شارك المقال
  • تم النسخ

أفاية يسلط الضوء على صور “الآخر” في الفكر العربي الإسلامي


نورالدين لشهب

في غمرة شيوع تمثلات يكتنفها كثير من التنافر إزاء “الآخر” وسط موجة الصراعات ذات الأبعاد المختلفة التي يعرفها العالم، أصدر محمد نور الدين أفاية، أستاذ التعليم العالي في تخصص الجماليات وفلسفة التواصل، كتابا موسوما بعنوان “صُوَر الغيْريّة.. تجليات الآخر في الفكر العربي الإسلامي”.

ويبحث أفاية، في مؤلَّفه الجديد الذي صدر عن المركز العربي للكتاب والذي يعد طبعة ثانية من كتاب أصدره بعنوان “الغرب المتخيل”، عنصر الغيريّة كما يحملها التصور العربي الإسلامي؛ وهو موضوع يرى أفاية أنه “يكتسي راهنية دائمة طالما أن الفكرَ العربي المعاصر يشهد، في سياقات متوترة، مظاهرَ متنوعة من الضيق والحيْرة على صعيد قدرته على تعريف ذاته وتحديد الغير”.

وإذا كان الفكر العربي الإسلامي يشهد مظاهر متنوعة من الحيرة والضيق، على صعيد تعريف ذاته وتحديد الغير، ويعرف “حربا أهلية” حقيقية على صعيد المرجعيات والرموز والمعنى والتسمية، فإنه يواجه، كما يقول أفاية، “قلقًا لافتًا على صعيد التعامل مع الغيرية، ولا سيما مع الغرب”؛ لكن من أين استُمِدَّت التمثلات الراسخة في الفكر العربي الإسلامي عن “الغير”؟

يجيب أفاية عن هذا السؤال في كتابه بالقول إنَّ الصورة، مهما كان سندها وتنوعت طبيعتها، حين تقترن بوجدان ضدِّي، أو تندرج في سياق صراع على المصالح والرموز فإنها، أي الصورة، كثيرا ما تحل محل الواقع.

وللتوضيح أكثر، يعود أفاية إلى مرحلة مفصلية من تاريخ الفكر العربي الإسلامي؛ وهي المرحلة التي دخلت فيها الواقعة الإسلامية، والمقصود بها الإسلام، باعتباره وجودا تاريخيا تمثّل في أنسجة المجتمعات والسياسة وأيضا في النظر والقيم، وتراجُع تأثير حضارتها، في زمن دائري، جعل الوعي بهذا الزمن يتحوّل إلى أنظمة عامة من التمثلات، بحيث تغدو الذاكرة تشتغل على إيقاع تكراري.

نتيجة اشتغال الذاكرة على هذا الإيقاع التكراري، كما ورد في كتاب أفاية، جعل المُتخيَّل يستمد مقوماته من رصيد رمزي حافل بالأحكام المسبقة والصور النمطية، مضيفا أنّ ذلك أدى إلى انغماس الواقعة الإسلامية “في انحطاط لا يكف يفرز التباساته بين الخطاب والواقع، بين الوسائل والمقاصد، بين الذات والغير، ويصبح خطاب الانحطاط تعبيرا عن حالة القلق الدائم تعبُر تجلياتُه مختلف أنسجة المجتمع ومصادرَ إنتاج الرموز”.

ولفهْم أعمق لهذا المُعطى، يقول محمد نور الدين أفاية، إنه ينبغي استحضارُ معالم النظرة المتبادلة إلى الآخر، وإلى أوروبا اللاتينية بالأخص، التي تختزن رواسبَ دفينةً تستدعي العودة إلى التراث الوسيط، بحكم أنها لا تكف عن إعادة إنتاج عناصر متخيل لم تتمكن الفعالية العقلية من ترويضها لبناء تصور متوازن إلى الذات والغير والواقع والعالم.

ويسعى الكتاب الجديد إلى البرهنة على الأهمية الكبيرة للعامل الوجداني المُؤسِّس للسلوك الديني مع الذات والغير، حيث يدافع المؤلِّف عن أطروحة مفادها أن للمتخيَّل دورا كبيرا في إنتاج وإعادة إنتاج صور الذات والغير، وبأنَّ المتخيَّل الجمعي حين يتشابك مع مكونات الواقع يتحول إلى أفعال مادية وبشرية ملموسة، بحيث تتشكّل حركية التاريخ من خلال عمليات تداخل بين الرمزي والواقعي والأسطوري.

من هذا المنطلق النظري، يحاول الكتاب إبراز نمط اشتغال المتخيل في علاقته بحركية الإنسان العربي الإسلامي وفي عمليات استحضاره لصور الغير، كيفما حضر هذا الغير، سواء مثّل اختلافًا دينيًا أو انتماءً حضاريًا مُميزًا.

وإذا كان تكوين الصور النمطية عن الغير من أسهل الآليات النفسية والذهنية لدى الجماعات، فإنَّ تجاوز هذه الصور وإقصاءَها من مساحة الوجدان والمتخيل، يقول صاحب الكتاب، من أعقد وأصعب الإجراءات.

قد ترجع بعض الصور النمطية إلى التاريخ، بحكم الاحتكاكات المختلفة التي تحصل بين الجماعات والشعوب، كما يبين المؤلف في هذا الكتاب، وقد تجد في الحاضر ما يؤججها ويكرس السلبي من أحكامها ويعمق الحذر والاحتياط من الآخر. وبقدرته الخارقة على صنع الصور- كل الصور- الواقعية والافتراضية والمتخيلة، وعلى توحيد الرؤى والاختيارات والأذواق، يولد الزمن المعاصر ما هو لصيق بجوهر الصورة ذاتها، أي تناقضها ومفارقتها وانزياحيتها.

ويضيف أفاية أنّ المسألة تتعقد أكثر حين تتحالف بقايا الماضي بعوامل الحاضر، وتتشابك الصور في العقل والوجدان، وتختلط الأمور، لا سيما حين تتقدم صور الآخر وكأنها تجسيد لوجود شيطاني، يهدد الأمن ونمط العيش والاستقرار، وتغدو التعبئة أسهل وسيلة لخلق وجدان عام لتأمين شروط المصلحة، والدعاية كأنجع طريق لتوليد “رأي عام” مستعد لتصديق كل ما تضخه وسائل إنتاج الصور من أغاليط وتشويهات وحقائق مقلوبة.

وبالرغم من أنّ العالم أضحى، كما يُقال، قرية صغيرة، وأصبحت قنوات الاحتكاك والتلاقي والتثاقف واسعة بشكل لافت، بفضل ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة، فإنّ أفاية يرى أنّ النظرة المتبادلة بين العرب وأوروبا والتي كان يسكنها، في القرون الوسطى، التباس أصلي، يُكرسه قلق مسترسل في الزمان، ويتأرجح بين النزوع إلى الاعتراف والميل إلى الحذر والتحوط، ما تزال هذه النظرة تتخذ، في كل مرة، أبعادًا جديدة، على الرغم من كل أشكال التلاقي والاحتكاك والتثاقف.

ويرى المؤلّف، الذي حاول من خلال مؤلفه الجديد، رصْد تطوُّر صور الآخر في المتخيّل العربي الإسلامي، ابتداء من القرآن إلى فكر ابن خلدون، أنّ الدين يمثل عاملا حاسمًا، التأرجح الذي توجد عليه هذه النظرة، في حين يلعب الرأسمال الوجداني والمتخيل الرمزي دورًا في تعزيز الالتباس، كما يشكل الجموح الجارف لكسب المصالح سببًا في تعميق الحذر ومشاعر الاستبعاد.

وبالرغم من أنَّ النظرة بين العرب وأوروبا، ما زالت تتخذ أبعادا مختلفة، يُلفت صاحب “الصُّور الغيْرية.. تجليات الآخر في الفكر العربي الإسلامي”، إلى أنَّ التصورات عن الهوية والمغايرة التي سادت في العقود الأخيرة قد تغيرت، خصوصا بين الشرق العربي والغرب، واهتزت الحدود، الواقعية كما المتخيلة، بينهما، بسبب الهجرة اللامتوقفة للأجساد والرموز والأفكار، وما ينتجه الاقتصاد من وقائع وعلاقات جديدة.

وثمّة عامل آخر أدّى إلى تغيّر التصورات عن الهوية والمغايرة التي سادت في العقود الأخيرة، ويتعلق بما تمارسه الثورة التكنولوجية من تأثيرات على الحواس، والأذهان والأذواق، موضحا أنّ الغرب لم يعد هو ذاته؛ لأن ملايين المسلمين استوطنوا بلدانه واكتسبوا جنسياتها، كما لم يبقَ الشرق العربي هو نفسه، لأن الغرب سكنه منذ مدة طويلة، حيث خلخل بنيانه الذهني والفكري والجغرافي والاقتصادي والمعيشي؛ بل إن الغرب يتقدم، في بعض الأوقات، وكأنه منقذ لبعض الشرق العربي من نفسه، أو من قوى تستثمر “المتخيل الجهادي” بطريقتها طمعًا في استعادة مجد مفقود، أو إقامة خلافة جديدة.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي