شارك المقال
  • تم النسخ

نسيرة: “أخونة التسلف” دهاء و”ولاية الفقيه” هي الوجه الآخر لـ”القاعدة” و”داعش”

حاوره نورالدين لشهب

وعلى عكس أطروحة “تسلف الإخوان” التي تحدث عنها الباحث الراحل حسام تمام، فإن هاني نسيرة، في حوار خاص، يدافع عن مقولة “أخونة التسلف” نظرا لوعي السلفيين بفكرة الواقع والفرصة، وكذا وعيهم بفكرة الفتوى ومراعاة الواجب في الوقت، وذكائهم بأن لا يتركوا غيرهم يستثمرهم…

واعتبر، أن إيران هي الوجه الآخر للتطرف الجهادي السني، سواء كان تنظيم “القاعدة” أو دولة “داعش”.

ودعا الباحث المصري الإعلام العربي إلى التمييز بين تشيع وتشيع، والتمييز أيضا بين تسنن وتسنن؛ ذلك أن “فكر الاختلاف يحتاجه الإعلام العربي المعاصر والفكر العربي المعاصر”، على حد قوله.

إليكم الحوار كاملا مع الأكاديمي المصري هاني نسيرة..

المؤتمر الأخير لحزب النهضة في تونس تمخض عن فصل الدعوي عن السياسي كيف تلقيت هذا الكلام؟

اعتقد بأنه فصل تنظيمي، أو كما وصفه الأستاذ الغنوشي نفسه وعدد من قيادات النهضة بأنه تخصيص تنظيمي بأن يعمل الدعاة في الدعوة وأن يعمل السياسيون في السياسة، وليس تطورا نوعيا في فكر حركة النهضة، ولكنه إيجابي على مستوى التنظيم، ويؤكد، على مستوى الفكر، بدرجة ما، أن لدى النهضة وعيا تاريخيا، وأنها تستطيع تجاوز أزماتها وتجديد صورتها والتكيف مع الواقع الجديد.

وظني أن أهم ما حدث وصدر في هذا المؤتمر هو الاعتذار عن أخطاء النهضة أثناء فترة حكمها وقبلها وبعدها، كما صرح الغنوشي نفسه. فمن النادر أن نجد حركة إسلامية تعتذر، وأن تعتذر من رأسها ومن قادتها وفي مؤتمرها العام العاشر. وأيضا من الأمور الإيجابية التي من المهم أن ننتبه لها هو قدرة قادة النهضة على الحفاظ على الحركة والتنظيم، وقبله وبعده الحفاظ على تونس، وقد أشار البيان الختامي لمؤتمرهم الأخير إلى “نموذج العيش التونسي”، فلم يحدث استقطاب حاد كالذي حدث في مصر، بل شاهدنا رئيس الدولة يزورهم في مؤتمرهم ويرحبون به، كما ترحم رئيس الحركة على شهداء كانوا معارضين له، مثل شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهو ما تفتقده حركة الإخوان المسلمين في مصر بشكل شبه كامل من إقصاء الآخر وازدرائه والتعالي عليه وعدم الرغبة في الاعتذار، وقبلها عدم القدرة على المراجعة.

هناك من رأى أن دعوة فصل الدين عن السياسة هي تملص بشكل رسمي من الإخوان المسلمين أو ما سماه بعض الإخوان المسلمين المقيمين في لندن بـ”الاخوانوفوبيا”؟

تجربة النهضة هي تجربة مختلفة عن الإخوان المسلمين، وفهم الظاهرة الإسلامية أو ظاهرة الإسلام السياسي يحتاج وعيا تفكيكيا بالاختلاف بين حركاته وممثليه.. حركات كإخوان الأردن أو سوريا ليسوا هم إخوان مصر، كما يختلف الإخوان عن الحركة الإسلامية المغاربية، سواء في شكلها النهضي أو في شكل العدالة والتنمية المغربي، وكذلك عن الأردوغانية التركية أو حركة الترابي..ثمة مسافات وفروق واضحة في خطاب الغنوشي وبين الإخوان.. لا يمكن الاستمرار بالقول إن الغنوشي أو الترابي يمثلون امتدادا لحركة الإخوان المسلمين. نعم ربما تكون هناك درجات من التأثير والتأثر خاصة مع التأثير المبكر للحركة الأم الأسبق التي أسست الإسلام السياسي، ولكن هذا لا يعني تبعية وانتماء لمرشدها. هناك التنظير الدولي للإخوان، وليس التنظيم الدولي، يمتد لكل العالم الإسلامي، إن هناك تنظيمات كبيرة منفصلة عن الإخوان تنظيميا وتنظيريا، ومنها حركة النهضة التونسية.

ولكن لا ننسى دكتور هاني أن ما يقرب من 20 سنة التي قضاها الغنوشي في المنفى في بريطانيا كان يعيش في حضن الإخوان المسلمين..

تجربة الغنوشي في المنفى أولا لها تأثيرها، لكن قبل ذلك فقد اختار المنفى، لكن لم يستخدم عنفا ضد نظام بن على، كما أن فترة منفاه الثمانية عشر عاما أنضجته فكريا، وأثنى على الأنظمة العلمانية الأوروبية واحترمها وقبِل بالعلمانية كنظام حكم هناك، وكان يرحب بها في أحيان كثيرة ويدافع عنها نظريا..

أما مسألة احتضان جماعة الإخوان في أوروبا له، فرغم أن هناك فروعا للإخوان تعمل في أوروبا، وخاصة في بريطانيا وألمانيا وسويسرا، لكن هذا لا يعني أن كل إسلامي ذهب إلى هناك ارتمى في حضنهم، فالجهاديون موجودون في أوروبا، وتسمى شرق لندن “لندنستان” لاكتظاظها بالحركات الإسلامية والدعوية الأخرى.

ومسألة ترحيب الإخوان به أحيانا في الداخل أو الخارج، لا تنفي واقعيا تطور فكر الرجل وحركته وتمايزها بدرجة كبيرة عن تجربة الإخوان المسلمين في وعيها بفكرة الوطن والمواطنة، والتجدد والتكيف بوعيها في مقاربتها لمسألة الحريات العامة أو حقوق الإنسان، أو في وعيها بعلاقتها بالحداثة الغربية.

تونس مختلفة وحركة النهضة مختلفة وكذلك الحركة الإسلامية المغربية مختلفة عن نظيرتها الإخوانية المصرية التي عانت من الجفاف النظري منذ وفاة مؤسسها حسن البنا سنة 1949، ووفاة مؤسسها الثاني سيد قطب، الذي لا تعترف به وبقي قادتها وصقورها في إطار أفكاره، سنة 1965.

لذا لم تتجدد حركة الإخوان فكريا منذ هذا التاريخ، بينما ظلت النهضة تتجدد عبر حياة مؤسسها وزعيمها ومنظريها، وتجدد حركات أخرى، وتتم قطيعة ما وتمفصلات مهمة في الحركة الإسلامية التركية من نجم الدين أربكان وحزب السعادة والرفاه إلى حزب العدالة والتنمية المختلف مع أربكان وحزب السعادة. هناك تمفصلات وتطورات شهدتها الحركات الإسلامية.

ألا ترى أن فصل الدعوي عن السياسي هو تحصيل حاصل بالنسبة لحزب النهضة لأنه كان يعيش في المنفى، ثم لأنه لم تكن له جمعيات موازية دعوية موجودة في تونس لأن أي جمعية كانت لعا علاقة بحزب النهضة إلا ويتم تجفيف منابعها.. معناه أن فصل الدعوي عن السياسي عند الغنوشي حاصل لأنه ليست لديه دعوة من ورائه تعتبر خزانا انتخابيا بالنسبة للحركات الإسلامية الأخرى؟

إن كانت النهضة في تونس عانت في منفاها من عدم وجود مؤسسات تعبّر عنها، فلا شك أنها منذ 2011 وجدت وأوجدت لها مؤسسات وحضورا مجتمعيا، وهي الآن تعد حزب الأغلبية في البرلمان التونسي..

أعتقد بأن المسألة هي تطور فكري، النهضة تتطور في اتجاه هوية سياسية جديدة، تتطور في اتجاه تعايش وعدم احتكار للإسلام. وقالوا في بيانهم الختامي، وهذا مهم، أن ما يقولونه اجتهاد أما ما يقوله الإخوان المسلمون في مصر، مثلا، هو الإسلام، وما تقوله “داعش” يصفونه بأنه الإسلام الصحيح الذي على أساسه تتم المفاصلة إيمانا وكفرا وجهادا وخروجا. أما ما تقوله النهضة فهو تطور نوعي على مستوى التنظيم ينسجم مع تطورات نوعية على مستوى الخطاب، علينا أن نقر بها وأن ندعو حركة الإخوان في مصر التي فصلت وتجمدت أن تراجع في الاتجاه نفسه، عكس منطق الانقلاب على الزمن ووصف كل من يخالفها بأنه انقلاب والمجتمع ضحية والدولة ضحية والإسلام ضحية دون توقف أو تصحيح، وهو ما يغذي الظاهرة الداعشية والجهادية دائما. على الجماعة أن تؤمن بالتاريخ والتطور التاريخي، وأن تجدد من إيجابياتها، وأن تجدد من مقولاتها، وأن تمكن فكرة الاختلاف والاجتهاد في بنية خطابها، وأن ما تقوله أو ما تفعله ليس مقدسا ومعرض للخطأ، وهو ليس بكلام معصوم.

حين نتحدث عن حزب النهضة الحديث، يقذف بنا الحديث مباشرة إلى شخصية راشد الغنوشي.. ألا يمكن أن نقول إن هذا التطور يمكن، كما سميته أنت، ناجم عن شخصيته لأنه كان قوميا ناصريا وكان في علاقة مع المؤتمرات القومية-الإسلامية، وكان أحد المشرفين على نجاحها من الجانب الإسلامي طبعا؟

طبعا، خلفية الأستاذ راشد الغنوشي بالتأكيد مؤثرة في فكره، إنه قادم من فكر أيديولوجي آخر كالفكر الناصري القومي، ولم يكن انتقاله للحركة الإسلامية إلا عبر محطة دعوية غير سياسية، هي جماعة التبليغ والدعوة، ولم ينتقل عن طريق الإسلام السياسي، كما أن تجربة 18 سنة من المنفى كان لها أثر كبير، فقد حافظ خلالها على علاقات طيبة مع تيارات مدنية وحقوقية وثقافية عربية، عكس حركة الإخوان المسلمين التي ظلت منذ المرشد الثالث يسيطر عليها الصقور ويطرد منها الحمائم ويطرد منها كل تيار تجديدي أو كل صوت نقدي ويسيطر عليها القطبيون التلاميذ المخلصون لفكرة الانقلاب الإسلامي والحاكمية.

ألا يمكن أن نقول كذلك إن ذلك ناجم عن مهنته، فهو اشتغل بالإنسانيات ودرس الفلسفة، بينما أغلب الإسلاميين الآخرين إما جاؤوا من الهندسة أو العلوم وليس لديهم تفكير تفكيكي أو جاؤوا من الدراسات والشريعة الإسلامية؟

هذا صحيح بدرجة كبيرة، فبين ثمانية مرشدين للإخوان لا يوجد إلا مرشد واحد له علاقة بالعلوم الشرعية الذي هو حسن البنا نفسه، والباقون آتون من خلفيات بعيدة عن الشرع؛ من الرياضة شأن مهدي عاكف المرشد السابق، إلى الطب البيطري شأن المرشد الحالي محمد بديع، كما لم يكمل بعضهم تعليمه أصلا مثل المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر، وكما سبق أن قلنا جماعة الإخوان صارت حالة تنظيمية تجمد فيها التنظير والتفكير، وحالة لا تستوعب فكرة التجديد ولا فكرة المصالحة مع التاريخ ولا فكرة الاعتذار عن خطأ محتمل أو أكيد، أما حالة النهضة فهي على العكس من ذلك حالة تنظيمية ومتطورة نظريا.

ألا يمكن الحديث عن المجال التداولي والسياسي والثقافي في تونس بأنه يختلف عن البلدان الأخرى، معناه أن تونس عرفت مرحلة طويلة من العلمنة على عهد بورقيبة وبن علي وتم تحييد دور جامعة الزيتونة وبالتالي لا مبرر حتى لو استعملت ما هو دعوي سيعزلها وتبقى متخاصمة مع كل أشكال الطيف السياسي في تونس على عكس مصر التي توجد بها الأزهر كمعلمة إسلامية تاريخية؟

هناك بالتأكيد فضل للبورقيبية في علمنة تونس، ورسوخ المجتمع المدني يجعل من تونس مجتمعا قويا وعفيا، أوافقك الرأي. لكن هذا السبب الخارجي متوفر أيضا في مصر، فلدينا حركة مدنية وحقوقية قوية ولدينا مجتمع مدني منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولدينا حركة نسوية منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

ولكن المؤسسة الدينية مازالت قوية في حين الزيتونة تراجعت وربما لا تكاد توجد في تونس حاليا، أضف إلى هذا أن في مصر التدين قوي، موجود في الأزهر والكنيسة والمفتي، والرؤساء المصريون استعملوا الدين مثل “الرئيس المؤمن” التي كانت تطلق على أنور السادات؟

التدين موجود، والمؤسسات الدينية ليست إلا حالة تنظيم أو تغليب اتجاه ما، لكن يظل الفضاء الديني متاحا ومحل تناقضات متعددة، الأزهر يتقدم مرة، السلفيون مرة أخرى، الدعاة الجدد مرة ثانية أو إسلام السوق كما يسمونه، يتقدم إسلام الفضائيات، يتقدم الخطاب السلفي.. كل الأطياف موجودة وأيضا الخطاب المدني موجود.

تحدث صديقنا المشترك الأستاذ حسام تمام رحمه الله عما سماه بـ”تسلف الإخوان” ولكن بعد الثورة التي وقعت في مصر رأينا السلفيين يتحزبون وهذا التحزب يعني موضة إخوانية، الإيمان بالعمل السلمي.. هل يمكن أن نقول إننا الآن إزاء ظاهرة ما يسمى بأخونة السلفية؟

أولا رحم الله حسام كان أخا صديقا عزيزا .. لكن أنا اختلف مع حسام في هذه المسألة، وقد نشرت حول ذلك في الحياة اللندنية، أنا أرى أن الإخوان كمدرسة فكروية شمولية سلفية بالأساس فضفاضة وغير محددة، فيها صوفي مثل سعيد حوى، وفقهي مثل السيد سابق رحمه الله، وفيها أيضا السلفي مثل نعيم ياسين ومناع القطان، ومحمد سرور زين العابدين كان إخوانيا سلفيا.. فهي حالة ليست سلفية محضة، ولكن فكروية واسعة.

وإذا كان تسلف الإخوان المقصود به أنهم يزدادون راديكالية ومحافظة ورفضا للتجديد، خاصة أنه شاهد وشاهدنا معه طرد مثل حزب الوسط وأمثال عبد المنعم أبو الفتوح وإقصاء كل المجددين، لكن ليست سلفية بالمعنى الأصولي أو الدعوى المعاصر، ولكن راديكالية أيديولوجية، أما الحركات السلفية في أصلها هي دعوة براغماتية، دعوة تكيفية مع الزمن. فلذلك الحركات السلفية بعد الثورات بدل أن تتحزب تأخونت بينما تسلّف الإخوان، وهكذا تأخون السلفيون وتسلف الإخوان لأن الإخوان زادوا رادكالية.

ما هي الأسباب التي دعت إلى أخونة السلفية؟

وعيهم بفكرة الواقع والفرصة، وعيهم بفكرة الفتوى ومراعاة الواجب في الوقت، وذكاؤهم في أنهم لم يتركوا غيرهم يستثمرهم، فالإخوان راهنوا على السلفية في بداية الثورة 2011 والجهاديون ذهبوا إليهم ودعوهم إلى أن ينشئوا معهم حزبا لأنهم تيار شعبي عريض بدلا من أن يكونوا أداة في يد هؤلاء. هم قرروا أن يكونوا ذوي هوية مستقلة وبأحزاب مستقلة، وأنشؤوا حزبا وأقاموا تحالفا، وحصدوا المركز الثاني في 2011 و2012 وحافظوا على وجودهم بحكم إيمانهم أولا. اختلفوا مع الإخوان، اختلفوا مع تجربتهم وخطابهم أيضا، قاموا بتحييد أنفسهم في الثورة ضد الإخوان، لكنهم وافقوا على ما بعد الثورة، لم يقفوا مع الإخوان ولم يقفوا مع النظام، لكن أيدوا المتغلب، أيدوا من انتصر، أيدوا النظام الذي نشأ مع الثورة. فهذا وعي بالواقعية.

يعني اشتغلوا بشكل مكيافيلي.. ولكن على المستوى الفكري هل تطور فكرهم، ألازال يعتمد على الفكر السلطاني القديم؟

الأحكام السلطانية القديمة هي وعي تاريخي بلحظاته، كانت حلولا لأزمات في أوقات وظروف معينة، حينما تكلم فقهاؤنا عن ولاية المتغلب وحين دافع ابن تيمية السلفي عن دولة المماليك الذين لم يكونوا أحرارا ولم يكونوا سلفيين، بل صوفية أشعرية حنفية، لكنه رآهم الأمل والملجأ والقدرة التي تستطيع أن تصد المغول والتي يمكن أن تصد الصليبيين والتي يمكن أن تحمي السنة ضد الشيعة وصحوتهم في عصره، بعد أن تحول المغول حين أسلموا إلى المذهب الشيعي.

كذلك لم يكن رهان من سبقه إلى الخلافة العباسية التي سقطت أصلا حتى ظهر صلاح الدين كبطل خرج من الأكراد، على الأغلب، والخلافة قائمة وهو الذي حرر القدس. كان كل هذا وعيا بقانون الواقع، لذلك كانت تقبل دولة سلطنة في مصر الأيوبية أو المملوكية أو غيرها أو دول في المغرب العربي الحفصية والمرينية والمرابطية وعيا بالواقع، ولن تنتهك شرعيتهم لصالح السلطة المركزية في بغداد أو في مصر أو في غيرها. هذا وعي واقعي قديم كان في بنية ما يسمى بالأحكام السلطانية أو الآداب السلطانية.

هل لازال حاضرا لدى السلفيين؟

نعم هذا موجود لدى السلفيين وواعون به ويجدون منه التقعيد الفكري الفقهي المناسب لواقعهم وأزماتهم الراهنة، أما لو كنت فكرويا قادما من المدرسة القطبية سيقول لك الأنظمة القطرية وكل الأنظمة غير الخلافة غير شرعية وكل الدول طالما أنها لا تدعو إلى الخلافة الأصل.

الفكروية الأصولية وعي لا تاريخي منفصل عن قوانين التاريخ، لكن وعي السلفي هنا هو وعي متصل بالتاريخ، وهنا لا أدافع عن السلفية، هي فيها مشاكل وخاصة على مستوى التعصب والتبديع والموقف من الآخر في إطار وداخل الطائفة، والموقف من الآخر الطائفي، لكنها على مستوى السياسة كانت واقعية أكثر من الفكروية القطبية والإخوان غالبا.

هل يستطيع السلفيون أن يساهموا في تعزيز الدولة المدنية في مصر؟

الدولة المدنية المصرية هي، منذ أن أسسها محمد علي قبل قرنين، دولة حاضرة، دولة موجودة، السلفيون يتميزون في مصر بأنهم أكثر صدقية؛ بحيث يرون كلمة مدنية مرادفة للعلمانية، ولكنهم قالوا نقبل بالديمقراطية كإجراءات واختيار، ربما لم يقولوا نوافق على القيم الديمقراطية كمرجعية للسلطة باعتبارهم تيارا سياسيا، ولكن تيارا لا يغادر مرجعيته فهو يقبل بالأدوات المدنية في التنافس السياسي، ويحميهم في ذلك اقتناعهم وعقيدتهم في درء الفتنة والمفاسد وتقديمه على جلب المصالح، هذا الفهم الواقعي الموجود في الطراز الفقهي والعقدي يعصم السلفيين الحقيقيين من التهور والاصطدام مع الدولة مثل بعض حركات الإسلام السياسي.. هذه نقطة مهمة لابد من الوعي بها.

إذن نعود إلى إسلام الجهاد.. الحلة الجهادية من السلفية هي قائمة على الاستقطاب عبر الإنترنيت بشكل قوي.. يتوفرون على إخراج رائع لإعلامهم الجهادي، ربما غير موجود في العالم العربي لدى مجلات رسمية أو غير رسمية من تصوير متطور جدا ومواقع الاتصال في الإنترنيت تجذب هؤلاء الناس. هذه الحالة الجهادية كيف يمكن محاصرتها؟ هل تستطيع حركات الإسلام السياسي والأنظمة التي تتكئ على الدين أن تفرمل أو على الأقل تقلل من حجم التواصل أو من قوة هذه الصحوة الجهادية الموجودة حاليا ؟

طبعا هناك صحوة جهادية ليست مسبوقة من قبل، مع صعود تنظيم الدولة “داعش” ولكنها حالات كانت لها سياقاتها:

– سياق الأزمة الطائفية والاحتقان وبقاء وعنف بشار في سوريا، وكذلك سياق ممارسات نظام المالكي في العراق. وأبوها الأول أو سلفها الأول هو الزرقاوي الذي انتقل من أفغانستان مستثمرا هذا الاحتقان والصعود الشيعي المؤمن بولاية الفقيه وبأن الدولة الإسلامية الصحيحة هي دولة إيران ودولة الفقيه الخامنئي الآن وقبله الخميني، فخرجت الزرقاوية والداعشية نتاجا واشتعالا وظلما مورس من تمييز ضد السنة في المحافظات السنية، وهو يمارس التجنيد بأدوات مختلفة منها الفظاعة (Brutality) أحيانا، فحين يذبح الزرقاوي المهندس الأمريكي في 2005 أمام الشاشات، فإنه يصدّر لأنصاره المؤمنين بدولة الإسلام وبدار الإسلام شعور القوة والثقة، وكذلك يفعل خلفه من الدواعش، مصدرين الإحساس بالقوة.

كذلك ما فعلته “داعش” من دعواها لخلافة عالمية وهدم الحدود بين سوريا والعراق، لقد أحسن هذا التنظيم استغلال وتوظيف سياقات ما بعد أزمة دولة الربيع العربي.

لكن هل تستطيع حركات الإسلام السياسي أن تقوم بدور في مواجهتها؟

طبعا يمكن للجميع أن يقوم بدور في صد انتشار مثل هذا الفكر والتجنيد المضاد، لكن “داعش” وعناصرها لا تقرأ الإسلام السياسي ولا تهتم به ولا تعبأ له أو به، حتى إنها لا تهتم بالأزهر ولا المؤسسة الدينية ولا تعبأ للزيتونة ولا لأحد، هي تعبأ فقط لـ”القاعدة” التي تنتقدها وتعبأ للصراع النظري داخل المذاهب. تعبأ لخلافاتها مع غيرها من السلفيين الجهاديين ولا تعبأ للخلاف مع الأشعرية أو الإخوان أو السلفية، فكل هؤلاء بالنسبة لها باطل لا تنتبه له. لكنها مع صحوة توحشها والموجات المتزايدة من إدارة هذا التوحش.. وظني هذا شريان حياتها ومماتها في الآن نفسه، فالغلواء تأكل نفسها بنفسها، والغلواء تنتج غلواء دائما أكبر منها، ويزايد بعضها على بعض، “القاعدة” أخرجت الزرقاوي ثم البغدادي الأول والبغدادي الثاني، والآن ما يوصف بالخليفة ويزايد على “القاعدة” ويراها خائنة ويتهمها في عقيدتها، و”النصرة” تحارب “داعش”، و”داعش” تحارب “النصرة” وسلفية جهادية أخرى تنتقد الاثنين، وتلامذة تركي البنعلي ينتقدون شيوخهم كأبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني ويشتمونهم، لكن الخطاب المنفصل مرجعيا عن السلفية الجهادية إن لم يكن واعيا بأدبيات هذه التنظيمات ويمتلك القدرة الإعلامية والاتصالية والصورية نفسها عبر نماذج لن يستطيع مواجهتها.

ولكن قلت إنها تأكل نفسها بنفسها، ولكن الآن نرى أن أغلب الحركات الجهادية الموجودة في العالم الإسلامي من الفلبين إلى بنغلادش وأفغانستان والصومال ونيجريا، بل من المنطقة المغاربية في ليبيا، وأكثر من هذا من البوليساريو نجد أبو الوليد الصحراوي بايع خليفة “داعش”.. ألا يمكن القول إن الصحوة الجهادية قد تُوجت بدولة “داعش”؟

في 2006 أعلنت العراق إنشاء ما يسمى بـ”دولة العراق الإسلامية” سقطت في 2007 وخسرت عاصمتها، “داعش” الآن تتقدم في مناطق وتتأخر في مناطق أخرى، حدثت اختلافات وانشقاقات داخلها، بعض منظريها ينشط وبعضهم اختفى وبعضهم في أزمة.

كما أن جاذبية “داعش” هي أن كثيرا من الجهاديين يعتقدون بأنه إذا وجدت دولة في الإسلام أو دار الإسلام عليهم أن يهاجروا إليها وينصروها وأن ما خلا هذه الدار هي ديار كفر، طالما لا تطبق الشريعة وتعلن أنها خلافة، لكن الصراع الجهادي وإن انتصرت فيه “داعش” مؤقتا هو في النهاية كصراع الخوارج مع الخوارج، هناك فرق أن الخوارج استمرت مائتي عام تقاتل بعضها ولم يبق في النهاية إلا أكثرها اعتدالا وهي الإباضية.

كثير من السلفيين الجهاديين ربما “القاعدة” الآن تستعيد الخطاب السلفي الذي كان ينتقدها، “القاعدة” الآن تنتقد “داعش” على التوسع في العمليات الانتحارية التي هي أول من دعت إليها، “القاعدة” الآن تقول ارحموا مخالفيكم أيها الدواعش وهي لم ترحم مخالفيها، هو غلو يأكل بعضه بعضا.

كذلك ثمة مشكل بنيوي في “داعش”، في النهاية فكرة الخلافة هي فكرة تقف عند شخص وقيادة محددة ودائرة تنظيمية محددة. مع الوقت إذا ضاع هذا الشخص وتلاشت هذه الدائرة أو تفرقت تختفي هذه البنية، لذلك استهداف القيادة المركزية لـ”داعش” قد يقضى على التنظيم قريبا أو بعيدا، كما حدث مع “القاعدة” ذاتها. فبعد استهداف بن لادن، وكأن الظواهري الآن ليس موجودا، يقول عنه الدواعش “الرجل الذي فقد ظله” ويتهمونه بالكذب وبما لم يكن متهما به من مخالفيه ومعارضيه.

لا يمكن أن نقول إنها ستستمر، لأن “القاعدة” هي أن العنف المؤبد قصير العمر، أول فرق الخوارج التي سقطت كانت الأزرقية أكثرهم عنفا، وبعدها النجدات، وهكذا كلما كانت الحركة الجهادية أو السياسية أو حركة ما تدمن على عنف أبدي واسع ضد أعداء كثر كلما كان عمرها قصير، هذا قانون التاريخ.

وماذا عن إيران في المنطقة حاليا؟

إيران دولة النظام الديني الجهادي الذي يلعب بالطائفة ويوظفها والذي يتدخل بقوة في عدد من المناطق وينتصر لطائفته، إيران هي جزء كبير من أزمة العرب ما بعد الثورات العربية، إيران تمول جهاديات في العراق ولبنان، إيران لديها ما لا يقل عن ربع مليون مقاتل في سوريا كما تقول وكالات أنبائها، إيران مات منها من الحرس الثوري الإيراني ما لا يقل عن ألف، باعتقاد بأن من مات في سوريا مات شهيدا، منهم قادة لواءات وأسلحة، إيران تقوم بدور يدعم “داعش”، لأن “داعش” تتقد وتشتعل من آتون الطائفية. “داعش” في بعدها السلفي العقدي ثم الجهادي لا تتقد إلا من الطائفية.

حتى خارج المنطقة العربية؟

حتى خارج المنطقة العربية، وكما تقول إيران إن السنة أتباع أمريكا وإسرائيل، هم يرون أن المشروع الإيراني الصفوي، كما يقولون هم، هو أيضا يتبع لأمريكا وإسرائيل وأنه يعارض الجهاد والإسلام الصحيح، كلما حضرت إيران جهاديا كلما انتعشت “داعش” جهاديا، وكلما وظفت إيران الطائفة كلما نجحت “القاعدة” و”داعش” في استثمار الطائفة وإيجاد حواضن سنية لها، هذه هي المعادلة. وقد كتبت مؤخرا في جريدة الشرق الأوسط مقالا مطولا كان بعنوان “إيران كيف قتلت الربيع العربي وأحيت داعش”.

في المنطقة المغاربية هناك حديث حول نشر التشيع من طرف إيران، في نظرك ما هي غاية إيران في نشر التشيع؟

إيران ترى نفسها، كما ترى كل الجماعات الجهادية السنية، أنها تمثل الإسلام الصحيح، وأنها تدافع عن الدولة الإسلامية، والولي الفقيه هو خليفة العالم ويؤمن بالبيعة، الولي الفقيه في الانتخابات الإيرانية الأخيرة يقول لا تصوتوا إلا لمن بايعنا وبايع ثورتنا، كما أن لدى الجهاديين بيعة، في مقابل ذلك لدى الولي الفقيه بيعة وهو الذي يحكم فعليا في إيران وليس رئيس الجمهورية. فالولي الفقيه هو الذي يعفو عن المساجين، هو الذي يأمر بالإعدام، هو الذي يقتل شاعرا بمجرد أنه انتقد النظام، هو الذي يحبس قادة الحركة الخضراء التي ظهرت في 2009 … فنحن أمام هوية جهادية لنظام سياسي.

والمفارقات الغريبة هو أنهم يحتفون بسيد قطب كما أن المرشد علي خامنائي قد ترجم الكثير من كتابات سيد قطب؟

ترجم لإقبال أيضا، فالثورة الإيرانية في بدايتها، ولفترة طويلة، تواصلت مع حركات الإسلام السياسي، ويقال إن الإخوان المسلمين هم من نصحوا الخميني بأن يلقب نفسه بـ”المرشد” كما يلقبون رئيس جماعتهم بالمرشد، وكان هناك ضابط إيراني معين في علاقة مع الإخوان المسلمين، لكن منذ الثمانينات- ومع مرور الوقت- استعاضت إيران عن حركات الإسلام السياسي السني والجهادي- مثل حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين مثلا التي مازالت تتمتع بعلاقات وطيدة مع إيران التي تدعمها – بحركات تابعة لها مباشرة من أبناء الطائفة الشيعية، فنجد حزب الله في لبنان المؤسس سنة 1982، والذي يقول في ميثاقه ووثيقته التأسيسية إنه جزء من إيران وليس جزءا من لبنان، وإنه يتبع الولي الفقيه في إيران والولي الفقيه هو الذي يعين هيئة مكتبه في لبنان، وهناك حزب الله في الحجاز الذي أسس سنة 1987 وهم أعلنوا في يناير 2015 عن تأسيس حزب الله في سوريا، وأيضا من بين التشيع السياسي يدعمون الطوائف القريبة من المنهج ألإمامي في محاولة لإيجاد أولياء يحكمون دولا، وكما وجدت “القاعدة” في سياقات ما بعد الثورة فرصا لتنشئ دولة، وجدت إيران في سياقات ما بعد الثورة فرصا لتصنع دولا تابعة لها.

بمعنى دكتور أن إيران هي الوجه الآخر لـ”داعش”؟

إيران هي الوجه الآخر للتطرف الجهادي السني “قاعدة” أو “داعش”، ولكن هذا لا يمنع من أنها يمكن أن تهادنهم أحيانا، وهي هادنت “القاعدة” لفترة طويلة. بعد أحداث 11 من سبتمبر، هاجرت عناصر “القاعدة” إلى إيران. حسب كلام الظواهري نفسه، كان ما لا يقل عن 100 من قادة القاعدة وأسرهم يقيمون في إيران، كان هناك ثلاثة عشر فردا من أسرة بن لادن ملاذهم إيران، الزرقاوي، أبو “داعش” ومؤسس “القاعدة” في العراق، أقام في إيران عاما، كما ظلت إيران استثناء من عمليات “القاعدة” طيلة ما يزيد عن عقد ونصف، بينما كان العالم العربي والإسلامي كله يعاني من ويلاتها.

بمعنى أن إيران حاليا في حاجة إلى “داعش” لكي تتمدد و”داعش” في حاجة إلى إيران لكي يتمكن؟

هي علاقة سواء قصدية أو طردية، مباشرة أو غير مباشرة، لكنها كانت مباشرة مع “القاعدة”، لكنها قاعدة صحيحة.

هناك بعض الشيعة العرب ضد إيران في العراق، مقتدى الصدر في لبنان، حسين عبد الله رحمه الله، محمد شمس الدين، والعالم هاني فحص، الآن الإمام محمد علي الحسني، وموجودة لديهم مؤسسة، ولكن خطاب بعض الفضائيات الخارجية على وجه التحديد يهاجم الشيعة ويجعلها في بوثقة واحدة، ألا يشجع هذا الخطاب الإعلامي على وجه التحديد في بيع هؤلاء الشيعة العرب المؤمنين بقوميتهم العربية وبحضنهم العربي إلى إيران بالمجان؟

أنت تتكلم عن التشيع العربي وأنا كتبت عن ذلك كثيرا، فالتشيع العلوي غير التشيع الصفوي أو التشيع غير التابع للولي الفقيه وهو أيضا موجود في إيران والعالم العربي وله أصوات كثيرة، علي شريعتي كان يدعو غلى التشيع العلوي وضد التشيع الصفوي، علي الوردي العراقي كان يدعو إلى اللتشيع العلوي ضد التشيع الصفوي، أصوات كالذين ذكرت، منهم من رحمهم الله ومن هم أحياء، الشيعة العرب موجودون وهناك أصوات ربما مشهورة وعلماء ومجتهدون، وفي العراق موجودون من السابقين ومن المعاصرين..

كثير من إعلامنا والإعلام الغربي كذلك، هو تسطيحي في جزء كبير منه، لا يستطيع أن يميز بين تشيع وتشيع، كما لا يميز بين تسنن وتسنن، فكر الاختلاف يحتاجه الإعلام العربي المعاصر والفكر العربي المعاصر، ذلك أن إدارة الاختلاف وفن الاختلاف لابد أن تمكن له حكومات وتمكن له سياستنا الثقافية، التشيع العربي أو التشيع العربي العلوي الخاص والصافي من شوائب وبدع الصفوية التكارهية التي تسب الصحابة وتسفه السنة والتي تقاتل وتجاهد ضد مخالفيها كان يستحق الرعاية منا جميعا ومن إعلامنا ويستحق إبرازا وإفهاما، ولأنه مضاد لنظرية الولي الفقيه لأن نظرية الولي الفقيه أول من بدأها والتزمها هو الخميني نفسه، بعد أن أرهص بها النائيني والشيرازي المعاصر له، لكن نراه كذلك تأثر ببعض أطروحات الإسلام السني وهذا ليس تفصيل، ففكرة الحكومة والأمير والمرشد تجاوز الغيبة نحو الإمام الحي حتى يأتي المهدي ودولة العلماء عند الجويني في الغياثي “غياث الأمم والتياث الظلم”، لكن الخميني أول من صكها في كتابه “الحكومة الإسلامية”، لكن اختلف معها كثير من أعلام الشيعة ومراجعها، مثل السيد محمد باقر الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد فضل الله، ويختلف معها في إيران نفسها خليفته الذي طرده آية الله منتظري… وهكذا دواليك.

فنحن لسنا في صراع قومي، ينبغي أن نسعى إلى صراع تصحيحي، الأمريكان يدعوننا إلى الإسلام المعتدل وإلى التمكين للإسلام المعتدل، ألا ندعو إخواننا إلى التشيع المعتدل وندعو إخواننا إلى التسنن المعتدل. هذه الاستراتيجيات الغائبة عن العقل العربي المعاصر، ربما باستثناء ما صرح به كل من الوردي وشريعتي وآخرون

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي