شارك المقال
  • تم النسخ

فلسفة التدين وأبعادها السيكولوجية

شغل الجانب النفسي حيزاً كبيراً من عناية الإنسان واهتمامه، سيما أنه مكون رئيس يقف إلى جانب جسده وروحه، وبذلك فقد مثلت هذه الركائز حاجة دائمة وتوق إنساني لإشباعها دون خلل أو تقصير.

وفي التركيز على الجانب النفسي، نجد أنه لطالما ارتبطت التوجيهات ذات الطابع الديني في قائمة النصح والسعي لحل مشكلة نفسية يمر بها شخص قريب أو عزيز، وذلك لإيمان نابع بضرورة الحس الديني، واستشعاراً بالوظيفة التي يحققها من بناء سد منيع أمام تقافزات الحياة وتعثراتها وتعرجاتها البعيدة كل البعد عن الاستقرار والسكينة، ومع أن إرجاع كافة الأعراض النفسية للتابع الديني، ومحاولة قياس إيمانه تعتبر أمراً مغلوطاً في الكثير من الأحيان التي يتطلب فيها الإنسان حاجة حقيقية لرعاية نفسية وسلوكية، إلا أن ذلك حاز نسبة واضحة من الاهتمام عن طبيعة تلك العلاقة بين الطمأنينة السيكولوجية، والاستقرار الإيماني.

ويعتبر التدين، مصطلح عميق الصلة بالدين، الذي مفاده وجود الطاعة والاستسلام، وفي المدلول الاصطلاحي، يدل التدين على التمسك بعقيدة ما والالتزام بفحواها واحترام ما جاء بها على صعيد القول والعمل، وقد ارتبط بهذا المدلول الكثير من الأحكام اللصيقة بالفرد التي صحت و خابت في أيما موضع لسنا بصدد الحديث عنها، ولكنها لم تنفك تدلي بسمو الاستقرار النفسي لدى الإنسان مما يعني ارتباط مكونات الإنسان السابقة الذكر وتأثرها ببعضها البعض الأمر الذي وعاه وأدرك حتميته الفلاسفة أمثال أوغست كونت الذي بدأ فيلسوفاً وضعياً، ثم انتهى بالدعوة لدين “الإنسانية”، وبغض النظر عن التحفظات المختلفة على فهم المجتمع المغاير لمعنى الدين والتدين، إلا أن الحاجة والميول الفطري وجدت ملامحه بجلاء بالغ، ومن ذلك سارت الماركسية على ذات الخطى في إيجاد سلطة عليا لا بد من اعتبارها تابعاً يتبع، ولو أنها توقفت على “الدولة”، أو الطبقة العاملة، كمصدر قطعي غير قابل للنقاش والمساومة، وبالتالي وجدت عناصر تدين بفلسفة مغايرة ذات صلة مع استقرار الإنسان[1].

إن الحس الديني يعكس حاجة الإنسان للخضوع، تماماً كحاجته الكبرى للحرية والشعور بكرامته الإنسانية، ففي حين تمثل حقوقه ميزاناً للتعامل بينه وبين بني جلدته، إلا أنه في طواعيته لما هو أكبر منه في القوة والقدرة والعلم يعتبر أحد مؤسسات كمال كينونته وضمانه الوجودي بشكل سليم.

وفي ذات السياق نجد تعليلاً واضحاً للغوص الإنساني في عالم الأساطير وإصغائه المذعن للخرافات، وبخاصة، في طور محاولاته ونضاله الكادح لملئ الفراغ العقدي الذي لا يمكن للنفس البشرية احتماله، بل أن هناك من الحضارات -كالإغريق- من فسرت البناء العقلي على قسم منطقي، وآخر اسطوري حتمي، وهو ما توازيه الأديان السماوية ب”الإيمان” الذي يسمو ويرتقي بالوجدان الإنسان لمساحات بعيدة كل البعد عن ترهات الخرافة، وأهوال الأساطير المزورة.

ولا يمكن إطلاق الأمر هكذا، فلعلاقة الإنسان مع روابط التدين محددات تلعب دوراً هاماً في تثبيت الصحة النفسية، و”الأمان السيكولوجي”، أو العكس تماماً، إذ لا يمكن بناء علاقة التدين على صورة من العقاب والتهديد المجرد، واستشراف “تدين آمن”، وهذا ما صرح به (كينيث بارجامنت)، أستاذ علم النفس وخبير الشؤون الدينية والصحية حين قال بأن : “يبدو أن الأفراد يتمتعون بمزايا ملحوظة عند اتباعهم نهجًا مُحبًّا وطيبًا في تصور الإله، بالتوازي مع شعورهم بدعمه لهم، لكننا ندرك وجود جانب أكثر ظلامًا للروحانية. إن تصوّرك لله بوصفه عقابًا أو تهديدًا أو كيانًا لا يُعوَّل عليه، هو أمر لا يعود بالفائدة على صحتك”.

وإن النزوع النفسي للدخول في “علاقة حب” مع الشعور التديني والالتزام المحيط به، والذي ينتمي لإله أو فكرة أو تصور هو ضرورة لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها، وهذه الضرورة لم تتحقق لدى الكثير من ضحايا الانتحار الذين عاشوا فراغ نفسي وروحي لم يجد ما يشبعه، سيما أنه وبالرغم من انتشار المعابد و”تنوع الآلهة”، وحالة من ال “لادينية” الواسعة في القرن التاسع عشر والعشرين، إلا أن الأوروبيين عاشوا حالة من اعتناق الإلحاد لمجرد وجود صلة وقناعة بتلك الحالة مما شكل عندهم أرضية من الاستقرار النفسي -حتى وإن كان مؤقتاً لهشاشة أساساته-، وبالتالي فإن الإنسان كائن متدين بامتياز ومع شهادة التاريخ ومجرياته.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة


[1] محمد البهي،  الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، صفحة رقم: (371)، مكتبة وهبة، 1964.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي