شارك المقال
  • تم النسخ

حين يصبح كل ممنوع غير مرغوب !

 يسوق العناد الداخلي في بني البشر للانجذاب بقوة مغناطيس لشذرة من الحديد لكل ما منع عنه، أو وجد حوله ما قد يبعده عن نطاقه، ولأن ذلك يعبر عن حالة لا يمكن العيش معها وجدت القوانين المنظمة لتجعل كل مرغوب لا يخرج عن نطاق المسموح.

قد يرد من ذلك اتجاه يعتمد على الصيغة التشريعية في الحفاظ على المجتمع والبنية النفسية للفرد، فنعمد للتشريع الذي وضعه الإنسان، وهذا ما شكل على فترات طويلة محور اهتمام المفكرين والفلاسفة بين تأرجح جدلية الدين أو الدولة، أو بصورة أخرى التشريع الديني، أم القوانين الوضعية؟ ولا يخفى أن لكل منهما آثار على السلوك الإنساني وأساسه التنشيئي والنفسي والوجداني العميق. فالوضعي من القوانين انتهج مبدأ الفرض الإلزامي، وتشكلت نصوصه حول ذلك في ترتيب هيئة العلاقة بين التشريع والأفراد، وهذا من أجل أن يضمن المشرع وجود إطار تنظيمي يطبق على الجميع بمساواة في القيام بالواجبات، واكتساب الحقوق، وبالتالي فإنها تمثل سلسة مترابطة من التعاون والمشاركة المجتمعية الواسعة، ولكن هذا  يبقى معزولاً عن القيم الأخلاقية المنشودة من التسامح والصدق والأمانة وغيرها، فهو منظم بحسب “معادلة” قانونية مقررة، وأما حال المنظومة القيمية والأخلاقية فيبقى محكوماً بالتحول الاجتماعي وما يستسيغه، وبالتالي فإن الأخلاق في المجتمعات التي تقوم على تشريع قانوني ووضعي مبتور الطرف عن المكنون القيمي في الشرائع تقدم مساحة من الوجود الأخلاقي ولكنها بثوابت ركيكة يمكن اجتثاثها في أي وقت، فهي يتيمة الجذر الذي كان من المفترض أن يدافع عن وجودها بديمومة سلسة.

وهنا نجد ارتباطاً بين الصيرورة القانونية والتشريعية في المجتمعات، وبين الفطرة الإنسانية،  وفي قراءة موازية، فإن الإنسان بطبعه وطبيعته، يميل للخروج عن المألوف والتقافز على كل ما هو معروف، وبالتالي فإن القانون، وإن كان حازماً ورادعاً، إلا أن المشرع لا يمكن حضوره في كل مكان، فحتى لو تمت مراقبة كافة المداخل والمخارج في أي مجتمع، يبقى حاجة لما هو أكثر قرباً في المنزل، وأكثر جدوى في إدخال التراحم والتسامح بين الفرد وجاره أو صديقه، أو مكونات مجتمعه، وتزيد الحاجة لمثل ذلك في النطاق الضيق والأكثر دقة في حياة وتفاصيل الإنسان، وبالتالي فإن هناك منطقة أو فجوة تظل قابعة داخل النفس البشرية ولا يمكن ملئها إلا بما يشبه شقها الروحي من التشريع السماوي الملامس جداً لوجدانه، وبالتالي مؤثر في توجيه سلوكه، وربما هذا ما دفع الفيلسوف الألماني كارل ماركس ليصف الدين بأنه أفيون الشعوب، “Die Religion … ist das Opium des Volkes“، غير أننا لا نتفق مع شرحه لهذه المقولة التي انبعثت من قناعته بقوة الدين في سلب الحرية الإنسانية، وتقييد إرادتهم.

ومن ذلك كله نخلص أولاً إلغاء العلاقة الجدلية، أو حس “الندية” بين كل من الدين والفلسفة، وثانياً، لضرورة فهم الدين بصورته الصحيحة السليمة، وثالثاً لمكانة التمازج الديني مع القانون الوضعي الذي ينتج عنه بالضرورة خطاب تنظيمي وتشريعي شديد القرب من الذات الإنسانية، وتقويم إنساني ينظر للبناء الذاتي للأفراد قبل تقييم سلوكياتهم، وذلك من خلال تقريب النظم القيمية والأخلاقية من المساحة القانونية الجامدة، والتعامل مع تلك القيم كثقافة لازم نشرها وتعميمها تماماً كما نتربى ونترعرع على حب الأوطان والإخلاص والانتماء لها، سيما أن كل ذلك لا يمكنه التحقق بصورة مكتملة بلا تأسيس وتكوين نفسي روحي جسدي سليم.

إن الدين، والوجود الفعلي والملموس للرسائل السماوية متمثلةً بالأديان، تثبت على الدوام سمو الحكمة الربانية من وجودها، وأهميتها في الواقع المعاش، بل أن الأديان تُدخَل بمجهود العقل الإنساني الدؤوب مع العديد من القضايا والمفاهيم والأفكار في نطاق “الجدل” لتعود كرة بعد مرة وتثبت علاقة سببية وطيدة، تماماً كما يرشدنا الدين للفلسفة من خلال وجوب التفكر في الموجودات الملموسة، مما ينتج علوماً وإدراكات معرفية جديدة، ويثبت كيفما تحرك وجود الله الأحد الصمد -سبحانه وتعالى-،  وقد دل النص القرآني الطاهر على ذلك في أيما موضع كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وقوله ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي