شارك المقال
  • تم النسخ

محاكمة البشير وصفقة القرن ومعارك التكالب الرابع

في عام 1899 نشرت “التايمز” اللندنية قصيدة للشاعر روديارد كبلنج تروج لنظرية “عبء الرجل الأبيض”، وهي النظرية التي وضعت الأساس الأخلاقي للاستعمار. ولا يخفي أن الصورة المزدوجة التي وضعها شاعر العنصرية “كبلنج” لأفريقيا باعتبارها “نصف “شيطان” و”نصف طفل” هي التي شكلت الوعي الغربي بأفريقيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، فهي قد دفعت الأوربيين إلى الاهتمام بالبعثات التبشيرية لتصلح من أحوال هذه الشعوب الهمجية باعتبارها “نصف شيطان”، ومن ناحية أخرى دشنت لمفهوم “الأبوية السياسية” الذي حملته أوروبا ، ولاتزال،  مدعية الوظيفة الحضارية باعتبار أن الشعوب الأفريقية ما هي إلا “نصف طفل”.

ويبدو أن أزمة الأفارقة مع المحكمة الجنائية الدولية تُعيد إلى الأذهان هذا الميراث الفكري الذي يقوم على المركزية الأوربية وعبء الرجل الأبيض، وكذلك فكر الحداثة الذي يحمل أيضاً مفهوم القيادة الأوروبية والمسئولية عن تغيير وتطوير الشعوب المتخلفة في آسيا وأفريقيا.  وعلى الرغم من قرار السلطات السودانية المفاجئ بإمكانية تسليم الرئيس المخلوع عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية فإن علينا توخي الحذر حيث إنه قد يدفع بالبلاد إلى طريق لا تعرف عواقبه.

 ربما يكون يوم تسليم البشير سعيدا لمعظم أعضاء الحرية والتغيير الذين أطاحوا به وكذلك بالنسبة لكثير من التنظيمات والجماعات الحقوقية داخل السودان وخارجه، ناهيك عن الجماعات والحركات المسلحة في دارفور، ولكن – مع هذا- ثمة أمور أخري ينبغي أخذها بعين الاعتبار. ينبغي وضع هذه القضية في إطار الصورة العامة الكلية. إنها من جهة أولى تأتي في سياق حركة دبلوماسية سودانية نشطة للتطبيع مع الغرب والتخلص من صفة الدولة العاصية في النظام الدولي . ومن جهة ثانية طبيعة التحالف الهش بين المدنيين وجنرالات الجيش الذي يميز المرحلة الانتقالية في السودان حيث يرفض كثير من جنرالات الجيش وكذلك قوات الدعم السريع استدعاء الجنائية الدولية في قضية البشير. ومن جهة ثالثة يصبح السؤال مشروعا عن مدى استعداد المحكمة الجنائية الدولية نفسها لمحاكمة البشير في ضوء اخفاقاتها السابقة.

البشير والعدالة الانتقالية في السودان

في أعقاب الإطاحة بالبشير في أبريل 2019 تم القاء القبض عليه وايداعه في سجن كوبر الحصين ليثبت صحة القول المأثور كما تدين تُدان. فقد أرسل البشير طوال سنوات حكمه الثلاثين العديد من خصومه السياسيين شبابا وكهولا إلى هذا السجن سيء السمعة الذي يرتبط في المخيال السوداني العام بزمن الاحتلال البغيض. يقضي البشير بالفعل عقوبة السجن لمدة عامين في جريمة تتعلق بالفساد، كما أنه يخضع للتحقيق بتهمة الانقلاب على حكومة ديموقراطية عام 1989.وعلى الرغم من تضارب التصريحات فإن  تسليم البشير أو استمرار محاكمته داخل السودان مع إمكانية تدخل الجنائية الدولية بشكل أو بآخر لايزال أمرا غير واضح . لقد اكد الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي أنه لا أحد فوق القانون وأن السودان سوف يتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.

أوكامبو  وتسييس قضية البشير

ما أكتبه هنا ليس دفاعا عن البشير وإنما هو رصد لموقف المدعي السابق للجنائية الدولية الأرجنتيني مورينو أوكامبو . في مارس 2005 صوت مجلس الأمن الدولي بإحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية (القرار 1593). سرعان ما بدأ مكتب المدعي العام التحقيق وجمع المعلومات. ومن الأمور التي تثير الدهشة والاستغراب أن السيد أوكامبو لم يقم بزيارة السودان مرة واحدة، وهو ما يشكك في صدقية ما جمعه من معلومات. بعد عامين من الاستقصاء أصدرت المحكمة أمر اعتقال لكل من قائد ميليشيا الجنجويد على كوشيب والوزير أحمد هارون. رفض البشير أمر المحكمة وأكد على أنه لن يسلم مواطنا سودانيا أبدا لمحكمة أجنبية.

على أن السيد اوكامبو أراد صيدا ثمينا في يوليو 2008 عندما أعلن أنه يسعى لإصدار مذكرة اعتقال ضد البشير نفسه استنادا إلى تهم عشر تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي. بعد ذلك بعدة أشهر أصدرت المحمة بالفعل أمر اعتقال بحق الرئيس عمر البشير ولكنها أسقطت تهمة التطهير العرقي لعدم كفاية الأدلة. استأنف المدعي العام ضد الحكم وهو ما أدي إلى تغيير الحكم لصالحه. وربما يجعل هذا الأمر موقف المحكمة صعبا في حالة تسليم البشير ومحاكمته في لاهاي لأن الدفع باتهامات تتعلق بالتطهير العرقي تحتاج إلى أدلة قد يصعب التوصل إليها في ظل وجود بعض رفاق البشير في مؤسسات الحكم الانتقالية. وهنا هاج البشير وماج ، وعلى أنغام رقصاته بالعصا سخر من أمر المحمة وقال بالعامية السودانية ” تبله وتشرب ميته” . عبر البشير عن غضبه بطرد 13 من منظمات الإغاثة الأجنبية العاملة في دارفور ورفض تماما أي مبادرة بالتنحي خوفا من الغدر به من قبل من يأتي بعده . كان البشير يعتقد أنه بمأمن من سيف العدالة الدولية طالما أنه يقبض على كرسي الرئاسة بقصر الشعب على ضفاف النيل.

عوامل الشد والجذب في مسألة تسليم البشير:

ولعل ذلك يدفعنا إلى مناقشة عوامل الشد والجذب التي ينبغي النظر إليها جيدا عند مناقشة مسالة تسليم البشير للجنائية الدولية وذلك على النحو التالي:

أولا نظرية الدومينو

إذ يؤدي تسليم البشير إلى إمكانية سقوط جنرالات وقادة آخرين لا يزالون مؤثرين في العملية الانتقالية بالسودان. ليس خافيا أن عددا كبيرا من قادة الجيش الحاليين قد شاركوا في الحملات العسكرية على دارفور والتي شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. صحيح أن الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) وهو نائب رئيس مجلس السيادة الحالي وقائد قوات الانتشار السريع ذات البأس الشديد لم يرد اسمه في التحقيقات لكنه كان قائدا للجنجويد في ذروة الصراع العنيف الذي شهده إقليم دارفور. ومن جهة أخرى يتهم الثوار الذين أسقطوا البشير قوات الدعم السريع بمهاجمة اعتصام القيادة العامة في الخرطوم ‏ بعد أسابيع معدودة من عزل البشير والذي أدي إلى مقتل 87 شخصا. وعليه يصبح السؤال الملح من يصبح عليه الدور من رفاق البشير وأتباعه وهو ما يجعل قرار التسليم بالغ التعقيد ولا يخلو من المناورات السياسية بين فرقاء الحكم الانتقالي في السودان.

ثانيا: عملية سلام دارفور

لا شك أن أحد المطالب الرئيسية للحركات المسلحة وتنظيمات المجتمع المدني في دارفور تتمثل في تسليم البشير وغيره من المطلوبين لمحاكمتهم في الجنائية الدولية. وعليه يعد تلبية هذا الشرط خطوة مهمة في طريق تحقيق السلام في دارفور وغيرها من المناطق الملتهبة.

ثالثا: كسب ود المنظمات الحقوقية الدولية خارج السودان

لقد وقفت المنظمات المعادية لنظام البشير بالإضافة إلى كثير من الناشطين داخل الولايات المتحدة مثل المخرج الشهير جورج كلوني في صف الثورة السودانية. وعليه فإن تسليم البشير سوف يسهم في تبييض وجه السودان وكسب ود هذه الجماعات المؤثرة ولاسيما في كل من الولايات المتحدة والدول الغربية.

رابعا رفع العقوبات الأمريكية عن السودان

ترجع البدايات إلى التسعينات حينما استضاف نظام البشير زعيم القاعدة أسامة بن لادن وخلايا القاعدة التي تورطت في الهجوم المتزامن على السفارتين الأمريكيتين في كل من نيروبي ودار السلام عام 1998. كما تتهم الولايات المتحدة نظام الإنقاذ بضلوعه في مقتل 17 بحارا في الهجوم على البارجة كول في أحد موانئ العام عام 2000. وقد وافقت حكومة حمدوك مؤخرا على دفع تعويضات لأسر الضحايا الأمريكيين. ولا شك أن تسوية هذا الملف تعني تخفيف الديون وعودة الاستثمارات الأجنبية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي في ظل نظام كمبرادوري عالمي تتحكم فيه الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة ومؤسسات برايتون وودز (البك الدولي وصندوق النقد الدولي).

خامسا: مدى استعداد المحكمة الجنائية الدولية للمحاكمة

 لقد تغيرت الظروف منذ توجيه أمر الاعتقال للبشير. كانت اتهامات أوكامبو الذي لم يجمع دليلا واحدا من داخل السودان تتسم بالمبالغة والتسييس حيث وصف البشير بالديكتاتور وأنه مارس تطهيرا عرقيا أقرب إلى معسكرات وارسو النازية وروايات الهولوكوست. لقد أسقطت المحكمة التهم عن اهوروا كينياتا وبرأت لوران جباجبو فهل هي مستعدة حقا لمحاكمة البشير في لاهاي والمخاطرة بفقدان سمعتها مرة أخرى أم يكون من الأجدر محاكمته داخليا ويتم التضحية به في ظل مواءمات سياسية تحافظ على وحدة السودان واستقراره؟

تلك هي المسألة في إطار الصورة الكبرى بمعظم تفاصيلها والتي يأتي في قلبها كذلك لقاء عنتيبي بين البرهان ونتينياهو والاتفاق على تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية، وهو ما قد يرتبط ولو بشكل مباشر بصفقة القرن التي اعلنها الرئيس دونالد ترامب من جانب واحد. فهل يكون السودان الجديد المطبع مع إسرائيل هو ركيزة الهجوم الأمريكي الناعم على منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا لبناء تحالفات جديدة وإعادة صياغة المشهد الجيوستراتيجي للمنطقة؟ وهل يكون الصومال هو الهدف الثاني لهذا الهجوم الناعم لينعم بأمنه واستقراره مرة أخرى؟ ربما مهد لذلك القرار الأمريكي بإعادة افتتاح السفارة الأمريكية في مقديشيو وبداية عملية التنقيب عن النفط قبالة السواحل الصومالية؟ إنها لعبة الأمم والصراع على الموارد في معارك التكالب الرابع على أفريقيا ، وهو ما يعني أن قضية البشير ماهي إلا جزء صغير من الصورة العامة.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد، الإمارات العربية المتحدة

**المقال يُنشر على “بناصا” باتفاق مع الكاتب الدكتور حمدي عبد الرحمن

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي