شارك المقال
  • تم النسخ

خواطر حول ما قبل التقاعد والموت

كثيرة هي اللحظات الأخيرة وأسئلتها المؤلمة في حياة الإنسان عامة، وفي حياة الموظف خاصة، لكنني أجد أن من أهم هذه اللحظات، لحظتين فارقتين هما لحظة حصول الموظف على تقاعده، ولحظة ملازمته لفراش الموت؛ فما الذي يميز هاتين اللحظتين؟ وما الذي قد يذهب تفكير الموظف إليه وهو في خضمهما؟

إن اقتراب لحظة تقاعد الموظف تعتبر من أهم لحظات مسيرته الحياتية، وجل من أعرفهم بدأوا الكلام عن تلك اللحظة المفصلية قبل حدوثها بسنين. ففي لقائك بأحدهم سيخبرك عن الموعد المضبوط لتقاعده، ولن يخطئه مطلقا! سيخبرك عما سيتركون له من مرتب، كما سيخبرك عن أحاسيس متعلقة بتلك اللحظة وما بعدها، وهناك من سيخبرك حتى عما قدمه طيلة مسيرته المهنية، وبكثير من التفصيل، حيث إن ما ستسمعه قد يكون حقيقيا، كله أو بعضه، كما قد يكون متخيلا إرضاء لإيغو مريض… لكن ما يهمنا ها هنا هو ما يحسه الإنسان القريب من تقاعده وهو في خلوته… نعم في خلوته، ومع ذاته، ومع ذاته وحدها حتى يكون كلامه صادقا!

إن إسقاط ما يقع خلال لحظات يعيشها الإنسان عموما على هذه اللحظات التي تسبق تقاعد الموظف يمكِّنُنا من تخيل ما يقع لك في خلوتك كموظف اقترب من تقاعده… ففي اللحظات التي تسبق حصولك على تقاعدك، ستسترجع شريط مهامك كموظف، بل وكإنسان لازم مسؤوليةً لردح طويل من الزمن… ستفرح كثيرا إذا كنت قد أديت واجباتك بكل صدق وإخلاص… ستفرح كثيرا إذا وجدت في ذاك الشريط أنك كنت شهما، رفيع النفس، ولم ترض يوما بذل ولا بمهانة… ستفرح كثيرا إذا وجدت في ذاك الشريط أنك كنت رقما ذا قيمة فاصلة، ولم تكن مجرد أداة تلاعبت بها أيدي العابثين… ستفرح كثيرا وأنت ترى ما تركت من أثر، ونقصد ها هنا بالذات ما أنتجت، وما أعطيت، وما خلفت، ولا شيء آخر من البهرجات الأخرى… ستفرح كثيرا إن كنت من نوع «من رأى منكم منكرا فليغيره»، إذ بذلك ستتيقن حتما أنك كنت من فصيلة من «ما يجري في عروقهم دم»، وبالتالي فقد كنت تقف ضد ظلم الظالم، وكنت فاضحا للفاسد، ولم تكن متواطئا أبدا… ولا بد أن لا ننسى أنه كما سيعبِّر غالبا بعض ممن عايشك عن حزنهم لفراقك، سيعبِّر آخرون عن فرحهم لإنهائك مهامك بسلام بذاك المثل الدارج الدال «الحمد لله اللِّي كَمَّلْتِي سَرْبِيسَكْ على خير!»، حيث أسقط – بوعي أو بلا وعي – ما كان يقال للجنود العائدين من ساحات الحرب، والذين كانوا مهددين بتلقي رصاصة طائشة، على موظف مدني؟! نعم يقع هذا الإسقاط الرمزي في بلد أصبح فيه الموظف النزيه المجد مضايقا ومستهدفا… هذا البعض سيتمنى لك صحة متجددة، وراحة، وسعادة فيما تبقى لك من أيام… وسيحاول ألا تخلو مناسبة كهذه من حفل تكريم يليق بك… وانتبه أيها القارئ الكريم، فقد قلت البعض وليس الكل، لأنك غالبا واجدٌ معك من الموظفين من هم من فصيلة «النفس الأمارة بالسوء»، وبما أنك كنت صوتا مزعجا لهم، ولم تتركهم يهمزون همزاتهم الرخيصة في راحة وطمأنينة، فهم الآن فرحون بمغادرتك، ولو لا بقية من الحياء لأقامت الثعالب حفلا من شدة فرحها بتقاعد الأسد!

وأما إن كنت أيها الموظف المقبل على التقاعد من غير ما سبق، فلتتأكد أنك في خلواتك ستتألم كثيرا… ولتتأكد أنك سترى نفسك حشرة! نعم سترى نفسك حشرة مقززة… وقد يذهب ضميرك الشقي بعيدا حتى يضعك في مصاف من نزل في حقهم قول الله تعالى: «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون» (النمل، الآية 48)…حيث وفي تلك اللحظات الشقية السابقة لتقاعدك سيستفيق ذاك الضمير الشقي… وسيعنفك… نعم سيعنفك بشدة، مخاطبا إياك بلسان دارج لا يرحم، قائلا: «إِتْفُو عْلِيكْ، كم كنت وصوليا… إِتْفُو عْلِيكْ، كم كنت جبانا… إِتْفُو عْلِيكْ، قد كنت غشاشا في كل شيء!!! فكم حصلت على أشياء لم تستحقها يوما، بل ولم تكن لك أصلا… إِتْفُو عْلِيكْ، إِتْفُو عْلِيكْ، لقد كنت إما فاسدا، وإما متواطئا، وإما ساكتا، وفي كل ذلك كنت مستفيدا! فها أنت قد أنهيت مهامك العفنة، وها أنت قد أنهيت مهامك القذرة، وها أنت ذاهب إلى الجحيم لا محالة… فانظر إلى الشرفاء ممن عايشوك وشهدوا على فسادك وهم مبتهجون لارتياحهم من رهطك، بل ومنهم من يردد في خاطره: “بالما والشطابة حتى لقاع البحر”…».

وأما الزميلات والزملاء، فقد يتجاهلونك… أو قد يجاملونك مراعاة لما وصلت إليه من تقدم في السن… وقد يكرمونك حتى!!! لأن المناسبة قد تصادفت عندهم مع تكريم أحدهم من النوع الأول… وبطبيعة الحال سيحرصون – يا لسخرية القدر! – على أن يهدوا إليك تلك اللوحة التي كتبت عليها بشكل جميل تلك الآية الكريمة «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا» الأحزاب، الآية: 23… آملين أن تكون عزاء لهم فيك!!! فهم متيقنون أنك لم تكن مؤمنا، ولا رجلا، ولا صادقا، وأنك بدلت تبديلا… بل أهدوك إياها فقط لكي تعلقها على جدار غرفة المضافة حتى تعذبك دلالاتها، كما عذبتهم لما كنت جاثما بفسادك على صدورهم!!!

وأما لحظات ملازمة الفرد لفراش موته، فستكون أصعب اللحظات وأهمها على الإطلاق… ففراش الموت كفراش النوم… والمستعد للنوم قد تأتيه برهةُ تفكير يتذكر فيها يومه، أو قد يتذكر فيها أهم أيامه مع ما مر فيها من ذكريات أليمة كانت أو سعيدة… وقد تحدث ناجون من الموت أو ما يطلق عليه عند المهتمين من عاشوا تجربة الاقتراب من الموت، حيث تضمنت هذه التجارب عادةً مجموعة متنوعة من الأحاسيس، مثل الشعور بالانفصال عن الجسد، أو بالسلام والطمأنينة والهدوء، وذكريات حيّة للأحداث الماضية، أو لقاءات مع أحبائهم المتوفين أو ما يعرف بـ «الكائنات الروحية». بل أنا على يقين أنك في تلك اللحظات ستتذكر كل شيء… ستتذكر كل من أحببت… ستتذكر كل من صادقت… ستتذكر كل من حاربت… ستتذكر ما قدمت وما أخرت… وإن كنت مؤمنا، فستتذكر حتما الله… لكن، ومهما كنت، فلتكن متأكدا أنه، وفي مثل اللحظات التي يعايشها الموظف وهو يقترب من تقاعده، ففي هذه اللحظات المميزة وأنت على فراش موتك، سيستفيق ذاك الضمير… سيكون حتما لك سندا، ومطمئنا، بل ومشجعا على ما ستقدم عليه إذا كنت قد عشت إنسانا، بما يميزه ذلك من صدق وثبات وحب للخير، وسيؤكد لك أنك ستموت إنسانا، ولا خوف عليك… بل سيذكر لك في تلك اللحظات العصيبة أن كل من أحبك أو صادقك سيحيي ذكراك بكل فخر واعتزاز، بل سيخبرك في تلك اللحظات الفارقة أن كل من سيسمع عنك سيدعو لك…. فلا تحس إلا وأنت تبتسم، راضيا مرضيا…

وأما إن كنت غير ذلك، ففي هذه اللحظات العصيبة، وأنت مستلق على فراش موتك، فإن ضميرك البئيس سيخاطبك، نعم سيخاطبك بكل شدة، وليس كما في اللحظات التي تسبق حصول الموظف على تقاعده… لا، إطلاقا… فالمناسبة شرط كما يقال… ففي هذه اللحظات سينغص عليك كل شيء… سيذكرك بكل تفاهاتك… سيحتقرك… سيجعلك تتمنى لو تكتب لك حياة جديدة لتصحح ما فات… لكن ما كان قد كان…

إن أهمية لحظاتك الأخيرة التي تسبق حصولك كموظف على تقاعدك، أو لحظاتك الأخيرة وأنت مستلق على فراش موتك، تستدعي منك العيش باستقامة ما استطعت، تستدعي منك أن تؤدي وظيفتك بكل شرف، تستدعي منك الإصرار أن تموت فارغا! – والفكرة هنا، عزيزي القارئ، مستلهمة من كتاب لتود هنري الذي نشر كتابا يحمل نفس العنوان «مت فارغا»، حيث شرح في مقدمته أن تعقيبا صادما لمدير أمريكي على إجابات عن سؤال “ما هي أغنى أرض في العالم؟” حين رفض جميع الإجابات المقترحة، وعقَّب بدل ذلك أن أغنى أرض في العالم تبقى هي المقبرة! إن هذا التعقيب الصادم هو ما جعل تود هنري يؤلف كتابه، حيث بذل فيه قصارى جهده لتحفيز البشر على أن يفرغوا ما لديهم من أفكار وطاقات كامنة في مجتمعاتهم وتحويلها إلى شيء ملموس قبل فوات الأوان، وأجمل ما قاله في كتابه: «لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائما أن تموت فارغا».

لقد حاولت من خلال هذه الأسطر أن أتقاسم معك، عزيزي القارئ، خاطرة لي خططتُ أرضيتها ذات ليلة من شتاء 2019، وتقاسمتها آنذاك عبر موقع للتواصل الاجتماعي، لكنني وجدت تلك الأرضية صالحة لكتابة خاطرة موجهة إلي أولا، ثم إلى كل موظف مقبل على التقاعد، قبل أن يقبل على الموت! نعم قبل الموت… قبل الموت، لأن أفضل شيء يمكن أن يقدمه الموظف لنفسه قبل وطنه هو الاستقامة… فاحرص أن تكون مستقيما، واحرص ألا تكون منخرطا! واعلم أن العالم لن يتغير بما نريد خلقه، بل سيتغير بما قمنا بإنجازه، والحياة تبقى قصيرة على أية حال…

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي