شارك المقال
  • تم النسخ

الإعلامي مراد بورجى يكتب: الأمير مولاي الحسن ومهنة ملك المغرب

باحتفال ولي العهد الأمير مولاي الحسن، يوم الاثنين 8 ماي 2023، بعيد ميلاده، يكون قد تخلّص نهائيا من مجلس الوصاية كهيئة استشارية تلازمه بعد تجاوزه سن الرشد (18 سنة) إلى أن يدرك تمام السنة العشرين من عمره، طبقًا لمقتضيات الفصل 44 من الدستور المغربي.

تحرر ولي عهد المملكة العلوية الشريفة، الذي سيلقب بالحسن الثالث، من وصايةِ دائرةٍ من المستشارين كانوا يتشكّلون من رئيس المحكمة الدستورية، ورئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، وهم وجوه تمثّل، بالنسبة إليه، إرثا قديما هي الموجودة اليوم في الحكم، وبالخصوص رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، الذي تطارده الهاشتاغات والاحتجاجات، التي تطالبه بالرحيل.

الجيل الموجود في الحكم والمؤسسات، ليس هو جيل ولي عهد شاب، له شخصيته، التي يسهر على تأطيرها والده الملك محمد السادس، الذي له رؤيته المغايرة لرؤية الملك الراحل الحسن الثاني، في تربية ولي العهد.

محمد السادس عاش في جوّ مطبوع بنوع من الانسداد عندما كان وليا للعهد، أيام حكم والده الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يوُصف، في بعض الأدبيات التحليلية والتاريخية، بأنه خلال ولايته للعهد كان يُعتبر الحاكم الفعلي لمرحلة ما بعد عودة الملك محمد الخامس إلى العرش من منفاه سنة 1955 … وأن جلوسه على العرش، يوم 3 مارس 1961، أصبح محل منازعة مع الحركة الوطنية وتياراتها المعارضة الأساسية (الحزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، والنقابة “الاتحاد المغربي للشغل”، والمقاومة “حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير”)، بعدما رفض الحسن الثاني مطلب “المجلس التأسيسي” لإعداد مشروع أول دستور للبلاد.

طرح الحسن الثاني وثيقته الدستورية عن طريق مستشاره القوي، آنذاك، أحمد رضى اكديرة، الذي رفض كل مناقشة لهذه الوثيقة، معتبرا أنه “لا يمكن قبول أن يُملي مجلس تأسيسي على الملك دستورَ مملكته، فيصبح بذلك هذا المجلس أقوى من العرش”، رغم أن أبرز الوجوه السياسية المؤثّرة آنذاك كانوا من جيل الملك الراحل، وعدد منهم كانوا من زملائه أو رفقائه، بمن فيهم المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد.

اتخاذ الحسن الثاني لتدابير أحادية بداعي تقوية “الملكية” في مواجهة “سلطة منافسة”، تتجسد في “الحركة الوطنية”، كان وراء إعلان هذه الأخيرة عن رفضها لأول دستور للمملكة صدر عن الملك في نهاية سنة 1962، مما دفع الحسن الثاني، كرد فعل على هذا الرفض، إلى اتخاذ قرار شلّ المجلس الاستشاري، الذي كان يرأسه المهدي بنبركة، وبعد ذلك بنصف سنة، سيتصاعد غبار ما عُرف بـ”مؤامرة 1963″، التي اعتقل فيها كل أعضاء اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين كانوا مجتمعين يوم 16 يوليوز 1963 بمقر الحزب بالدارالبيضاء، أعقبتها حملة اعتقالات بعدة مدن مغربية أخرى، ليصل عدد المعتقلين إلى حوالي 5 آلاف، قُدّموا للمحاكمة بتهمة التخطيط للإطاحة بالنظام الملكي واغتيال الملك الحسن الثاني في غرفة نومه بالقصر.

تصاعد وقائع سنوات الرصاص، جعلت الحسن الثاني يبادر إلى تشكيل أول مجلس وصاية، لتأمين انتقال العرش إلى ولي العهد محمد السادس، الذي لم يكن عمره آنذاك يتجاوز ثلاث سنوات… خصوصا أن الظرفية السياسية ظلت، خلال سنوات الرصاص، تتخلّلها العديد من التقلّبات العنيفة أحيانا والعواصف السياسية الصاخبة، من قبيل المحاولتين الانقلابيتين لسنتي 1971 و1972، وأحداث 3 مارس 1973، حين اختار قادة “التنظيم السري” لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يوم “عيد الجلوس”، لشن هجوم مسلح ضد نظام الحكم، سرعان ما كسّره الجيش الذي دخل في عملية تبادل للنار مع “مجموعة دهكون ومن معه”، في الأطلس المتوسط في ما عُرف بـ”أحداث مولاي بوعزة.”…

في هذا المناخ العاصف، وخوفا من اغتيال أو تسمم، سيلجأ الحسن الثاني، في 23 ماي 1980، إلى الاستفتاء لإدخال تعديل دستوري على المادة 21 من دستور 1962، يخفّض سن رشد الملك من 18 إلى 16 سنة، ويغيّر رئيس المجلس الدستوري من شقيق الملك الأمير مولاي عبد الله، إلى الرئيس الأول للمجلس الأعلى للقضاء، بعضوية رئيسي مجلس النواب ومجلس المستشارين ورئيس المجلس العلمي لمدينتي الرباط وسلا و10 أعضاء يختارهم ويعينهم الملك.

وكي يهيّء الملك الراحل العوامل الأساسية لتأمين انتقال سلس للحكم… لجأ إلى فرنسا لتضمن ذلك، مقابل خوصصة عدة قطاعات استفادت منها شركات فرنسية، إضافة إلى إصدار عفو عام عن المعتقلين السياسيين بالسجون السرية والعلنية…

وبما أن الحسن الثاني ظلّ حريصًا على إبعاد ولي عهده عن كل ما له صلة بـ”غبار”، أو “رصاص” الزمن السياسي المغربي، فقد ساهم ذلك في تكريس “نظافة يد” محمد السادس من آثار هذه المرحلة، التي حرص ولي العهد نفسه عن النأي عن تقلّباتها، حتى أنه لم يكن خافيا أنه، خلال تسعينيات القرن الماضي، كان يلتقي مع بعض وجوه المعارضة في تداول سياسي ديمقراطي ومفتوح…

ليس معنى هذا أن محمد السادس سينفي كل ما له صلة بوالد الحسن الثاني… يقول، بعد سنتين من تولي الحكم، في حوار مع أسبوعية “باري ماتش”، أجرته معه الصحافية المعروفة آن سانكلير، إن “والدي، رحمة الله عليه، كان يقول متحدثا عني: (هو هو، وأنا أنا). لكل واحد منا أسلوبه وطريقته الخاصة في العمل. لكن المهم هو الهدف”… وتابع يقول “والدي كان يعرف أن لدي وجهات نظر أخرى، لكنه عودنا دائماً على احترام اختلافات الأجيال. فالجيل الجديد يحترم الجيل القائم. وكان رحمه الله يرى أيضا أن الأجيال القائمة يجب أن تحترم الأجيال الجديدة وتعطيها المساحة من أجل أن تعبر عن نفسها وعن حاجاتها”.

ماما فرنسا ودسائس القصر

كان مثيرا أن يكون أول نشاط يقوم به ولي العهد الأمير مولاي الحسن، مباشرة بعد تحرّره من مجلس الوصاية، ببلوغه سن العشرين، هو أن يحضر الذكرى السابعة والستين لتأسيس القوات المسلحة الملكية، ويترأس مأدبة الغداء نيابة عن والده الملك محمد السادس القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية.

والأكثر إثارة هنا هو أن يقوم الملك، أسبوعين قبل ذلك، بتعيين وجه جديد على رأس المفتشية العامة للقوات المسلحة الملكية وقائدا للمنطقة الجنوبية وهو الفريق محمد بريظ، خلفا للفريق أول بلخير الفاروق، الذي كان اقترح على الملك محمد السادس، قبل ثمانية أشهر فقط، إحالة 16 جنرالا برتبة دوديفيزيون ودوبريكاد و32 كولونيل ماجور وعشرات الضباط برتبة كولونيل ورتب عسكرية أخرى، على التقاعد، لضخ دماء جديدة في الجيش والدرك.

وقد يكون كل هذا استعدادا لأول دخول لولي العهد للمؤسسة العسكرية، وتسريع إعطائه رتبة عسكرية، كما كان الحال بالنسبة لجده الملك الحسن الثاني، الذي كان والده المرحوم محمد الخامس قد عينه قائدا للقوات المسلحة الملكية، وترك له بناء الجيش النظامي مباشرة بعد عودتهم من المنفى، حيث اضطر وقتها إلى الاعتماد على نخبة عسكرية مغربية خدمت وتكوّنت وترقّت في الجيش الفرنسي أساسا، كالجنرال إدريس بن عمر والكولونيل محمد أوفقير والقبطان أحمد الدليمي والمارشال محمد أمزيان، الذين سيؤسس بهم الجيش المغربي، ليسحب البساط من تحت جيش التحرير بإدماجه فيه، حيث جرى الاعتماد في هذه العملية على الدكتور عبد الكريم الخطيب، ومعه المحجوبي أحرضان، مما زاد من غضب “الحركة الوطنية” آنذاك.

وعلى مدى 38 سنة من الحكم، عرف الراحل الحسن الثاني كيف يقضي على “المتآمرين” و”الانقلابيين” و”يصنع” مؤسسة عسكرية حديثة واحترافية، ككل الجيوش الاحترافية في البلدان المتقدمة، التي حسمت “نهائيا” مع عهود الانقلابات، التي مازالت سائدة لدى بلدان يعتبر فيها الجيش ركنا أساسيا في المشهد السياسي…

هذا المشهد أي السياسي بدوره تمكّن الراحل الحسن الثاني من “التحكّم” فيه، فجاء بجيوب المقاومة التي تفننت في تعذيب النخب اليسارية وقهرها ورميها في غياهب السجون عبر محاكمات صورية أعدتْ أحكامها في الدهاليز السرية آنذاك، كما تردد ذلك خلال جلسات تصفية ملفات سنوات الرصاص.

ومن خلال ذلك، تحكم الحسن الثاني في مؤسسات البلاد، من المؤسسات السياسية، إلى المؤسسات الأمنية وأجهزتها السرية والعلنية، وخلال هذه المسيرة “التحكّمية”، كان للملك الراحل دسائس يناوش بها “خصومه” وحتى “أعداءه”، بلجوئه إلى اعتماد “حيلة” “تشابه الأسماء” لخلط الأوراق كتعيين المعطي بوعبيد وزيرًا أولَ ليتشابه على الداخل والخارج علاقته بعبد الرحيم بوعبيد، أحد القادة البارزين لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

وهي نفس العملية، التي نهجها الراحل الحسن الثاني، بعد جلبه شخصا اسمه إدريس البصري، نكاية في الفقيه البصري، أحد قادة الاتحاد المنفيين وأبرز المتبنّين لخيار المعارضة المسلحة، بعد تواتر أنباء عن تخطيطه لمحاولة قلب نظام الحكم الملكي، فقام الملك الراحل بدافع الخلط بين أسمي الرجلين بتعيين إدريس البصري على رأس جهاز الاستخبارات في 13 يناير 1973، ثم بعد إحباط أحداث مولاي بوعزة، التي كانت عناوينها تمتد من بنونة ودهكون لتصل إلى الفقيه البصري، سيعيّنه كاتبا للدولة في الداخلية في 26 أبريل 1974…، ثم سيتحوّل إلى اليد اليمنى للملك الراحل الحسن الثاني والرجل القوي في الدولة إلى أن أقاله الملك محمد السادس من منصبه بعد خمسة أشهر فقط من اعتلائه العرش في يوليوز 1999، ليسطع نجم رفيق دراسته فؤاد عالي الهمة، الذي اختاره الملك الراحل الحسن الثاني ليكون في فوج ولي العهد آنذاك، بعد أن أثار انتباهه اسمه العائلي “فدسّه” بديوان إدريس البصري ليفهم عمل أم الوزارات من الداخل.

لم يكن أحد يعرف شيئا، آنذاك، عن رفاق ولي العهد سيدي محمد، إلى أن تولى المُلك، فبدأ المغاربة يتعرّفون على وجوه جديدة من المسؤولين السامين هم فريق دراسة وطفولة وشباب الجالس على العرش اليوم الملك محمد السادس، ومُعدّو مرحلة المُرور السلس لحكم ولي العهد الأمير مولاي الحسن غدًا.

شعار الملك محمد السادس، يقول فؤاد عالي الهمة، هو “ماذا نترك لأبنائنا، ومع من نتركهم؟”، سؤال طرحه رفيق الملك بعد أن خرج للعمل من خارج أسوار القصر، مبررا الأمر بقوله خلال كلمة ألقاها بمدينة وجدة: “عندما مات أبونا الحسن الثاني، وجاء أخونا محمد السادس، رُمِينا في البحر”، في إشارة إلى “مِحن” الفريق الجديد وهو يباشر الدخول إلى معترك الحكم، في ظل إبعاد الملك الراحل لولي عهده من “التورط” في سنوات الجمر والرصاص، واختلاف ولي العهد عن والده الملك، حسب ما صرح به الملك محمد السادس نفسه للصحافية آن سنكلير بقوله “والدي كان يعرف أن لدي وجهات نظر أخرى، لكنه عوّدنا دائماً على احترام اختلافات الأجيال”…

هذا المفهوم كان وراء تلبية القصر لطلب لقاء رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف الراحل إدريس بنزكري، ومعه أعضاء المنتدى خديجة الرويسي وعبد الكريم المانوزي وصلاح الوديع، الذي كان قد لجأ إلى المرحوم محمد امجيد، كي يتوسط لهم في هذا اللقاء، الذي تم في السر ببيت فؤاد عالي الهمة في ماي 2002.

واختلاف وجهات النظر، واحترام الجيل الجديد للجيل القائم، كما قال الملك في حديثه الصحفي، كان وراء عدم تعيين الملك محمد السادس لعبد الرحمن اليوسفي، “عراب انتقال الحكم” بالمغرب، في منصب الوزير الأول، رغم أن حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تصدّر نتائج أول انتخابات تشريعية في العهد الجديد سنة 2002، فلم يستسغ اليوسفي أن يُعيّن الملك مكانه رجلا غير منتمٍ (إدريس جطو)، مما دفع المكتب السياسي للحزب، المجتمع برئاسة اليوسفي، إلى أن يستنكر قرار الملك هذا، الذي اعتبر أنه خروج عن “المنهجية الديمقراطية”، لكن المكتب السياسي سرعان ما ترك “الخروج عن المنهجية الديمقراطية” وراء ظهره ليشارك في الحكومة الجديدة، بداعي أن الحزب لا يمكن أن يترك لجطو مصير الأوراش التي فتحها في عهد اليوسفي، وأن “المصلحة” تقتضي مشاركة الحزب لاستكمال الأوراش المفتوحة…

وظل الراحل عبد الرحمان اليوسفي يحمل هذه “الغصة”، التي أخرجته من السياسة، في قلبه، طيلة 14 سنة، إلى أن بادر الملك محمد السادس بزيارة عبد الرحمان اليوسفي، يوم 17 أكتوبر 2016، بمستشفى الشيخ خليفة بالدارالبيضاء، بعد إصابته بوعكة صحية، وقبّل الملك رأس اليوسفي في شبه “اعتذار”، وفهم اليوسفي أن احترام الملك له، وكذا احترام والده الراحل الحسن الثاني له، كان وراء تفادي الاشتغال مع اليوسفي، حيث أكد له ذلك رفيق دربه محمد بنسعيد أيت إيدر، الذي زاره مع رفيقين آخرين، هما سعيد بونعيلات ومحمد بنحمو كاملي، وهم الأربعة، الذين سبق الحكم عليهم بعقوبة الإعدام في أحداث ومحاكمات مختلفة بعضها من طرف الفرنسيين بصفة هؤلاء مقاومين للاستعمار الفرنسي للمغرب، وأخرى بصفتهم معارضين لنظام الحكم في المغرب.

(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)

ولي العهد الأمير مولاي الحسن.. ملك قبل الأوان!

ليس مولاي الحسن الابن الذي كان يجلس إلى جانب محمد السادس الأب، يوم الجمعة 19 ماي الماضي، بل ولي عهد المملكة العلوية الشريفة هو من كان يجلس إلى جانب محمد السادس الجالس على العرش اليوم، وهو يترأس مجلسا وزاريا به وزراء عابرون في حكومة عابرة في ظل استمرار السلالة العلوية.

فقبل ثلاث سنوات تقريبا، وتحديدا في يوم الاثنين 08 يوليوز 2020، كان لولي العهد مولاي الحسن أول حضور لمجلس وزاري. ومنذ ذلك الحين، لا يُمكن ألا يكون ولي العهد مولاي الحسن قد كوّن فكرةً عن التسيير الحكومي، وراكم خبرةً في التدبير والاحتكاك المباشر بالطبقة السياسية، لقد كان الأمير يحضر ويرى ويسمع ويتتبّع ما كان يُقال في مجالس وزارية في عهد حكومة كان يترأسها إسلاميون، وهو يحضر اليوم ويرى ويسمع ويتتبّع ما يقوله، في مجلس وزاري، وزراءُ حكومةٍ يترأسها رأسماليون، يترأسهم الملك محمد السادس، الذي “سئم” التعامل مع معظمهم، بدليل أنه نفس الملك الذي سبق أن اتهم الحكومات، التي تعاقبت في عهده، ومن بينهم هؤلاء الوزراء، بإفشال النموذج التنموي، ووجه إليهم انتقادات شديدة، هم و”سياسيو” أحزابهم التي تشكلت بأغلبيتهم هذه الحكومات، ولم يكتفِ الملك، في هذا الصدد، بخطاب واحد، بل أفرد لهم عدة خطابات إلى درجة أن قال لهم، بصريح العبارة، إنه ومعه الشعب “لم يعد يثق في الطبقة السياسية”، التي اعتبرها الملك فشلت في كل شيء إلاّ في شيءٍ واحد، خصّص له الملك فقرة كاملة، في خطاب عيد العرش 30 يوليوز 2022، حينما قال إن هناك أشخاصا يهدفون إلى “تحقيق أرباح شخصية، وخدمة مصالحهم الخاصة”.. في تذكيرٍ للطبقة السياسية السائدة اليوم، حكومة ومعارضة، بالسؤال الفاضح والجارح، الذي طرحه الملك مع الشعب، قبل ثماني سنوات، في خطاب العرش لسنة 2014، على هذه الطبقة السياسية “المحتلة” للكراسي، التي تسللت لها بلا كفاءة ولا تجربة، ليأتي السؤال بصيغة مباشرة: “أتساءل مع المغاربة أين هي الثروة ولماذا لم يستفد منها جميع المغاربة؟”.. وكذا ذكّرهم في خطاب آخر للجلوس، كان بين هذين الخطابين، في 29 يوليوز 2017، وعد فيه الجالس على العرش الشعب المغربي بأنه سيطبق المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة، على قاعدة أنه “كما يُطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولا على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة جهات المملكة”، وتابع الجالس على العرش قوله: “إننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب”.

والظاهر أن ولي العهد مولاي الحسن لن يقبل بأن تتمدد هذه الطينة من المسؤولين حتى عهده، ويجب منعها من المرور أو “التسلّل” إلى عهد ملك سيسير البلاد مع جيل “الآيباد”، الذي سيتمكن بنقرة واحدة من الولوج إلى المعلومة، وفق ما ستتيحه البرامج الرقمية، التي تشتغل عليها الدولة اليوم، والتي بدأت بالسجل الوطني الموحد للسكان كملف اجتماعي يحظى بعناية خاصة، والتي لن تنتهي بجعل المواطن يتعامل مباشرة مع الإدارة عبر البوابات الرقمية، التي ستحجب الأشخاص وتغلق بوابات النهب.

بالتأكيد ستفضح الرقمنة هؤلاء المسؤولين والسياسيين وغيرهم من الذين يتنعّمون يمينا وشِمالاً في المال العام منذ عشرات السنين، بل إن المغاربة اليوم مقتنعون أنهم ضحايا لهذه “الحفنة المحظوظة”، كما سمّاها الملك محمد السادس نفسه، من الذين اغتنوا واغترفوا واغتنموا من الريع والنفوذ والفساد والنهب، وراكموا من وراء ذلك ثرواتهم الطائلة والمفاجئة، عبر الاحتيال على مؤسسات الدولة، بتواطؤ مع بعض كبار موظفيها، وعندما تتفجّر بعض فضائحها وتصل شظاياها إلى القضاء، تتم التضحية بصغار الموظفين وبعض أكباش الفداء…

لقد فطن الملك محمد السادس لكل هذا، فانحاز لشباب الربيع المغربي، العربي الأمازيغي، بالخطاب الشهير ليوم 09 مارس 2011، الذي اعتمد مطالب الشارع في خطاباته الموجهة إلى هذه “الحفنة المحظوظة”، التي اغتنت غنًى فاحشا، فيما ازداد باقي المغاربة فقرأ مذقعًا، كما قال أيضا الملك نفسه.

إنها نفس “الحفنة”، التي حظيت بالدعم والحماية حتي في عهد حكومة بنكيران، الذي كان يدعي وحزبه أنه سيحارب الفساد، فوجد نفسه يُشرعن له ويأكل الثوم الذي وضعه في فمه وزير المالية “المطرود” محمد بوسعيد، من خلال دفعه لسن قانون إبراء الذمة سنة 2014، الذي يهدف، حسب ما أقنع به بوسعيد وزير المالية “المطرود” عبد الاله بنكيران أن هذا القانون سيتيح للمغرب استرداد أمواله المُهربة إلى الخارج بطريقة غير قانونية، وسيؤدي ذلك إلى تحسين الوضعية المالية والنقدية للبلاد، فيما الذي تحسّن هو جيوب المُفسدين المقاومين لاصلاحات الملك، وتم بعدها تهريب الأضعاف المضاعفة من أموال الشعب المغربي المنهوبة لوجهات هذه المرة شرقية وآسيوية، تنظاف إلى تلك الملايير المخبأة في الغرب أبناك وبيوت وتحفًا ناذره..

قناعات الملك ومعه بنكيران بخصوص أمر سن قانون “عفا الله عمّن سرق”، كان هدفه وقفَ النهب، ورحيل هؤلاء وابتعادهم عن الإدارة واختفاءهم من الساحة، إلاّ أن هؤلاء ظلوا يتمردون على سياسة وقف النهب، التي دعا إليها الملك محمد السادس، في تحدٍ كبير لتهديداته، واعتقادًا منهم أنه لا تقارير ولا آثار لِما مارسوه من نهب لجيوب الشعب.

والحال أن الدولة كانت تنتظر نهاية رقمنة الإدارة كي تتضح لها معالم هذه الجرائم، وتبدأ في تفعيل الاتفاقيات الدولية، التي تهدف إلى محاربة غسيل الأموال العابر للقارات.

من خلال المعطيات المتوفّرة، أعتقد أن المغرب بات جاهزا لما يمكن اعتباره “20 فبراير ملكية”، يريد من خلالها الملك محمد السادس محاربة عصابة تشتغل بمنطق مافيات الجريمة المنظمة، التي اخترقت دواليب الإدارة، وتحولت إلى نظام قائم الذات، وإلى بنية موازية توظف لفائدتها إداريين وموظفين ورجال سلطة ومنتخبين فاسدين، ناهيك عن استغلال الحاجة والهشاشة والفقر.. وهو ما وفر كل العوامل التي قادت إلى الإفلاس المبين لكل المخططات التنموية…

وأعتقد أن العودة إلى مختلف تحوّلات ومنعرجات هذا المسار ستؤهّلنا لنفهم ماذا تعني إشارات الملك، التي وردت على لسان مستشاريه عبد اللطيف المنوني وعمر عزيمان، اللذين خرجا، في تصريحات صحفية مع وكالة فرانس بريس، ليقولا إن المغرب يتجه نحو ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، ما يعني أن الملك، في الوقت المناسب، سيتوارى إلى الخلف ليترك الحكم وإدارة الشأن العام إلى جهاز تنفيذي تفرزه صناديق الاقتراع في انتخابات يختار فيها الشعب ممثليه.

الرسالة هنا واضحة، وهو أن الملك ماضٍ في طريق التنازل المتدرج عن صلاحياتٍ دستورية وسيادية، كان والده الراحل الحسن الثاني لا يتردد في إرسال أي سياسي أو أي مواطن عادي طالب بملكية برلمانية إلى غياهب السجون والمعتقلات السرية والعلنية.

بمعنى آخر، إن الملك محمد السادس عبّر، شخصيا، عن رغبته في تهيئة الأجواء المناسبة لمرحلة سياسية أخرى يُنتظر أن ينخرط فيها المغرب مستقبلا برؤية جديدة، وبكفاءات جديدة، وبرجالات جدد ليست لهم أي مسؤولية في هذا الفساد الكبير الذي ينخر البلد بالطول والعرض تمهيدًا لحكم ولي العهد مولاي الحسن.

هذا التحوّل النوعي، وهو تحوّل تطوري وطبيعي، قد يدفع بالملك إلى مراجعة دستور المملكة كي يتماشى مع طموحات واستشرافات القصر، التي يجب أن تسبقها، وفق ما ذكره المستشاران الملكيان، إدخال مقتضيات وإصلاحات وتغييرات جذرية تضمن التنزيل السليم والناجع لهذا الشكل الجديد من الحكم في المغرب، بما أن الملك محمد السادس اختار ان ينحاز إلى نظام الملكيات الأوروبية محاولاً الاصطفاف معها، ومع ديمقراطية بلدانها، بعد أن رفض طلب الانضمام إلى “درع الخليج” لـ”حماية الملكيات” المتجمِّعة في مجلس التعاون الخليجي أيام “الربيع العربي”، مفضّلًا الاحتماء بالدستور، والتنازل عن العديد من صلاحياته الملكية، ليختزلها في صلاحيات رئيس الدولة وأمير المؤمنين فقط، في دستور 2011.

يمكن لهذه المراجعة أن تشمل توسيع صلاحيات ولي العهد، وحتى أن تتضمن نصا يمكن من خلاله أن يوكل الملك العرش، في عهده، إلى ولي عهده، خلال مرحلة ما، كما سبق للملك الإسباني خوان كارلوس أن فعل، عندما ولّى نجله الأمير فيليبي على العرش ويتتبع خطواته، أو كما فعل أمير قطر الشيخ حمد مع ابنه الشيخ تميم، مع احتفاظ الملك بصلاحيات “إمارة المؤمنين”، حتى لا يصطدم الملك الشاب بما سبق أن صرّح به أحمد الريسوني، رئيس حركة التوحيد والإصلاح الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية، عقب اعتلاء الملك محمد السادس العرش، حين قال إن الملك شاب غير متزوج ولا يتوفر على الأهلية العلمية لإصدار الفتوى، ولا تتوفر فيه أيضا مقومات أمير المؤمنين، مما دفع بالأمانة العامة لهيئته السياسية إلى إبعاده من رئاسة حركتها الدعوية.

في بداية اعتلائه العرش، قال الملك محمد السادس للأمير مولاي رشيد: “إذا ما تغيرتُ، نبّهني لذلك”. وبعد مدة، سأل الملك شقيقه الأمير إن كان تغيّر، فأجابه مولاي رشيد “نعم بعض الشيء، لكن لا أعتقد أن هذا التغيير كان سلبيا”. لعل الملك تأمّل عميقا في جواب شقيقه، قبل أن يؤكد: “في البداية، كنت أظن أنني سأبقى كما كنت، إلا أن الحكم يغيّر الإنسان، وأنا لا أشكل استثناء للقاعدة”.

*كاتب صحافي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي