شارك المقال
  • تم النسخ

علاقة النص بالمجتمع.. صحيح البخاري بماء الذهب!

طرح ريجيس دوبري في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في كتابه «الوسائطيات» سؤالا مركزيا يصوغه على النحو التالي: كيف تتحول بعض الإنتاجات الفكرية (الدين، التيارات) داخل المجتمع؟ وكيف تتاح لبعض الأفكار أن تصبح قوة مادية؟ وكيف تؤثر في صيرورة المجتمع وتسهم في تغيير السياسة والاقتصاد والتاريخ؟ تبرز الوساطة في العلاقة بين الفكرة والوسيط الفضائي الذي تخلقه لهيمنة تلك الفكرة وانتقالها عبر العصور.

مع الإسلام برز النص القرآني والحديث النبوي، وكان المسجد الفضاء الذي أدى إلى جعل الدين يخلق مسارا جديدا في تطور المجتمع العربي، وخلق سيرورة جديدة لميلاد مجتمع إسلامي. سادت الشفاهة في المسجد، فكانت الذاكرة الـ»مكتبة» باعتبارها الوسيط السائد قبل الانتقال إلى مرحلة الكتابة، وبروز المدينة الإسلامية، فكانت الكتب الوسيط الأساس الذي ساهم في التحولات الاجتماعية، وترسيخ متخيل ثقافي جديد.

اهتم المسلمون بالكتاب المؤسس على ما ورد في الكتاب القرآني والنبوي، اهتماما بالغا، فكان أساس الحضارة الإسلامية، شجع الخلفاء والأمراء على التأليف، والتصنيف، ودفعوا الأموال الطائلة فتنوعت تقنيات صناعة الكتاب، وتفنن النساخ في خطوطها وتزيينها وتصميمها. وُزِن سعر الكتاب وقدم مقابله الذهب، وبرزت الكتب المذهبة التي يتوازى فيها مضمون ما تقدمه مع جمالية طرق تقديمه، وضربت لجمع الكتب أكباد الإبل من مختلف الأصقاع، فكان الكتاب دليل حضارة راقية. إذا كان الاهتمام بالكتاب يحدث عادة في فترات سيادة الأمن والازدهار الاقتصادي، فإن ما وقع الفترات المقابلة لم يمنع من استمرار ذلك الاهتمام، رغم قساوة الظروف غير المناسبة.

قبل أربعة قرون، والمغرب منعزل عن العالم الخارجي، ويعاني من الاضطرابات الداخلية، لعبت البادية دورا كبيرا في الحفاظ على الثقافة الإسلامية. فكانت الزوايا تربط العلم بالعمل، فساهمت من جهة في مواجهة العدو الخارجي، وفي الوقت نفسه بذلت مجهودا كبيرا في استمرار النص أساس الحضارة، وتم ذلك بمعزل عن الدولة، فقامت بربط الحاضر بالماضي. وكانت الزاوية الناصرية نموذجا حيا لذلك، لقد كتب الكثير عن الزوايا المغربية، ولعل طرح أسئلة الوسائطيات يمكننا من فهم جديد للأسباب التي أدت إلى اضطلاع الوساطة بأدوار تاريخية ما تزال ماثلة إلى الآن. سأتوقف على بضعة أمثلة تبرز ذلك.

أتيحت لي فرصة زيارة الزاوية الناصرية بتمكَروت في يوم عاشوراء، فكنت أسمع من أفواه الناس ليلة العاشر من محرم، يقولون بأنهم سيذهبون إلى «البخاري» وأن رواد الزاوية سيختمون قراءة صحيح البخاري في هذا اليوم، والذي شرعوا في قراءته منذ بداية محرم. وفي المكتبة الزاوية اطلعت على نسخة في أقصى درجات الجمال، كتبت فيها كلمة «الله» بماء الذهب. فتساءلت ما السبب الذي جعل صحيح البخاري يحظى بهذه المكانة؟ ولماذا جعل السلطان مولاي إسماعيل عبيده يقسمون على هذا الكتاب؟ ولماذا يعمل رواد الزاوية الناصرية على ختمه في العاشر من محرم؟ كيف يلتقي رجال الزاوية مع السلطان الذي لم يكن بن ناصر الدرعي مطور الزاوية يدعو له في صلاة الجمعة في تعظيم هذا الكتاب؟ عاشوراء لها خصوصيتها في التاريخ المغربي، وكل بيئة ثقافية تحتفل بها بطريقة مختلفة. أسئلة لا يطرحها أصحاب نهاية الأساطير؟ تولى سيدي محمد بن ناصر الدرعي تطوير الزاوية الناصرية بتمكَروت سنة 1642، وحرص على جمع الكتب.

تضم المكتبة الآن 4 آلاف مخطوط من بينها بعض مؤلفاته، «هوامش على صحيحي البخاري ومسلم». وكان من بين طلابه أبو الحسن اليوسي صاحب الرسالة الشهيرة إلى المولى إسماعيل. ألف محمد بن ناصر شعرا دعاء معروفا بالدعاء الناصري. كنا في الكُتاب، نتلوه بعد صلاة المغرب، بعد قراءة الحزب. وهذا الدعاء يتلى في مجالس العزاء إلى اليوم. فما الذي جعل هذا الدعاء يحظى بهذه المكانة في الثقافة المغربية، ويتفنن المنشدون في أدائه؟ دعاء الناصرية لا يدرسه من يريدون إعادة «قراءة» التاريخ المغربي، إذ يكفيهم سب الفاتحين والقدح في كل الذين ساهموا في تحويل المغرب إلى فضاء له امتداد لحضارة إنسانية. إلى جانب الدعاء الناصري يمكنني الإشارة إلى كتاب «دلائل الخيرات» للإمام محمد بن سليمان الجزولي 1465، صنف هذا الكتاب على سبعة أقسام على غرار أيام الأسبوع ليتلى كل قسم منه في يوم. عرف هذا الكتاب انتشارا منقطع النظير. وأنا الذي لا أملك أي مخطوط مغربي لديّ منه نسختان إحداهما مذهبة والأخرى عادية، كان هذا الكتاب يعتبر «ذخيرة» تحمل في السفر والحضر. وإلى الآن ما يزال يطبع طبعات مختلفة.

لماذا تستمر الزاوية الناصرية في الوجود والوجدان، وإن تغيرت ملامحها الجوهرية؟ لعبت الزاوية دورا مهما في نشر العلم وفي الجهاد، فكانت بذلك الفضاء الوسيط الذي ساهم في استمرار ثقافة ومتخيل خاص في المغرب، وهي لا تختلف عن المدرسة «الحرة» التي أسسها الوطنيون لمواجهة الاستعمار. تاريخ المغرب ليس فقط تاريخ الدول. إن التاريخ المهمل الذي لم يُبحث هو تاريخ الثقافة والاجتماع، ولا يستطيع المتأولون قراءته ولا فهمه لعجزهم عن فهم العلاقة بين النص والمجتمع.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي