تحليل الأحداث التي وقعت بعد 2011″ هكذا تقرر المقدمة الثانية.

ويبدو أنه، بالرغم من أن الكتاب أكاديمي صرف، فإن له أفقا “نضاليا” يسعى إلى تحرير العقل من الأفكار الاستشراقية ووصاية التاريخ الاستعماري، التي رانت على المنطقة وقتا طويلا، ظهرت أماراتها الكبرى في أسلوب وطريقة تناول “الموجة الثورية” للربيع العربي، الذي انطلق من شمال إفريقيا/ تونس.

ونقرأ هذه الفكرة ذات “الأفق النضالي” بطريقة أوضح في الكتاب، حيث يوضح بشكل جلي أن “المرحلة التي تجتازها منطقة شمال إفريقيا، اليوم، بما تعرفه من مراحل القطيعة والاستمرارية، تعد فرصة سانحة قل نظيرها من أجل تحرير المنطقة من الأفكار الاستشراقية الجاهزة ووصاية التأريخ الاستعماري”.

ويضيف بشكل أوضح: “إن سمة الاستعلاء التي تطبع كتابات العديد من المستشرقين حول الشرق الأوسط لا زالت تهيمن على تمثل الغرب بخصوص الديمقراطية في الشرق. ولا زالت علاقة الشرق بالغرب ينظر إليها من زاوية التناقضات والاختلافات القائمة. وفي الغالب يتم تفضيل الغرب كمصدر وحيد لمعرفة مسألة الحكم الأمثل. في المقابل، لا ينظر إلى الشرق في علاقته بالغرب إلا باعتباره المرآة العاكسة لبعض الصور النمطية التي تلبي حاجة الغرب في النظر لنفسه وللآخرين”.

وبهذا المعنى، يبدو الشرق كما لو وجد ليؤكد ويعكس ما يمثل ولا يمثل الغرب من مساوئ وتناقضات. إذ من خلال الصور النمطية التي شكلها الغرب عن الشرق على امتداد الاستشراق، يتم اختزال نقيض الغرب أو “اللاغرب”، بشكل عام، في مجرد هامش بسيط يرتبط، على الخصوص، بقضايا إعمال العقل والتنظير وإنتاج المعرفة.

ويمكن أن نلمس هذا الخط الناظم في الفكر الغربي من خلال العديد من الكتابات، التي اهتمت بالأنظمة السياسية ومجتمعات شمال إفريقيا والعالم العربي بشكل عام، وبالأخص، أعمال أخصائيي علم الانتقال وعلم الدعم.

وبصرف النظر عن استمرار هيمنة بعض الافتراضات المثيرة للجدل على مبحث الدراسات الديمقراطية وعلم الانتقال، فإن هناك جهودا جبارة تبذل بهدف الإفلات من حتمية الطابع الخطي والتبشيري اللاتاريخي، الذي يغلب على معظم أدبيات الانتقال الديمقراطي في علم السياسة الغربي، وهنا تكمن أهمية الكتاب ولا ريب.

ومن باب الإنصاف، فإن الكتاب يعلن عن وجود كتابات علمية، في الغرب طبعا، أقرت بوجود قدرة ذاتية نابعة من داخل المجتمعات المشرقية تساعدها على القيادة على التغيير أو التحول بنفسها.

وأشار الكتاب إلى أن الكثير من الكتابات تؤكد على الأبعاد السوسيولوجية للتعبئة الشعبية، ومن أبرزها الدراسات التي أبرزت تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على عولمة الاحتجاجات خلال الربيع العربي.

غير أن هذه التحليلات، بالرغم من نباهتها، لم تتمكن بعد من خلق تلاحم بين الغرب والشرق، ونقصد بهذا الإقرار بقدرة الشعوب العربية، عن وعي، على الاعتماد ليس فقط على موارد الشبكات الاجتماعية، بل، أيضا، على استلهام الدروس من تاريخها، وأن تغرف من مخزون الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان باعتباره يدخل ضمن المتاح للبشرية جمعاء.

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أن بعض الأبحاث، التي حاولت دراسة الربيع العربي، اهتمت بالجوانب التجريبية إبان الربيع العربي دون النظر في الإطار المفاهيمي والنظري للفاعلين فيه. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه التحاليل لا تستند على أي إطار “ميتا نظري” للتحولات السياسية التي تعرفها المنطقة.

إن الشرق، الذي يعتبر العالم العربي وشمال إفريقيا جزءا منه، لا يمكن اختزاله في “ورشة” أو “مختبر” لاختبار وتجريب الأفكار والنظريات الغربية التي نشأت في السياق الغربي. وهكذا يعتبر هذا الكتاب، المعنون بـfrom democratic transition to democracy learning، أن اللحظة الديمقراطية التي بشّرت بها الثورات في شمال إفريقيا تتطلّب نوعا من التلاقح البينيّ Pollinisation croisée، ذلك أن أخلاقيات التعدد والحكم الجيد والهوية الديمقراطية يستعصي حصرها في إطار مجال جغرافي واحد أو أنموذج معرفي واحد أو إثنية أو منطقة أو ديانة أو حضارة واحدة.

وتجمع أغلب الدراسات الواردة في الكتاب على أن الديمقراطية لا تزال موضوع اختلاف وجدال في السياق الشمال إفريقي والعربي بشكل عام، لكن هذا الأخير أصبح يسمح أكثر من أي وقت مضى بانبثاق فضاءات للتعبير عن بعض القيم والمثل الديمقراطية الأساسية، وهو ما يعني أن العالم العربي، اليوم، ليس معاديا لقيم وأخلاق الديمقراطية، وأن الغرب لم يعد يجسد النموذج الوحيد للديمقراطية.

وهكذا تُظهر المساهمات، التي يضمها هذا الكتاب، مقاربة إشكالية المعرفة الديمقراطية، ومن أجل ذلك حاول الباحثون اعتماد مجموعة من المسالك، يمكن أن نذكر من بينها على سيبل المثال لا الحصر:

– البحث في التبادلات غير المتكافئة بين الغرب والعالم العربي في مسارات التعلم والدمقرطة الجارية في الوقت الراهن.

– كيف تتجاوز المعارف الجديدة حول الديمقراطية، التي نشأت في سياق الربيع العربي، ما هو متعارف عليه في السياق الأوربي والأمريكي بخصوص الديمقراطية؟

– البحث في المسارات التي انخرط فيها الفاعلون (من العالمين العربي والغربي) من أجل خلق معارف جديدة بخصوص الديمقراطية تتلاءم مع اللحظة الديمقراطية الحالية.

الجدير بالملاحظة، اليوم، هو أن تقنيات المقاومة والخبرة الثورية سمحت بخلق فضاءات واسعة لالتقائية وتبادل المعارف. وهكذا يبدو أن الحركات الاجتماعية الجديدة من المغرب إلى مصر، تتعلم من بعضها البعض من أجل بناء نوع جديد من الحراكات والديناميات المجتمعية المنطلقة من الأسفل لمواجهة السلطوية.

ففي العديد من البلدان العربية تشكل المسلسلات الانتخابية، والإصلاحات الدستورية، ووضع بعض آليات العدالة الانتقالية، وبناء التحالفات المدنية مسارات تساهم في انبثاق هويات وقيم ديمقراطية. في المقابل، نجد أن الشك والتردد أخذا يخيمان على الفاعلين في برامج نشر الديمقراطية، حيث لم يعد بإمكانهم الظهور بمظهر من ينفرد بمجال الخبرة في الديمقراطية.

بناء على الاعتبارات سالفة الذكر، يمكن القول إن من بين كل القضايا التي تطرحها الدينامية السياسية، التي يعرفها العالم العربي، اليوم، لا توجد قضية تستحق اهتماما خاصا أكثر من مسألة المعرفة الديمقراطية كنقطة تحول اقتضت أن يتوقف عندها المساهمون في هذا الكتاب، في سبيل مقاربة تروم تناول المعرفة الديمقراطية باعتبارها إشكالية تستهدف استفهام سيرورة مسارات عمليات الاستيعاب والنقل وتبادل المعارف بين العالم العربي والغرب.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي