شارك المقال
  • تم النسخ

معزوز ينعي السقم السياسي واندحار القيم في “بأي ذنب رحلت”

بناصا ـ نورالدين لشهب

ليست رواية “بأي ذنب رحلت” عنوانا مضمرا لثيمات (Thèmes) استأثرت بالسرد العربي خلال المرحلة الأخيرة التي تتعلق بعلاقة المثقف والسلطة، والدين والسياسة، والمجتمع والدولة، وموقع قضية الإصلاح والتغيير والدمقرطة والحكامة في عملية انتقال السلطة، بل هي انعطافة فلسفية على قضايا دقيقة مرهونة بالماهية والوجود.


إن رواية محمد المعزوز تتصل بتعقيدات النفس الإنسانية التي لها علاقة بالقلق الوجودي وتوترات دواخل الكيان. وإن الرواية تربط السياسة بالتوترات النفسية بين الرؤية والانهيار، وبين التوقد والنكوص، فذلك لأنها تتوخى إماطة اللثام عن السقم السياسي واندحار القيم وموت الإنسان.


وإذا كان الكثير من المثقفين تحدثوا عن الموت، بدءا من موت الإله إلى موت الإيديولوجيا، فإن الكاتب هنا يتحدث عن موت “مطلق الوجود” بلغة هيدغر، الذي يحتل فيه الإنسان العلة الأنطولوجية الأولى.


إن الانعراج على الكشف عن مخبوءات الممارسة السياسة من خلال مكونات القلق والتوتر والشعور بالخواء والضياع لدى الشخوص، هو العصب الأعلى الذي بنيت عليه الرواية لتقرأ السياسة قراءة تراجيدية يتمظهر فيها الخداع الإنساني مدويا كالقدر أو كالفجيعة التاريخية التي تغتال أي ميلاد مختلف ومتجدد للإنسان الوارث لسر آدميته.


إنها عطالة حقيقية لآدمية إنسانية مثمرة، أو هو موت حقيقي للإنسان بسبب طاعون السياسة الموبوءة. لذلك سادت الرذيلة، وتضخم القبح، وتغول صغار الداخل المعممين بالشر، فأصبحوا يسوسون البلاد ويتبوؤون صدارة المنصات والمنابر، كما تمثلهم شخصية رؤوف التي تفننت في قتل السياسة النافعة، وقتل كل معاني البناء المشترك والترفع عن الأنانيات.


لم يستطع رؤوف، وهو شخصية من ورق، أن يغتال السياسة فقط، بل دفع كل الخيرين الذين كانوا يحملون الأمل والإشراق إلى الانهيار والتقوقع في الغربة والاستسلام إلى الوجود، كالانغلاق المرضي في الخوف من حتميات المرض والموت البيولوجي والخمود.

بهذه الصورة رسمت أمامنا الرواية واقعا مأزوما غابت فيه النخب القادرة على التغيير بفعل الانهيار المقيت الذي ألحقته بها الأذرع القوية لرؤوف؛ إذ تمكن رؤوف كمؤسسة مدربة من أن يصنع واقعا غير الواقع الذي كان يحلم به خالد، بل دمر كل شيء فيه، وهو يردد في حضن جيهان بعدما بالغ في شرب النبيذ: آه أيها الاحتراق الذي يسمى الألم.. لماذا عمرنا هكذا يفرح للظلام والموت؟ لماذا هو مجرد استمرار في التعثر والأحلام المستحيلة؟


ويبقى شخص خالد في الرواية هو أمل وطن قد ضاع، لأنه أخطأ التقدير لما طلق زوجته راحيل وقايض القضية السياسية الكبرى بقضية صغرى وهو يرغمها على بيع اللوحة الزيتية دون أن يعي رمزيتها التاريخية والهوياتية، طلقها بمنطق ذكوري بالرغم من شعارات التحرر التي رفعها، لكنه في نهاية المطاف فضل أن ينخرط في لعبة السلطة فانكشف تناقضه وأحرقت ورقته، لذلك لم تستنكف جيهان عن عتابه وتحميله مسؤولية ما جرى كقولها:


حتى الإنسان، ذلك الإنسان الذي كنته أنت ورفاقك، قايض ذات آذار دمه وماء وجهه بكأس شامبانيا وطبق حلوى وعلبة سيكار، استبدل بتاريخه حاضرا مزيفا، فحكى مزكوما عن الاستقرار، ثم استهوى أن يكون الوزير والسفير، فدمر السير وعطل السفر.. آه آذار، ضيع الأفق المضيء، أحرق المخازن والذخيرة، أوقف الفتن والهوى المبرر، فكفر الناس بالطريق… كل الطريق.


لكن طليقته راحيل، بالرغم من قرار انقطاعها عن العزف وقد ألم بها مرض القلب، قررت أن تعيد للأمل وهجه عبر العزف والغناء لمقاومة تصلب القبح والفوات الزاحف، ولأنها كانت تجد في سارتر ودوبوفوار، أو ما جاور أفكارهما، ملاذها حين تتأمل عالم الموسيقى والفلسفة والحريّة والإنسان، كانت تكرر مرارا أن الموسيقى أصل الأصول، أصل الوجود وتكون العالم.


هكذا قررت أن تخاطب العالم مرة أخرى، أن تقاوم غبش الأيام لتمارس حريتها عبر الموسيقى، كما مارستها أمها راشيل عبر الرسم والتشكيل. غير أن أمها راشيل مارست هذه الحرية بإقدامها على الانتحار وترك ابنتها صبية، على خلاف راحيل التي اختارت أن تكون حرة بالعزف والغناء لزرع آخر حبة أمل، دون أن تعلم بأنها ستموت وهي تنهي المقطع الأخير من سمفونيتها أمام جمهور عريض أعجب بها إعجابا منقطع النظير.
خلال هذه المسافات السردية كانت شخصية عبد الله الذي هجر العالم لما انتحرت زوجته راشيل وفقد طفلته (راحيل)، يتأمل العالم والإنسان، والشر والخيانات، تأملا فلسفيا أراد من خلاله أن يجعل من التأمل معنى أقوى من السياسة ومن سذاجة التفكير الذي يمارسه السياسي السطحي المنجذب إلى أضواء السلطة:
لم يدرك أحد أن الرجل وقف عمدا ليرى كيف يضجر الناس، ويرتكبون من أي شيء يزعزع هدوءها المستطاب. ليس هناك أدنى فطنة من لدن هؤلاء لتدبر ما يظنونه عرقلة سير، سيرهم، بالحكمة والاتزان، هرج ومرج، وحركات هوجاء، وصرير كلام مؤذ يتطاير معه بصاق ضار، عادات وسلوكيات أصبحت من طبيعة الأشياء وخاصية عقل فقد جوهره ومعناه.


وتبقى رواية “بأي ذنب رحلت” في آخر المطاف دعوة إلى العودة إلى الفلسفة والجمال لمقاومة القبح واختلالات القيم وتشوه إنسانية الإنسان؛ ذلك أن مثلث السياسة والأخلاق والجمال هو محور مركزي، كما هو مطروح لدى الكاتب محمد المعزوز من خلال الرواية وانشغالاته الثقافية، في سبيل البحث عن الحلول العميقة لأزمة العالم والإنسان، وخلق فضاء مختلف للعيش المشترك تنتفي فيه الأحقاد ويسود فيه الحق والخير والكمال.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي