شارك المقال
  • تم النسخ

العالم ما بعد كورونا: تعاون دولي أكثر والدولة الوطنية تستعيد مجدها

رغم أنه من الصعب في هذا الوقت معرفة طبيعة ومدى تأثير انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) على بنية النظام الدولي الحالي لأنه ما يزال في بداية انتشاره، لكن ستظهر معالم هذا التأثير بعد أن تبدأ موجة الوباء في الانحصار، حيث سيحدد حجم ضرره وخسائره مستوى تأثيره على السياسات الدولية وخاصة الاقتصاد وأمن الحدود وحرية التجمع وتنقل الأشخاص… فإذا استطاع العالم أن يحاصر هذا الوباء خلال أسابيع معدودة كما فعل مع الأوبة التي اجتاحت بعض الدول الإفريقية والآسيوية خلال السنوات الماضية مثل إيبولا وسارس وإنفلونزا الخنازير، فقد لا تكون هناك انعكاسات كبيرة على آليات اشتغال النظام الدولي الحالي، لكن إذا أودى الوباء بحياة عدد كبير من الأفراد وتسبب في أزمة اقتصادية عالمية فستنجم عنه بدون شك انعكاسات عميقة سواء على المستوى الدولي بإعادة النظر في آليات التعاون الدولي، أو على المستوى الداخلي حيث سيتسبب في مشاكل اقتصادية وأمنية واجتماعية كبيرة، وقد تكون له أيضا تأثيرات سياسية على بعض الدول سواء بتغيير أنظمتها السياسة أو انهيار بنية بعضها.

 ومن بين التأثيرات المحتملة إذا لم ينحصر الوباء بسرعة، أن نشهد العد العكس لموجة العولمة، حيث يبدأ العالم ينكمش على نفسه شيئا فشيئا، ويفرض قيودا مشددة على تنقل الأفراد وحتى البضائع التي يخشى أن تكون في المستقبل ناقلا محتملا للأوبئة. رغم الفوائد الكثيرة التي جناها العالم من العولمة والاعتماد المتبادل وفتح الحدود خلال العقود الماضية، لكن كانت لهذه الوضعية أيضا أثار سلبية كبيرة ومن ضمنها الأزمات المالية المتكررة، وتوسيع التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وأزمات سياسية وأمنية داخلية.

يبدو العالم ما يزال حتى الآن متعاضدا ومتعاونا لمنع انتشار هذا الوباء وتفادي الكارثة. نظرا لأن هذا الوباء لا جنسية له، ولا يبالي بالحدود الجغرافية ولا الانتماءات الطائفية، ويمثل ما يشبه عدوا مشتركا لجميع الدول والأمم، ويهدد أمنها الجماعي، فسيدفعها لا محالة إلى التعاون لمواجهته. وإذا تفاقم الوباء أكثر فسنشهد بالتأكيد تعاونا فعليا ومباشرا بين بعض الدول التي توجد بينها عداوات طويلة، وقد تنشؤ فيما بينها آليات مشتركة لمواجهة هذا الوباء وتفادي تكراره مستقبلا. فمثلا رغم رفض إيران حتى الآن تلقي المساعدات التي عرضها عليها الرئيس الأمريكي، لكن إذا ظهر عجز كبير لإيران في مواجهة الوباء فأرجح أن ترفع عنها أمريكا بعض العقوبات قصد الحصول على الأدوية، وقد توافق إيران على تلقي مساعدات مباشرة من أمريكا.

يمكن القول باختصار أن هذا الوباء سيعزز التعاون الدولي، وسيكون أيضا مناسبة لتخفيف بعض الخلافات السياسية. يدخل في هذا السياق الاتصال المفاجئ الذي تم بين وزري الخارجية الإماراتي والإيراني، حيث عبر الوزير الإماراتي لنظيره الإيراني عن دعم بلاده لإيران لمواجهة انتشار وباء كورونا والتشديد على أهمية العمل الجماعي والجهود المشتركة لمواجه مثل هذه المشاكل العالمية. ويأتي هذا الاتصال أيضا في سياق دعوة العديد من دول العالم -وعلى رأسها الصين وروسيا وباكستان- أمريكا لرفع عقوباتها على إيران.

تستدعي هذه المحنة الدولية أن تركز الدول جهودها على التعاون للقضاء على هذا الوباء الذي يهددها جميعا، وترك الخلافات السياسية والمنافسة الاقتصادية جانبا. لعل من بين أفضل ما يمكن أن ينتج عن هذه الظاهرة أن تترسخ تقاليد دولية في مجال تبادل المعلومات، وقد تتحول إلى آليات مؤسساتية جماعية، وهذا مشروط بعدم تسييس هذه الممارسات لأهداف ذاتية بهذه الدولة أو تلك. ومع ذلك لا يمكن أن نتوقع نجاحا مثاليا لهذا التعاون الدولي نظرا لحالة الشك التي تسود العلاقات بين الدول، وعدم يقينها أن الدول الأخرى ستوفي بالتزاماتها. دون شك ستدفع هذه الجائحة إلى مزيد من التعاون الدولي لاسيما في مجال محاربة الأوبئة، لكن ستكون هناك دائما عوائق تكبح هذا التعاون من تحقيق كل غاياته.

إن الوعي الدولي المتزايد بضرورة تكثيف التعاون وتنسيق الجهود لمواجه هذه المخاطر الجماعية، لا يعني أن تغير الدول أولوياتها، وأن تصرف النظر مثلا على سياسات التسلح التي تنفق عليها ميزانيات ضخمة على حساب صحة وتعليم أبنائها. والسبب الأساسي الذي سيجعل الدول لا تغير من أولوياتها بسبب هذا الوباء، هو المصلحة الحيوية الأولى لكل دولة وهي حماية وجودها وضمان استمرارها، ففي غياب سلطة دولية فوق الدول تضمن أمنها فلا مناص لها من التسلح والاعتماد على الذات لحماية وجودها. حماية هذه المصلحة الحيوية تتم بطريقتين اثنين: الأولى، هو الاعتماد على النفس من خلال تعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية والهجومية، والثانية، من خلال التحالف مع قوى أخرى لمواجهة تهديد مشترك. والخيار الثاني يتخذ صورا متنوعة. ويمكن النظر إلى هذا الوباء إذا تفاقم وأصبح يهدد استقرار الدول، بمثابة عدو مشترك يدفع بعض الدول رغم خلافاتها السياسية إلى التحالف والتعاون لمواجهته. لكن هذا لا يعني بأن أولوية الدول ستتغير، فهذا التعاون ظرفي تمليه الحاجة للقضاء على هذا الوباء. وقد تتشكل آليات مشتركة لمواجهة مثل هذه الأوبئة، لكن لا يعني تشكيل تحالفات دولية حقيقية. وأما بالنسبة للتسلح، فهو عنصر أساسي لوجود الدولة حتى وإن كانت في محيط إقليمي آمن، لأنها لا يمكن أن تثق حتى في جيرانها. نظرة الدول لبعضها البعض تتسم بالتوجس والشك الدائمين، ومهما كانت علاقاتها ودية في الظاهر، فإنها لا تستطيع أن تضمن عدم تغير مواقفها إذا تناقضت مصالحها في المستقبل، لذلك تلجأ الدول إلى التسلح المستمر لتأمين نفسها أمام أي هجوم محتمل في المستقبل. المطلوب الآن ليس تغيير الأولويات، بل إعطاء القطاع الصحي ما يستحقه من اهتمام في برامج الحكومات، إلى جانب باقي القطاعات الحيوية كالتعليم والشغل.

ورغم الخطورة التي يمكن أن يشكلها هذا الوباء على بعض الدول الفقيرة، إلا أنه سيؤدي إلى تعزيز مركزية الدوية الوطنية داخليا وخارجيا. انتقال هذا الوباء عبر الحدود خلال الأسابيع الماضية لا يعني تراجع دور الدولة الوطنية أو انتفاء وظيفة الحدود. بل بالعكس فالدولة تستعيد اليوم الكثير من ”مجدها“، وهي التي تقود اليوم حصريا تقريبا المعركة ضد انتشار هذا الفيروس. حالة الطوارئ التي يشهدها العالم اليوم بسبب انتشار الفيروس تذكرنا جمعيا بأن الدولة مازالت الفاعل الأساسي في السياسات الدولية المعاصرة، رغم ظاهرة العولمة التي استمرت لعقود ومست مناحي كثيرة من التفاعلات الدولية. وأما الفاعلون من غير الدول بمختلف صورهم سواء الوطنية أو العبروطنية أصبحوا في أحسن الأحوال فاعلا تابعا، ولم يستطيعوا حتى الآن أن يقوموا بمبادرات ريادية موازية للجهود الحكومية. وحتى المؤسسات الدولية، مثل منظمة الأمم المتحدة أو منظمة الصحة الدولية، لا تملك إمكانات لتوفير خدمات فعلية للأفراد، وكل ما تستطيع أن تقدمه هو التوصيات والاقتراحات دون أن تكون لها صفة الإلزام اتجاه الدول. لقد صارت الدولة هي الملاذ الأول والأخير. لاحظوا كيف تستعيد الدول اليوم ثقتها حيث أصبح المواطنون أكثر ثقة في المعلومات التي تدلي بها المؤسسات الحكومة أكثر من أي مصدر إعلامي أو مدني آخر، وكيف يقبل الناس طواعية كل الإجراءات التي تتخذها الحكومات حتي وإن مست حرياتهم في التنقل أو التجمع.

وأما الحدود الإقليمية، فرغم أن هذا الفيروس يمكن أن يتسلل عبرها إذا ظلت مفتوحة، فإن الدولة استعادت سيطرتها عليها، لتؤكد بجلاء الوظيفة التقليدية لهذه الحدود، حيث جعلتها الآن الخط الأمامي لإيقاف انتشار الفيروس. بمجرد قرار واحد، تم إغلاق كل المنافذ البرية والبحرية والجهوية أمام حركة الأفراد. وسيكون نقطة تحول كبيرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي إذا اضطرت دوله إلى إغلاق الحدود الداخلية لمنطقة شنغن. لن يؤثر مثل هذا القرار على التصور المثالي للاتحاد الأوروبي في أذهان الأوروبيين فحسب، بل سيكون أيضا سببا لإعادة النظر في الكثير من آليات عمل هذا الاتحاد الذي عجز عن اتخاذ قرارات حاسمة لمحاصرة هذا الوباء في بدايته، بل ولم يقدم المساعدة الضرورية لأحد أعضائها الأساسيين، ويتعلق الأمر بإيطاليا التي تركها تغرق وحدها في موجة هذا الوباء لأسابيع.

ولعل أكبر التطورات التي قد يؤدي إليها انتشار هذا الوباء، أن تتم ”أمننته“. فقد بدأنا نستشف توجها لأمننة هذا الوباء في خطابات بعض السياسيين عبر العالم، وقد يعطى له في المستقبل القريب بعدا أمنيا واضحا إذا تم وصفه بكثافة باعتباره تهديدا وجوديا يتطلب إجراءات طارئة أكثر من المعتاد، ومن ضمنها التدخل العسكري، بالإضافة إلى إغلاق الحدود والحجر الصحي وغيرها من الإجراءات الأمنية التي بدأت الكثير من الدول باتخاذها. إن إعمال نظرية الأمننة securitization في دراسة كيف تتعاطي الحكومات معه يتوقف على طريقة توظيف البعد الأمني في خطابات السياسيين الموجه للعامة في هذا الوباء. هناك أربعة عناصر لتحقق ”أممنة“ هذا الوباء: أولا، الفاعل السياسي الذي يضفي على الوباء الطابع الأمني ويدعو إلى إعمال إجراءات أمنية إضافية، وثانيا موضوع الأمننة الذي يتمثل في تهديد وجودي (الوباء مثلا)، وثالثا الشيء الذي يتعرض للتهديد ويجب حمايته (حياة المواطنين والأمن الوطني…)، ورابعها الجمهور الذي يتوجه إليه الفاعل السياسي بخطابه لإقناعه بالتهديد الوجودي الذي تشكله ظاهرة معينة. إن تحقق هذه الأمننة لا يتوقف على ما إذا كان هذا التهديد حقيقيا، أم أن الفاعل السياسي يبالغ في تصويره لخطورة هذا التهديد. المهم هو أن خطاب السياسي يكون مشحونا بالتنبيه لخطورة أمر ما، وأن ذلك يستدعي اتخاذ الدولة لتدابير استثنائية مؤقتة. أرى أن ما يعيشه العالم اليوم مع هذا الوباء سيفتح نقاشات علمية عميقة حول تأثير الأوبئة العالمية في مختلف الحقول المعرفية ومن ضمنها العلاقات الدولية.

قد يسطيع العالم أن يتحكم في تأثيرات انتشار هذا الوباء، وقد تنفلت الأمور من يده ولن يبدأ الوباء في الانحصار إلا بعد إحداث خسائر اقتصادية واجتماعية وأمنية كبيرة. لكن مهما كان حجم  آثار انتشار هذا الوباء وطبيعتها فإنه سيكون هناك عالم ما قبل كورونا (كوفيد 19) وعالم ما بعده. وبصرف النظر عن عيوب الدولة الوطنية في بعض المجالات، فإنها استطاعت دائما أن تتكيف مع التغيرات الدولية والداخلية، وقد أكد هذا الوباء ليس فقط أن الدولة هي الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، بل وأيضا هي المؤهلة اليوم دون سواها لضمان أمن الأفراد وصحتهم واحتياجاتهم، وتحقيق العدالة بمختلف أشكالها.

*أستاذ العلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي