شارك المقال
  • تم النسخ

السريفي: المسألة الدينية تندرج ضمن الاستراتيجية العامة للدولة بالمغرب

حاوره نور الدين لشهب

كثيرا ما تتناول الدراسات والأبحاث الحركات الدينية والإسلامية، من حيث مجالات اشتغالها وطرق تفكيرها وأدوات تأثيرها وسبل رقيها، لكن قليلا ما يتم التركيز على البحث في العوامل السوسيوسياسية التي أدت إلى بروزها أو التي تعتمل داخلها، أو الصيرورة الاجتماعية التي تتحكم في دواليب هذه الحركات، وتصيغ منها فاعلا متأثرًا ومؤثرًا في ذات الوقت في المشهد الديني والسياسي بصفة عامة.

ومن أجل استجلاء بعض هذه المحاور التي تهتم بتنافس الهويات والحركات الإسلامية بالمغرب وأنماط التدين في الحالة المغربية، كان لنا هذا الحوار مع الباحث يونس السريفي المتخصص في الحركات الاجتماعية والدينية.

الحوار مع السريفي تطرق إلى واقع الإسلاميين عموما، والمغاربة على وجه الخصوص، ما بعد الربيع العربي، وعن أهم التحولات التي طرأت على بنية التفكير لدى الحركات الإسلامية، وكذا ما سمي بالمراجعات لدى “السلفية الجهادية” مع حلول ذكرى 16 ماي الأليمة، وموقع هذه المراجعات من الإعراب لاسيما مع وجود أكثر من 8 ألف مغربي في سوريا..

كما عرج الحوار عن مسيرة الإصلاح الديني بالمغرب من لدن الدولة عقب أحداث 11 شتنبر و16 ماي، وعن التشيع في المغرب الذي اعتبره حالة فردية و”سيكولوجية” أكثر من كونه ظاهرة سوسيولوجية.

مع وصول الحركات الإسلامية للحكم بعد الربيع العربي وكل المخاضات التي عاشتها، ومحاولات القضاء على جماعة الإخوان المسلمين في مصر وعلى حركات إسلامية في بلدان أخرى، سؤالي على وجه التحديد: هل الحركة الإسلامية بالمغرب حالة اجتماعية أم هي استجابة لظروف تاريخية يمكن أن تنتهي بانتهاء ظروف نشأتها؟

الحركة الإسلامية لا تمثل كل الحساسيات الإسلامية، فهناك اتجاهات أخرى، كالحركات الجهادية المسلحة ذات الأبعاد الأممية، والسلفية التقليدية التي تسعى إلى تحرير الديني من السياسي، والتعبير عن الذات في صيغة غير سياسية وعبر المطالبة بمجالات دينية مستقلة، لهذا أفضل تسمية التيار الديني. وهو عموما لم يبرز كنتيجة طبيعية لتحولات اجتماعية وقيمية تعتمل داخل المجتمع المغربي، لهذا فمصيره مرهون بتحولات سياسية وليس اجتماعية، ومع انتفاء الشرط السياسي سوف ينتفي وجودها، لأن وجودها ليس اجتماعيا أو دينيا، بل حالة مفتعلة مرتبطة بالرهانات السياسية والجيوستراتيجية، وجدت منفذا في التعبير عن تصوراتها وتسعى إلى الهيمنة السياسية لزرع مشروعها اجتماعيا. مع العلم أن هناك أكثر من أطروحة سياسية إلى جانب أطروحة التيار الديني إن بصيغة تنافسية أو استئصالية، هذه العوامل تحدد بشكل عميق مسار وتجربة وملامح هذا التيار في المدى المتوسط والبعيد.

يبقى السؤال إلى أي حد تستطيع الحركة الإسلامية المتحكمة والمهيمنة على التيار الديني تفعيل النقد الذاتي والمراجعات الجذرية والجريئة التي تمكن هذا التيار عموما من التعاطي مع المجتمع بشكل براغماتي يعبر عن التطلعات الفردية والجماعية التي نتجت عنها قيم وتصورات واتجاهات مختلفة في المرجعيات؟ لا يمكن التسرع في الحكم لكن، هناك بعض المؤشرات التي تبرز انفلات الحركة الجهادية من رقابة حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى حد إعلان البراءة من هذا المكون.

هل بإمكانك أن توضح أكثر؟

تحليل يبين ان التيارات الدينية ليست لها طموحات سياسية في مواجهة النظام القائم. فإن كان تتبع حزب العدالة والتنمية من خلال نشأته ومساره ومواقفه السياسية يظهر بشكل واضح هذا المعطى. وهو نفس التوجه لدى السلفية التقليدية (المغراوي..) باعتبار مرجعيتهم المذهبية الوهابية السعودية “أطيعوا السلطان ما أقام الصلاة فيكم”.

وماذا عن التيارات الجهادية؟

بخصوص التيارات السلفية الجهادية تم احتواء بعض الرموز (الفيزازي، أبو حفص، الكتاني..) فبعد إطلاق سراحهم من السجن، تخلوا عن تكفير الدولة والمجتمع، وكل واحد اتخذ لنفسه مسارا مختلفا عن الآخر لتجنب الاصطدام، فالفيزازي يشتغل من داخل الحقل الديني الرسمي ويشغل مهمة الخطابة، وأبو حفص انضم إلى حزب النهضة والفضيلة، والكتاني أسس جمعية دعوية، والقاسم المشترك بينهم هو التركيز على قضايا “الهوية الإسلامية” مع خلق يوتبيا للتعبئة ترتكز على مواجهة القوى الحداثية بتهمة العلمانية والإلحاد.

وجماعة العدل والإحسان؟

يبقى موقع جماعة العدل والإحسان يلفه الغموض والالتباس. وللتوضيح فالعدل والإحسان تمثل النموذج الممغرب للإخوان المسلمين من خلال بنيتها التنظيمية، مع الاستفادة من التصوف المغربي بالاعتماد على مركزية الشيخ والولاء المطلق له. لكنها إيديولوجيا جماعة مرنة وتتكيف مع الاتجاهات الدينية المهيمنة مرحليا، حيث استوعبت الجماعة الفكر السياسي الشيعي والمذهبية الوهابية مع الحفاظ على نفس النسق الحركي، والثوابت من النظام التيوقراطي.

كثيرا ما نسمع عن سؤال الوصل والفصل بين الديني والسياسي لدى الحركات الإسلامية، والسؤال المضمر حول هذه المسألة غالبا ما يتعلق بطموح هذه التيارات، كيف ترى المسألة؟

من الواضح أن طموحات التيارات الدينية سياسية بالدرجة الأولي واعتبارهم أن في الاستيلاء على السلطة إرجاع للأمور إلى أولها وتحقيق لمشيئة الله مادام أن الشعب المغربي مسلم فيجب أن يحكم بالكتاب والسنة فيه نوع من التسرع. والملاحظ أن هذه التيارات بعد الربيع الديموقراطي غيروا من استراتيجيتهم من أسلمة الدولة الشاملة، إلى القبول بأسلمة المجتمع، ولكن بقدر ما تتوسع قاعدتهم وتصبح رؤيتهم للفرد والمجتمع والدولة مقبولة من شرائح اجتماعية أكبر بقدر ما سيغيرون من مواقفهم في اتجاه أسلمة الدولة.

الملاحظ أن العشر سنوات الأخيرة عرفت حضورا مكثفا واستثنائيا للشأن الديني في الأجندة السياسية للدولة..

بكل تأكيد أن بعض الأحداث العالمية تكون لها تداعيات سياسية مرتبطة بالمجال الديني وتؤثر على السياسة الدينية بالمغرب، فنلاحظ مثلا أن حدث الثورة الإيرانية سنة 1979 أثر على السياسة الدينية في المغرب، بحيث اعتمدت الدولة المغربية سياسة جديدة بتأسيس المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية. وحدث مماثل وقع في 11 شتنبر 2001 وأثر على السياسة الدينية في المغرب. ويتعلق الأمر بتلك الأحداث التي ارتبطت بتنظيم القاعدة، وبدا الكل يتحدث عن تنامي التطرف الديني وأصبح الإرهاب مرتبطا بجماعات لها تأويل خاص للإسلام.

هذا الحادث أثر ودفع الدولة إلى إيلاء أهمية خاصة للسياسة الدينية، وفي هذا الاهتمام بتدبير الحقل الديني، ويمكن أن نقول إن أهم ما ميز العشرية الأولى هو هذا الاهتمام الكبير بالحقل الديني من أجل بلوغ هدفين: مواجهة التطرف الديني وتحصين مقومات الهوية الدينية المغربية.

فالدولة فاعل أساسي في المسألة الدينية في المغرب خضع الحقل الديني للرقابة، حيث يتحكم الهاجس السياسي والأمني في سلوكها إزاء الدين.

إذن نحن أمام دولة أصولية تنتج الخطاب الديني من خلال المؤسسات التي تشرف عليها ومن خلال الأجهزة والرموز (إمارة المؤمنين أو وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية)، بطبيعة الحال، فهذه الرقابة تساعد على إنتاج رموز دينية بالقدر نفسه الذي تعيق من خلالها في مستويات اجتماعية متفاوتة، نموا طبيعيا لحقول وأنماط تدين كما هو الحال مع التشيع والبهائية، وأديان أخرى كالمسيحية.

وتبقى محاولات الدولة الهيمنة على حقل الديني دون جدوى، لأن علاقة المجتمع بالدين غير مباشرة وغير واضحة وقد ينتمي الشخص في الوقت نفسه لأكثر من نمط تدين دون أن يمثل له ذلك أي انفصام.

ألا تمثل السياسة الدينية المتبعة حاليا تراجعا وسيرا في الاتجاه المعاكس للإشارة التي أرسلها العهد الجديد حول الشأن الديني، والتي أوحت في البداية بإدراج هذا الملف ضمن المقاربة التنموية وجعل المساجد مراكز للتعليم والتضامن؟

الملك محمد السادس حاول في البداية أن يجدد آليات الاشتغال في جملة من السياسات العمومية بما فيها الدينية. فكانت أولى المبادرات في يونيو من سنة 2000، والمذاكرات الأربع التي تضمنت إشارات فهم منها القطع مع بعض التدابير السابقة خاصة ما يتعلق بأماكن العبادة، وفي مقدمتها المساجد. لكن أحداث 11 شتنبر 2001 شكلت منعطفا لإعادة النظر في التعاطي مع الحقل الديني، ووضع أسلوب جديد في التعامل مع القيمين الدينيين، ثم وبعد تلك الأحداث بدأ التفكير في بناء أو على الأقل توظيف بعض الفاعلين الدينيين من أجل مواجهة التطرف. وفي هذا الإطار كثر الحديث عن التصوف السني، وهذا التحول شكله تعيين وزير أوقاف جديد هو أحمد التوفيق الذي عين قبل 16 ماي، في حكومة إدريس جطو 2002، وبالتالي فالتحولات الكبرى التي أثرت في تدبير الحقل الديني كانت مرتبطة باعتداءات 11 شتنبر. لكن 16 ماي جاءت لتسرع من التدابير المتخذة.

هل يتعلق الأمر بسياسات إستراتيجية في المجال الديني أم بإجراءات تكتيكية لمواجهة بعض التهديدات الطارئة؟

المسألة الدينية بالغة الأهمية بالنسبة إلى سياسة الدولة، وتندرج ضمن استراتيجيتها العامة، فكل سياسة عمومية لها أهداف تريد أن تحققها ومجموعة من الوسائل. ونحن نعرف أن السياسات العمومية تتحدد وفق متطلبات المرحلة، وتشتمل على أهداف إستراتيجية، لأنها ترمي إلى الحفاظ على مقومات الهوية الدينية ومحاربة التطرف.

لكن علينا استحضار ثلاثة مستويات: المستوى الأول يرتبط بتدبير الشأن الديني، وهنا نتحدث عن سياسة عمومية، ونستحضر مسألة العقلانية. والثاني هو إصلاح الشأن الديني، ونتحدث عن بعد إيديولوجي، من خلال ترسيخ مجموعة من القيم: الإسلام دين التسامح والاعتدال، مواجهة كل “الإيديولوجيات المتطرفة” سواء كانت ذات بعد ديني أو فكري كتصورات بعض التيارات السياسية والثقافية والاجتماعية، التي تشوه صورة الإسلام. ومستوى ثالث هو هيكلة الحقل الديني، وتهدف إلى التحكم في الفاعلين الدينيين، والممارسات الدينية، وهنا يمكن أن نتحدث عن مختلف آليات الضبط والتحكم (المجلس الأعلى، المجالس المحلية، هيئة الفتوى…). وما يميز هذه المستويات الثلاثة.

وهل يمكن تقييم مدى تحقيق الأهداف الأساسية لعملية إصلاح المجال الديني؟

الحديث عن تقييم الشأن الديني كسياسة عمومية لها أهداف ووسائل يثير نقاشا بين المتتبعين، حيث إننا نستطيع أن نعتمد مقاربة كمية لتقييم حصيلة سياسة معينة. أما بالنسبة إلى السياسة الدينية فمن الصعب أن نقول إلى أي حد تمت المحافظة على الهوية الدينية، وإلى أي حد تمت مواجهة التطرف الديني، لكن ما نشعر به هو أن الفضاء الإعلامي في المغرب، سواء القنوات أو الإذاعات العمومية، أصبح فضاء مملوءا بالدين، وهناك حديث عن مقومات الهوية الدينية المغربية، وبرامج وملتقيات تستهدف المغربة للتعريف بالتصوف. لكن وبالمقابل تطرح تساؤلات: عندما تنزعج الدولة من المد الشيعي وتأتي تلك التقارير التي تتحدث عن تنامي المد الشيعي بين مغاربة الخارج، نتساءل إلى أي حد استطعنا المحافظة على الهوية الدينية؟ ثم إننا نسمع بين الفينة والأخرى عن تفكيك خلايا إرهابية تستهدف استقرار المغرب، ما يعني أننا لسنا في منأى عن مخاطر التطرف الديني.

فالتدبير المؤطر للحقل الديني وانطلاقا من التغيرات الاجتماعية الوطنية والتحولات الدولية، تطرح عليه إشكالات محرجة من المفروض أن يجيد الإجابة عليها، فالمجتمع المغربي في إطار علاقته بالدين ليس في مأمن من واقع التأثيرات وتصاعد أشكال التطرف، وتأثير الانفتاح لسوق المنتجات اليدينية من كتب وأشرطة صوتية ومواقع إلكترونية وإعلام تلفزي، ولذلك لم تبق السياسة الدينية بالمغرب ومرجعية التقليد الديني وحدهما المشتغلين في مجال التأطير الديني للمواطن المغربي.

وأقول بشكل عام إنه لا يمكن أن نقول إننا فشلنا أو أن الحصيلة سلبية، لكن ما زالت هناك جهود تبذل، خاصة أننا لا نتحدث عن إستراتيجية مكتملة بل هي استراتيجية تتطور وتتشكل، ويمكن أن نلاحظ ذلك من الخطابات الملكية… وينبغي إعطاء بعض الوقت لاكتمال التجربة.

ومن مقاربة تحليلية ترتبط بالسياسات العامة ثمة عدة مؤشرات تجعل من تدبير الحقل الديني بالمغرب لا يتوفر على سمة السياسة العامة، والتي هي بالدرجة الأولى نتيجة إرادة ذاتية للدولة في تلبية حاجيات المواطنيين وحل مشاكلهم وفق أسس تشاركية، دونما حاجة إلى صراع من خصم إيديولوجي أو انتظار وقوع أحداث دولية ضاغطة، ليبلور في الحالة المغربية ماهية الإصلاحات المطلوب إجراؤها في ما يرتبط بالحقل الديني.

وما محل التصوف من الإعراب في هذا المسار؟

التصوف كان دائما حاضرا في المغرب، ولا يمكن تجاهل دوره، فتاريخ المغرب هو تاريخ التصوف، ما يميز الزوايا هي كونها تجمعات تحيط نفسها بطقوس تنتمي إلى خليط من المعتقدات وتبني قوتها على الغموض والعلاقات الوثيقة والتاريخية مع أركان السلطة. وتستفيد جراء ذلك من ضمان استمراريتها وانتشار مريديها، لم تتخل الدولة عن الزوايا، لكن هذه العلاقة تتسم كذلك بنوع من الحيطة والريبة، لذلك فهي علاقة تمارس الدولة من خلالها نوعا من الرقابة والتوجيه. وأكيد أن توظيف التصوف أحيانا يتم حسب متطلبات كل مرحلة، ففي عهد الحسن الثاني تمت مواجهة الإسلاميين والشيعة عبر التصوف، في حين تغيرت المعادلة الآن، حيث أصبح التيار السلفي الجهادي هو التهديد الحقيقي، وبدت الحاجة إلى خدمات الفاعل الصوفي من أجل مواجهة التيار السلفي الجهادي، والمراهنة على الفاعل الصوفي لمواجهة قوى التطرف الديني. لكن الجديد هو تكثيف التوظيف السياسي للتصوف، فأصبحنا نتحدث عن ثالوث العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني للهوية الدينية للمغرب.

وفي ما يتعلق بمواجهة المذاهب والعقائد الدخيلة، نلاحظ أن هذا أمر جديد، فقد لاحظنا منذ نهاية الثمانينات صدور قرارات بتوقيف عدد من أئمة المساجد بدعوى أنهم غير ملتزمين بالمذهب المالكي، لكن نلاحظ في عهد محمد السادس نوعا من الوضوح والصرامة في التعامل مع المذاهب الأخرى. فكانت البداية بمحاولة اجتثاث التيار السلفي الجهادي، لكن وبعد 2008 أعلنت الدولة رغبتها الواضحة في القطيعة مع التيار السلفي التقليدي (المغراوي)، ثم أعلنت عن موقف مماثل تجاه التشيع، خاصة مع تنامي المد الشيعي في أوساط مغاربة الخارج، وتحول عدد من المغاربة نحو التشيع ابتداء من سنة 2000، بل إنهم أصبحوا يعبرون عن انتمائهم هذا ويطالبون بحقهم في التعبير عن معتقداتهم وحقهم في التنظيم، وكانت هناك محاولات لتأسيس جمعيات شيعية، وإصدار جرائد تعلن عن انتمائها الشيعي. فلم تتعامل الدولة مع المسألة من زاوية دينية فقط بل من زاوية سياسية وأمنية، لما من شأن ذلك أن يحدثه من انقسام وفتنة. ودخلت وزارة الخارجية على الخط ببيانها الذي يفسر قطع العلاقات مع إيران، والذي تضمن إشارة واضحة إلى المد الشيعي.

والمعطيات المتوفرة تثبت أنه ليس بمقدور تلك الزوايا أو ذلك التيار أن يتواجدا دون رضا الدولة وعطفها، مما يصعب معه اللاهان على التصوف لأن هناك عدد من المعطيات تؤثر في مجريات وسيرورات التدين في المجتمع المغربي.

مع اقتراب ذكرى 16 ماي الإرهابية ماذا عن مراجعات السلفية الجهادية؟

بالنسبة لفكرة المراجعات انطلقت في تسعينيات القرن الماضي في مصر من قبل “الجماعة الإسلامية” وكانت لها قوتها في سياقها ولأصحابه ويجب أن يتوقف عند محطاتها، ومن بعدها مراجعات “سيد إمام”، ولها صلات بمواقف “الجهاديين في المغرب” فما يحدث في المغرب.

فما يسمى بـ”مراجعات الإسلاميين الجهاديين في المغرب” يطرح عددا من التساؤلات المعقدة والمتشابكة. فهل يمكن أن نتحدث في المغرب عن مراجعات كالتي يتناولها الإعلام في مصر؟ وهل يوجد في المغرب من هو مؤهل من الناحية العلمية للقيام بهاته المراجعات؟ وهل تتعلق هاته هذه المراجعات بالجدوى أم الفتوى، أي هل المراجعات مؤصلة على الفتوى بما هي قناعة نابعة من الشرع أم هي مرتبطة بواقع ظرفي مؤقت محكوم بشروط معينة يرتفع حكمه بارتفاعها.

لقد سبق لأبي حفص أن كتب في بيان له عقب إقدام “الرايدي” على تفجير نفسه يقول فيه أنه هو وإخوانه كانوا بانتظار الانفراجات فإذا هم يفاجؤون بالتفجيرات، وطالب بإيقاف هذه الأعمال باعتبار أنهم في السجن وأنهم راغبون في الخروج منه، ومن شأن هذه التفجيرات الإرهابية أن تسهم في الحيلولة دون تخليصهم من السجن ونيلهم حريتهم، وبالتالي فإن سؤال الجدوى يظل ماثلا أمامنا وبقوة.

أليس من المفارقة أن يستمر “الجهاديون المغاربة” على عقادهم وقناعاتهم أو ما يسمونه الثوابت مدة طويلة، يبذلون كل ما في وسعهم في سبيل إقناع الناس بها، ويناظرون خصومهم من داخل نفس الإيديولوجيا. ويفخرون بالاطلاع على الكتابات الأولى “لسيد إمام الشريف” قبل المراجعات وتبنيها مثل “الجامع…” و”العمدة…” وهذا يقطع بانتمائهم العمودي والأفقي للخط الجهادي في صورته الراديكالية.

غير أنهم بمجرد أن دخلوا السجن سارعوا إلى إعلان التوبة والندم عن ما صدر منهم، وكذا عزمهم على القيام “بمراجعات” على اعتبار أن السجن خلوة مكنتهم من الوقوف على تجاربهم؟ ! وبالتالي النظر إليها نظرة فاحصة ونقدية؟

فكيف نفسر أن يمكث هؤلاء على ثوابت خطهم الجهادي التي هي تكفير الحاكم والدعوة إلى الخروج عليه، واعتماد الجهاد سبيلا للتغيير، وإهدار دم العلمانيين وكل المخالفين. وإعلان القطيعة مع الاختيارات السياسية الأخرى، والإيمان بأن ليس بينها وبين هذه الأخيرة إلا “السيف”، وعدم السماح بأي شكل من الأشكال بالقبول باللعبة السياسية أو المشاركة في الانتخابات.

إن المتتبع لملف السلفية الجهادية يلحظ أن المفرج عنهم من السجون التحقوا بالأراضي السورية تلبية لواجبهم المقدس حيث يعكف الشباب الجهاديون على تبني مقولات آخر الساعة والرغبة في قتال المسيح الدجال الذي سوف يكون في أرض الشام، ولقد فاجا عدد المغاربة المقاتلين في سوريا جميع المهتمين، وبدا واضحا الصلة الوثيقة بين “تنسيقيات الدفاع عن المعتقلين” التي لعبت دورا كبيرا في عملية الشحن العقائدي والتعبئة للجهاد في سوريا من داخل المغرب وقد قتل أنس الحلوي الذي كان ناطقا رسميا مؤخرا في سوريا.

طيب، لنتحدث حول ما يمكن تسميته بالتشيع في المغرب؟

قبل ذلك لدي ملاحظة منهجية أود توضيحها إذ من الضروري أن نعي بأن أي فهم واقعي وهادئ لظاهرة التحولات الدينية بالمغرب لا يمر عبر المعالجات الصحفية والسياسية التي قد تنجح في معالجة بعض جوانب “ظاهرة” التشيع، إلا أن عدم الوعي بحدود وإمكانات هاته المقاربات أوقع العديد من الدراسات والباحثين في فخ التبسيط أوالتعميم، لأن تلك المعالجات تبقى عاجزة بحكم طبيعتها وأهدافها على تقديم تحليل موضوعي للحالة الشيعية بالمغرب، مكوناتها وأسباب نشأتها واتجاهات تطورها. خصوصا مع ازدياد حدة الجدل بعد قطع العلاقات الديبلوماسية المغربية- الإيرانية، إذ اكتست أغلب المساهمات طابعا سجاليا صريحا.. لذلك كانت هاته المساهمات غير مبنية على معرفة موضوعية أو براهين علمية مما أدى إلى انطباع أغلبها بالطابع الإيديولوجي الذي تسيطر عليه المواقف المعيارية، أو الدعائية السياسية.

إن الحالة الشيعية المغربية، وبسبب الظروف التاريخية والسياسية التي برزت بشكل قوي مع الثورة الإيرانية، انكمشت على ذاتها مستندة إلى مبرر شرعي وهو “التقية”، وحيث أنها لم تكن منظمة وتفتقد إلى أدنى مستويات الإدارة والتوجيه، فإنها أصبحت مجرد حالة أفراد وفي أحسن أحوال مجموعات صغيرة ومتفرقة، ليس بينها أي تواصل، وهي موزعة على كافة التراب الوطني، ومتفاوتة من حيث الكم والنوع والانتماء السياسي والقدرة على الحركية.

وتبقى مدن الشمال المغربي وخاصة طنجة، اعتمدت الحالة الشيعية بشكل كبير على الجالية المغربية في بلدان أوربا الغربية، وبشكل واضح على الحضور الشيعي المغربي الذي أتيحت له فرصة الهيكلة والعمل المؤسساتي العلني، فبرز إلى الواجهة ومارس تأثيراته على الحالة الشيعية في المغرب بشكل أو بآخر، وحيث إن الغالبية من الجالية المغربية في أوروبا الغربية ينحدرون من مدن الشمال، فإن حجم التأثير على تلك المدن كان أكثر من غيرها.

كم يقدر عدد الشيعة المغاربة؟

لا يمكن بالجزم برقم يعبر عن عدد الأفراد المنتسبين للحالة الشيعية المغربية، فالتقية وعدم وجود أي صيغة تنظيمية تربط الفعاليات، وأيضا بسبب عدم وجود من يعبر عن هذه الحالة ويتحدث باسمها، لكل ذلك يصعب رصد الحالة عدديا، وإنّ أيّ حديث عن العدد هنا أو هناك، لا يستند إلى أي رقم صحيح. ويمكن الحديث عن الحضور العددي للحالة الشيعية المغربية في بلجيكا مثلا ممكن، وهي تقدر بالآلاف.

ما هو تفسيرك للعديد من المبادرات التي قام بها الشيعة المغاربة للتعبير عن مذهبهم؟

أود هنا أن أؤكد على الفصل بين مستويين، الأول يتمثل في التشيع الفردي، الذي يتخذ صيغة تعبيرية عاطفية وانفعالية منشدة للوجدان ومأخوذة بالإعجاب، وهو تشيع نظري أكثر من كونه عقائدي، يستلهم بعض الطقوس، ويحاول مغربة بعض جوانبها. كاتخاذ أضرحة صلحاء المغرب وأوليائه أماكن للعبادة والتوس، والاحتفال بالأعياد الشيعية كعيد الغدير ومواليد أئمتهم، أو الأحزان في مناسبات وفاتهم وعلى الأخص يوم عاشوراء. إنه نوع من التمذهب التعويضي تهيمن عليه الأساطير ويغرق في الوقائع التاريخية، إنه انشداد إلى ثقافة معينة وتجارب تبدو للمعني بالأمر أنها تمثل نموذجا.

والمستوى الثاني مرتبط بمحاولات من قبل فاعلين لإعادة صياغة منظومة انتمائهم الجديد عن طريق الانخراط في المجال العمومي. وفي هذا السياق برزت عدد من المحاولات للتعبير عن الحالة. والملاحظ في هذا الجانب أن كل المحاولات انطلقت من خيارات ممكنة قانونا، مشاريع جمعيات ثقافية بعدد من المدن المغربية بشكل محلي، أو جمعية وطنية كما هو الرساليون التقدميون. وكلها محاولات للبحث عن صيغة لتمرير الفكر الشيعي وتبييئه مغربيا أو على الأقل تطبيعه اجتماعيا. لكن الملاحظ أن هؤلاء الفاعلين لم ينفلتوا من تجاربهم الحركية والسياسية السابقة. وجميع هاته المبادرات قوبلت برفض السلطات المغربية الترخيص لها.

لكن موضوع التشيع مرتبط إضافة إلى كل ما أشرنا إليه بحقوق الإنسان، لا يمكن منع الناس من تبني مذهب في الدين أو التحول من دين إلى آخر أو حتى إنكار الأديان، فهذا يدخل في حرية الاعتقاد، وهذا حق تضمنه العهود والمواثيق الدولية مما يضع الدولة في مأزق.

لكن هناك اعتراف من قبل السطات بتيار شيعي بشكل قانوني وهو الخط الرسالي كما أن هناك حديثا عن مفاوضات أدت إلى هذه الصيغة؟

حسب المعطيات الإعلامية الأمر مرتبط بشركة خاضعة للقانون التجاري، لهذا لا يرتبط الامر بمنح السلطات العمومية لترخيص لممارسة العمل التجاري، وهو مجال غير مراقب من قبل السلطات، بمعنى لا يخضع لرقابة قبلية من قبل الأجهزة الأمنية أو وزارة الداخلية، وربما كان من وراء هذا التكييف والبحث عن توجيه رسائل سياسية للداخل والخارج. أما الحديث عن مفاوضات فالأمر يبقى مستبعدا خصوصا في ظل ظروف أمنية محلية، وحسابات إقليمية ورهانات جيوستراتيجية.

سبق أن قال إدريس هاني في حوار صحفي: إن “التشيع” يسكن اللاوعي الثقافي المغربي مستدلا بأن المغاربة هم أكثر فهما وتفهما وتأثرا بالطقس العاشورائي..

من الناحية المنهجية تبقى فرضية مقبولة لكنها تحتاج إلى تعمق ودراسة، أما من الناحية المفاهيمية فيصعب تقبله، فيونغ يرى بأن مفهوم اللاوعي الجمعي يدين في وجوده بشكل خاص للوراثة”.صحيح أن التشيع خلف آثارا غامضة في صميم اللاوعي الجمعي المغاربي عامة وهو ما يظهر في تكريم النبي وآله وظهور ما يسمى بالنزعة الشريفية التي استطاعت حمل سلالتين شريفيتين للسلطة هما السعديين والعلويين على التوالي، لكنه تلاشى كتشيع بمعناه العقائدي والفقهي، بالمقابل تطور من داخل تصوف الزوايا التي تغلغلت داخل النسيج الاجتماعي، لكن في تعايش مع الإسلام السني في توفيقية سمحت ببروز إسلام مغربي.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي