شارك المقال
  • تم النسخ

الاقتطاع من أجور المضربين بين السياسة والقانون

أثناء فترات الاحتقان التي تعرفها بعض القطاعات العمومية، وبعد خوض الشغيلة للإضرابات، ترفع الحكومات المتعاقبة سيف الاقتطاع من الأجور، وهو ما نجد صداه على المستويين السياسي والقانوني، فتجد بعض السياسيين يرفعون شعار لا قانونية الاقتطاع، إما اقتناعا منهم بذاك، أو دغدغة لعواطف المتضررين واستثمارا في أصواتهم الانتخابية، أو غير ذلك من التعلات.
المقاربة السياسية:

بتتبعنا لمسار عملية الاقتطاع من أجور الموظفين العموميين، يتبدى لنا أن السياسيين في المغرب يستمرئون قول الشيء ونقيضه، تارة مع الاقتطاع وقانونيته، وتارة يرفعون شعار اللا قانونية ويعارضون قرار الاقتطاع، وتتغير أقوالهم بتغير مواقعهم موالاة أو معارضة.

لعل أول من طبق الاقتطاع من أجور المضربين في المغرب هو الوزير الاتحادي لحبيب المالكي حين كان حاملا لحقيبة التربية الوطنية، وطبق ذلك مع أساتذة الإعدادي الذين كانوا يعرفون إعلاميا بالأساتذة الذين سبق لهم، والأساتذة الذين لم يسبق لهم، وكان ذلك في حكومة السيد إدريس جطو، وقد عارضه في ذلك برلمانيون من موقع المعارضة، ولم يعارض هذا الإجراء برلمانيو الاتحاد الاشتراكي للرحم الحزبية التي تجمعهم بالوزير.

بعد ذلك، خاض أساتذة جهة سوس ماسة درعة إضرابات جهوية سنة 2010، وقد واجهها الوزير أحمد اخشيشن ورفيقته كاتبة الدولة لطيفة العابدة بالاقتطاعات من أجور 33 ألف من رجال ونساء التربية والتعليم بالجهة، وتعرضت الأجور للاقتطاعات قبيل عيد الأضحى المبارك، ولما ووجهت كاتبة الدولة في البرلمان بسيل من الأسئلة، واجهت النواب قائلة: “أنا والسيد وزير التربية الوطنية والتعليم العالي من يتحمل مسؤولية الاقتطاعات التي طالت أجور رجال التربية والتكوين بجهة سوس ماسة درعة”، واستندت لتسويغ قانونية الاقتطاعات وشرعيتها على القاعدة التي تقول: “إن الموظف في حالة عدم اشتغاله لا يؤدى له الأجر”، وأول من واجه كاتبة الدولة حينذاك هم برلمانيو العدالة والتنمية، وقد عبر حينها محمد يتيم عن فقدان هذا الاقتطاع للأساس القانوني، واعتمد في مرافعته على أن “الإضراب حق دستوري مشروع”، وأضاف أن الاقتطاع يعد اعتداء على القدرة الشرائية لرجل التعليم.

سياسيو العدالة والتنمية أنفسهم سيتحملون مسؤولية التدبير الحكومي مباشرة بعد حكومة عباس الفاسي التي باشرت الاقتطاعات الجهوية بسوس، لكنهم سرعان ما سيتخلون عن موقفهم حول لا قانونية الاقتطاع، وسيعملون على تطبيقه بنوع من الأورثوذكسية السياسية سنة 2012، حيث واجهت حكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران مضربي قطاع العدل بالاقتطاعات من الأجور، معتبرين ذلك الإجراء مستندا إلى القانون والأعراف الديمقراطية، وأنه يضمن نوعا من الالتزام الوظيفي، وقد عرف هذا الإجراء رفضا قاطعا من نقابة الاتحاديين الذين كان رفيقهم لحبيب المالكي أول من طبقه.

بعد هذا، سنجد الاقتطاع من أجور المضربين في نهاية شهر يونيو من سنة 2019 في عهد حكومة الدكتور سعد الدين العثماني، وكان قطاعا التعليم والصحة هما الفئة المستهدفة من هذا الإجراء الذي سيستمر مع حكومة عزيز أخنوش، خصوصا في قطاع التعليم الذي عرف حراكا احتجاجيا بداية الموسم الدراسي 2023 ــ 2024. حيث استؤنف النقاش حول المشروعية القانونية لهذا الاقتطاع، وصار مناضلو حزب العدالة والتنمية إلى صف معارضي هذا الإجراء.

من خلال هذه الكرونولوجية التأريخية للاقتطاع من أجور المضربين، يتبين لنا الآتي:

أولا: الادعاء بكون الاقتطاع من أجور المضربين سُنة ابتدعتها حكومة عبد الإله بنكيران ادعاء باطل، وهي مسبوقة بذلك من قبل حكومتي إدريس جطو وعباس الفاسي كما تم بيانه.

ثانيا: الاقتطاع من أجور المضربين موضوع من المواضيع التي تكشف الوجه الحقيقي للسياسة السياسوية المتبناة في المغرب، حيث يستطيع السياسي أن يتبنى موقفا ثم يدافع عن نقيضه مستقبلا دون أن يرف له جفن، وهذا ليس خاصا بالعدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة، بل يعم جميع الأحزاب المشاركة في الحكومات المتعاقبة بناء على مبدأ التضامن الحكومي، وقد كشف مؤخرا الأستاذ عبد الإله بنكيران أنه كان متحمسا للاقتطاع، وكان الأستاذ مصطفى الرميد معارضا له بناء على حيثيات ذات صبغة قانونية، لكن عبد الواحد سهيل القيادي في حزب التقدم والاشتراكية كان مؤيدا للأطروحة الكيرانية، وعضدها بأدبيات المكتب الدولي للشغل الذي تبنى قرار ربط الأجرة بالعمل، وهو المبدأ المعمول به في كثير من الدول.
المقاربة القانونية:

بعد الاطلاع على السياسة السياسوية التي تمارَس على الشعب المغربي من خلال جزئية الاقتطاع من أجور المضربين، يحق لنا أن نتساءل عن مدى قانونية هذا الإجراء.

غير خاف على المتتبع أن المتضررين من الاقتطاع غالبا ما يرفعون شعار لا قانونيته أولا، ويعضدون دعواهم بمجموعة من الدفوعات، منها أن الاقتطاع لا يستند على قانون، وأن أقوى مستند له هو مرسوم صادر عن حكومة الأستاذ بنكيران، وهو ما يعرف بمرسوم الأجر مقابل العمل، وأن المرسوم لا يرقى إلى النص التشريعي الذي يمكن الاستناد إليه في إجراء كهذا، ويزيدون دفوعاتهم قوة فيؤيدونها بالقرار الصادر عن المحكمة الذي حكمت بموجبه ببطلان ذلك الاقتطاع وعدم مشروعيته.
فإلى أي حد نقبل بهذه الدفوعات؟ وهل يمكن اعتبارها دفوعات سليمة قانونا؟

قد لا نبالغ إن قلنا بأن هذه السردية التي تعودنا سماعها في كل المحطات ليست إلا أغلوطات بعضها فوق بعض، وبيان ذلك من خلال النقط الآتية:

أولا: المرسوم الموسوم بمرسوم الأجر مقابل العمل لم يصدر عن حكومة عبد الإله بنكيران، بل صدر عن حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وهو المرسوم رقم 2 ــ 99 ــ 1216، الصادر في 10 ماي 2000، الصادر في الجريدة الرسمية عدد 4801، وهو المرسوم الذي اعتمد عليه الوزراء لحبيب المالكي وأحمد اخشيشن ولطيفة العابدة قبل حكومة عبد الإله بنكيران. نقول هذا للتاريخ وليس دفاعا عن أي جهة.

ثانيا: الاقتطاع ليس مبنيا على هذا المرسوم فقط، بل المرسوم نفسه ما هو إلا مرسوم تنظيمي لقانون 12 ــ 81 الصادر عن حكومة كريم العمراني الذي صدر في ظهير شريف رقم 1 ــ 83 ــ 230 بتاريخ 5 أكتوبر 1984 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 3764.

ثالثا: الترويج الإعلامي للحكم الصادر عن المحكمة حول الاقتطاع من أجور المضربين كان مسهما في تغليط الرأي العام، خصوصا من حيث العناوين التي صُدّر بها، مثل “الاقتطاع من أجور الموظفين غير مشروع” وغيرها من عناوين الإثارة الصحفية، أما منطوق الحكم، فإنه يؤيد الحكومة من حيث المبدأ في شأن الاقتطاع، ويحيل على النصوص القانونية المذكورة قبلُ، لكنه يرفض الاقتطاع لكونه لم يلتزم بالمساطر المنصوص عليها في مرسوم الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي، خصوصا عدم توجيه الإدارة لاستفسار كتابي للموظفين قبل الاقتطاع، خلافا لما نصت عليه المادة الرابعة من المرسوم المذكور التي تنص على إلزامية ذلك.

رابعا: لم تغب عن المقاربة القانونية لقاضي الحكم دعوى الفراغ القانوني في شأن الإضراب بناء على عدم صدور قانون تنظيمي بشأنه، بل استحضرها في حيثيات الحكم، وبيّن أن هذا الغياب لا يلغي الدور الإنشائي للقواعد القانونية الذي يمارسه القاضي الإداري، ما فرض عليه الموازنة بين الحق في الإضراب باعتباره حقا دستوريا، والمصالح المعتبرة قانونا التي يقتضيها ضمان السير المنتظم للمرفق العام رفعا للضرر اللاحق به وبالمرتفقين على السواء. [ينظر حكم المحكمة الإدارية بالرباط رقم 3772 بتاريخ 27 ــ 11 ــ 2013].

تأسيسا على ما سلف، يتبين لنا أن الاقتطاع من الناحية السياسية يتبناه الجميع ويعارضه الجميع، فصار كالشعير يؤكل ويُذَمّ، أما من الناحية القانونية، فيتبدى لنا أنه إجراء مؤسس على أرضية قانونية تشريعية، ومحصن بحكم قضائي حائز على قوة الشيء المقضي به، لكنه ليس إجراء قابلا للتسيب، بل لا بد لضمان سلامته القانونية أن يلتزم بالضوابط المسطرية المنصوص عليها. وهذا ما لا تلتزم به الإدارات العمومية بالمغرب.

أما الكلام عن لا شرعيته أو افتقاره إلى القانون التنظيمي أو غير ذلك فمجرد دغدغة للعواطف وعزف على أوتارها ليس إلا، وهذه الضبابية الرائجة إعلاميا هي التي يستند عليها السياسي السياسوي الذي يقول الشيء ونقيضه دون مراعاة لأدنى الضوابط الأخلاقية التي ينبغي أن تسيج عمله وتؤطر مرافعاته.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي