شارك المقال
  • تم النسخ

د. بنيعقوب يكتب: لمحة عن العمق التاريخي والروحي لعلاقة المغرب بفلسطين وبالقدس: مدخل عام

مقدمة

خلال رحلة بحث في موضوع علاقة المغاربة التاريخية والعريقة وغير المنقطعة مع القدس ومع فلسطين، وجدت صعوبة في العثور في الخزانات الجامعية عن دراسات وأطروحات وبحوث أنجزها باحثون مغاربة، متخصصة في مشاركة المغاربة في الحروب الصليبية تحديدا، وفي أركيولوجية الوجود المغربي في الأرض المباركة. غير أن ما لفت انتباهي هو الكم المحترم من الدراسات والكتب العلمية والمحكمة التي تنجزها أو تشرف على إعدادها وكالة بيت مال القدس الشريف بالرباط، والتي انتجت وجمعت وأعادت نشر عشرات الدراسات والبحوث التي تصب في موضوع علاقة المغاربة بفلسطين.

ولعل الباحث والمطلع على هذه الدراسات القيمة، سيلمس عمق الهم البحثي ودور الوكالة في صناعة معرفة وتراكم علمي حول الموضوع، وحجم الفائدة العلمية التوثيقية تعيد تركيب حلقات مفقودة، من شأن التوسع في إنارة جوانبها علميا وأكاديميا وأيضا إعلاميا، أن يساهم في مقارعة ومواجهة وربما حتى في إخراس كثير من الضوضاء و المغالطات بشأن الموضوع، بل وفي تهدئة بعض النفوس الحائرة لطمأنتها على جذور صمود وثبات موقف المغرب من القضية ككل. فوجدت نفسي أجمع بعض الفقرات المهمة من هذه الدراسات التي أصدرتها وكالة بيت مال القدس الشريف، لأقدمها في هذه الورقة بمراجعها وأحيانا بصيغتها كما كتبها الباحثون المعنيون، لعل المهتمين يعودون إلى ما أشرت إليه من احالات وهوامش قد تساعد الباحثين الجدد في الموضوع، لاسيما على مستوى إنجاز المذكرات والأطاريح الجامعية، ليس فقط من منظور تاريخي وإنما أيضا من منظور العلوم  السياسية ونظريات الدولة والعلاقات الدولية والسلطة وصناعة القرار والإعلام وغيرها..

ومن بين ما أصدرت الوكالة من دراسات هو كتاب الدكتور المؤرخ والباحث الأركيولوجي نظمي الجعبة مدير متحف جامعة بيرزيت بعنوان: “المغاربة في بيت المقدس”[1]. وقد سعى الكاتب وفريق العمل رفقته إلى رصد ما وثقه الرحالة والمؤرخون عن وجود المغاربة في القدس، وعن حضور علمائهم في الحياة العلمية والفكرية في المدينة منذ المراحل الأولى للفتوحات الإسلامية، من خلال رحلات طلب العلم والزيارة والمجاورة بعد أداء مناسك الحج أو قبلها.

تناقش الدراسة أيضا العلاقة الدينية والوجدانية للمغاربة بالقدس، وتلامس دور علماء المغرب وعلاقتهم بالحركة العلمية المقدسية، كما تتتبع أوقاف المغاربة في المدينة. تناول الكتاب أيضا وصفا للآثار المادية للمغاربة في القدس، لاسيما بالحديث عن حارة المغاربة والمدرسة الأفضلية وجامع المغاربة المالكيين وباب المغاربة وغيرها. ومن بين أهم مواضيع الكتاب أيضا هو التعريف بعدد من العائلات الفلسطينية ذات الأصول المغربية، ومن بين هذه العائلات تحدث الجعبة عن آل العلمي، آل المؤقت، آل الغوانمة آل شهابي، آل أبو السعود، آل الدباغ، آل غربية وأبو غربية، آل البديري، آل الريفي، آل القهوجي، آل الهواري، آل فارس، آل العالم، آل المغربي، آل عبد الحق «الفكيكي، آل المصلوحي وغيرها كثير من العائلات،  كما عرج بالوصف على مساهمات الفلسطينيين من أصول مغربية في المقاومة والعمل النضالي الفلسطيني، خلال الفترة الممتدة من سنة 1930 إلى سنة 2014.

القدس عنوان من عناوين التدين عند المغاربة

لم تغب يوما ما، قضية فلسطين والقدس الشريف عن ذهن المغاربة و وجدانهم. المغاربة لهم منظار خاص للقدس الشريف. فهم أهل التصوف ومشايخه، لذلك فهم يبصرون القدس ببصر الشوق الرباني كأرض ميعاد تجمع الخالق بعبده المطيع،  فيها ومنها وبها ارتقى رسول البشرية محمد عليه الصلاة والسلام إلى الحضرة القدسية، ليكون قاب قوسين أو أدنى من الذات الأحدية.

فإذا كان مشايخ ومريدو التصوف يهيمون في القدس بلغة الوجد والشوق، فإن دولة المغرب تنظر للقضية الفلسطينية وللقدس الشريف، كمصير وكقضية بقاء ووجود. فالقدس مرتبطة بصيانة العقيدة التي تعد أحد أهم وظائف أمير المؤمنين ذو النسب الشريف ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين الأمرين مهما كانت الظروف.

وفي غير ما مرة، عبر المغرب عن موقفه وقناعاته تجاه القضية الفلسطينية.. لقد لاحظ كل المتتبعين كيف أن ملك المغرب ودولة المغرب ككل تضع القضية الفلسطينية في مستوى القضية الوطنية الأولى قضية الصحراء المغربية. ويمكن القول أنه ليست هناك أي دولة في المنطقة تضع تحرير دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف طبقا لقرارات الشرعية الدولية في إطار حل الدولتين، في مستوى الدفاع عن وحدة ترابها وحدودها كما يفعل المغرب. لقد جعلت المملكة قضية فلسطين من مستوى ثوابت الأمة المغربية، إضافة إلى ثلاثية الإجماع الوطني، وهي الدين الإسلامي و وحدة تراب المملكة. ولعله بذلك أقوى موقف عربي وإسلامي على الإطلاق، لأنه ربط وجوده البلاد المادي ووحدتها بوجود دولة فلسطين.

لقد ظلت القدس قبلة للمغاربة سواء كموطن ثاني للإقامة، أو كمحطة عبور إلى الحج إلى مكة للتبرك  بالقدس ومعالمها أو للاستزادة من علمائها وفقهائها. من أشهر الزوار للقدس ابن بطوطة الذي سماه الباحثون في كبريات الجامعات العالمية أمير الرحالة. وقد سبق ابن بطوطة إلى القدس القاضي الإمام عبد الله بن العربي في رحلة إلى الخليفة في بغداد بطلب من القائد يوسف بن تاشفين سنة 1092 ميلادية. إضافة إلى ما تركه العالم الجغرافي المغربي الشهير الشريف الإدريسي السبتي من أوصاف لمعالم القدس الشريف عندما زارها شوقا وبحثا عن المعرفة. لقد حظي المغاربة بمكانة متميزة في فلسطين وفي القدس خاصة، فقد كان لهم ممثلا أمام السلطات التي تدير الشؤون العامة وأمام القضاء، وأيضا كان لهم ناظرا يشرف على أوقاف المغاربة التي عرفت ازدهارا كبيرا داخل القدس وفي كل المناطق المحيطة بها. وقفت هذه العقارات بهدف تكوين موارد إنفاق وعيش المغاربة المقيمين في القدس. وكان من أبرز المغاربة الذين حبسوا أوقافا مغربية الشيخ عمر بن عبد الله المصمودي، والمغربية فاطمة بنت محمد بن علي المعروفة بأم سعود،  والحاج قاسم الشيباني المراكشي، والحاجة مريم بنت عبد القادر المغربية، والشيخ عمر المجرد الذي بنى جامع المغرب هناك، تعرض جزء كبير من هذه الأوقاف إلى الهدم أو النهب من قبل سلطات الاحتلال لاسيما بعد 1967.

تشهد على ذلك الرسالة الشهيرة التي توصل بها السفير المغربي في الأردن في شهر مارس/آذار 1977، من السيد روحي الخطيب عمدة بلدية القدس الشريف المحتل، والتي تتضمن وتتضمن معطيات مفصلة حول الوقف المغربي الذي يهدده الاحتلال، مناشدا السلطات المغربية أن تضيف قضية عقاراتها ومواطنيها إلى قائمة القضايا المتعلقة بالقدس وبالقضية الفلسطينية.

وللقدس الشريف عدة أبواب، وللمغاربة منها أشهر باب لكونه هو المدخل الذي كان يعرف في مطلع الإسلام بالباب اليماني، الذي دخل منه النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين أُسري به إلى المسجد الأقصى. باب محاذ لحائط البراق ويقع على السور الغربي للأقصى منه عبر المغاربة ذات تاريخ بعيد ودخلوا، حتى صارت مدخلا للقاصدين والزائرين، ورغم إغلاقه منذ 1967 فإن نسمات التاريخ تعبره كل لحظة وحين لتذكر به ولتربط الماضي بالحاضر والمستقبل.

حضور المغرب في فلسطين لم يكن للذكرى التاريخية، بل هو موقف تجلى في مشاريع عملية ملموسة، كان مظلتها وركنها الرئيس  ترأس الملك الراحل الحسن الثاني لجنة القدس، التي تأسست بتوصية من المؤتمر السادس لوزراء خارجية البلدان الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في جدة سنة 1975، بعدما قرر قادة المنظمة الإسلامية قرر المؤتمر العاشر المنعقد إسناد رئاستها إلى الملك الحسن الثاني ملك المغرب، ثم تولي الرئاسة بعد وفاة الملك الحسن الثاني وريث العرش الملك محمد السادس.

واذا كان الزمن والمواقف التاريخية شواهد إثبات قوية وموثوقة على حضور المغرب والمغاربة في رحاب القدس، فإن الحاضر والواقع يشهد مرة أخرى على وفاء الجيل الجديد من أهل المغرب لنفس القيم والأصالة التي جاء من أجل المغاربة إلى القدس منذ قرون عديدة وشيدوا بابهم واستحقوا حيهم بالقدس.

فوكالة بيت مال القدس المنبثقة عن لجنة القدس التي يترأسها ملك المغرب، هي أحد الروابط المتراصة بين المغاربة الذين دخلوا من بابهم في القدس وبين مغاربة اليوم الذين يمرون عبر كل بوابة تؤدي إلى حماية أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. ما تقوم به هذه الوكالة من دعم للمقدسيين وللفلسطينيين بشكل عام، من خلال مشاريع عديدة ومتنوعة تشمل كل ما له صلة بالتصدي للاعتداءات على القدس وأهلها و بإبقاء القدس منارة للإنسانية وملتقى روحاني سماوي خالد.

أنشأت وكالة بيت مال القدس بمبادرة من الملك الراحل الحسن الثاني منذ ربع قرن عام 1998. بدأت عملها من خلال جمع التبرعات من المؤسسات والهيئات والأفراد. للوكالة دور إنساني واجتماعي كبير، فقد أنجزت مشاريع كثيرة في شتى المجالات كالمساعدات الاجتماعية في قطاعات الصحة والتعليم والثقافة ودعم قدرات النساء. تشتغل الوكالة بتوجيه من الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس، الذي  يدعم الوكالة باستمرار كما تساهم الدولة المغربية بنسبة 86% من مساهمة المغرب للوكالة. ويستمر المغرب في جميع لقاءات التعاون الاسلامي حث الدول الأعضاء للوفاء بالتزامها على دعم الوكالة القدس ودعم أهل القدس.

تضم الوكالة آليات من خلال مكاتبها المركزي في الرباط أو في القدس أو من خلال مكتب التنسيق والمشاريع أو بواسطة لجنة مختصة لدراسة ملفات التمويل، تهتم بالأساس بالتنمية البشرية وبتنشيط الدورة الاقتصادية في القدس، لفائدة الأرامل و الأشخاص في وضعية أو في وضع إعاقة جسدية. ومن أهم أهداف الوكالة هو دعم القضية الفلسطينية وصمود المقدسيين، وهي تشتغل بشكل يومي لإيصال الدعم إلى الفئات المعنية، في إطار دعم ملكي مغربي غير منقطع منذ حوالي ربع قرن.

بعض من فصول تاريخ علاقة المغاربة بفلسطين وبالقدس: نصرة بدون شروط أو متطلبات

يقول المؤرخون أنه عندما كان أسطول صلاح الدين الأيوبي مهددا من قبل الأساطيل الصليبية المتفوقة عدة وعتادا، وكان صلاح الدين قد وصله علم بقوة الأسطول المغربي الموحدي، وعلم بما حققه هذا الأسطول من فتوحات في الغرب الإسلامي، بعث إلى السلطان يعقوب المنصور سنة 1190 ميلادية، يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا وصور وطرابلس الشام. وقد عرف عن الموحدين إنشاء الأساطيل منذ عهد السلطان عبد المؤمن بن علي. وقال المؤرخون أن عدد “قطعها (الأساطيل) وصل إلى 400 قطعة بحرية كانت موزعة بين أهم موانئ مملكته، فكان منها بالأندلس ثانون وبشالي المغرب مائة وفي المهدية مائة وعشرون وفي إفريقية والجزائر مائة”[2]. وكانت الترسانات تعرف بدور الصنعة، ومن ضمنها دار الصنعة بقصر مصمودة وكان يصنع بها المراكب والحراريق المعدة للنقل إلى الأندلس، ودار الصنعة بالحبلات قرب وادي فاس وكان يصنع بها القوارب وصغار المراكب. وكان أمراء البحر يتلقون تدريبا خاصا في شؤون التجديف وقيادة السفن قبل أن يعهد إليهم بمهمة القيادة، حتى صار أسطول الموحدين اعظم أسطول في البحر المتوسط[3].

وقد جاء في وصية صلاح الدين للأمير ابن منقذ عندما اختاره ليكون رئيس بعثته إلى السلطان المغربي[4]: “تستخير الله سبحانه، وتتوجه كيفما يسر الله إلى الجهة الإسلامية المغربية، حرس الله جانبها، ونصر كتائبها ومراكبها، وتستقري في الطريق وفي البلاد من أخبار القوم في أحوالهم وآدابهم وأخلاقهم وأفعالهم، وما يحبونه من القول من نزرة أو جمة، ومن اللقاء منبسطة أو منقبضه، ومن القعود بمجالسهم مخففة أو مطولة، ومن التحيات المتهادات بينهم ما صيغتها وما موقعها، وهل هي السنن الدينية أو العوائد الملوكية؟. ولا تلقه (يقصد السلطان يعقوب المنصور الموحدي) إلا بما يحبه، ولا تخاطبه إلا بما يسره، والكتاب قد نفذ إليه ولم يختم لتعلم ما خوطب به. والمقصود أن تقص القصص عليه من أول وصولنا إلى مصر.. وما جرى لنا مع الفرنج من الغزوات المتقدمة.. وما أعقبها من كسرتنا لهم الكسرة الكبرى، وفتح البيت المقدس، وتلك على الإسلام منة الله العظمى، وإلى غير ذلك من أخذ الثغور، وافتتاح البلاد، وإثخان القتل فيهم والأسر لهم، واستنجاد بقيتهم لفرنج المغرب، وخروج نجداتهم وكثرتها وقوتها.. وتذكر ما دخل الثغر من أساطيلنا ثلاث مرات، واختراقها مراكبهم وهي الأكثر، ودخولها بالميرة بحكم السيف الأطهر، وأن أمر العدو ذلك قد تطاول..”[5].

ومما جاء في رسالة صلاح الدين الأيوبي إلى السلطان الموحدي المنصور الذهبي التي تلقاها في مدينه فاس: “الحمد لله الذي استعمل على الملة الحنيفية من استعمر الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجرى على يده النافلة والفرض، وزين سماء الذراري التي بعضها من بعض، أما بعد فإن الغرب مستودع الأنوار وكنز دينار الشمس، ومصب أنهار النهار، ومن جانبه يأتي سكون الليل.. استصرخ الكفار بالكفار فأجابوهم رجالا وفرسانا وشيبا وشبانا وزرافات ووحدانا، وبرا وبحرا ومركبا وظهرا ومنهم ملك الألمان الذي خرج في جموع ملأت الفجاج.. وربا وصل بهم إلى عكا في البحر تهيبا أن يسلك البر.. ولما كانت حضرة سلطان الإسلام وقائد المجاهدين إلى دار السلام أولى من توجه إليه الإسلام بشكواه وبثه، واستعان به على حماية نسله وحرثه.. كان المتوقع من تلك الدولة العالية والعزمة الغادية مع القدرة الوافية والهمة الهادية أن يمد غرب الإسلام المسلمين بأكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين فيملأها عليهم جواري كالأعلام.. وشواني كأنها الليالي مقلعة بالأيام.. تطلع علينا معشر الإسلام آمالا وتطلع على الكفار آجالا.. وقد سير لحصن مجلسه الأطهر ومحله الأنور الأمير الأصيل سفير الملوك والسلاطين أبو الحزم عبد الرحمان بن منقذ كتب الله سلامته..”[6].

وعلق الباحثون[7] على صيغة وأسلوب الرسالة بكونها تدل على “مقام المبعوث إليه وهو سلطان المغرب أمير المؤمنين أبو يوسف يعقوب المنصور، كما تطلعنا الرسالة على جوانب معرفية غاية في الأهمية تتجلى في المكانة التي كان يحظى بها سلطان الموحدين بالمشرق، من خلال خطابه بسلطان الإسلام وقائد المجاهدين إلى دار السلام”[8]. كما تكشف هذه الرسالة على تعظيم المشارقة لأساطيل الموحدين، لقولها: “أن يمد غرب الإسلام المسلمين بأكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين، فيملأها عليهم جواري كالأعلام”[9]. وقد قام ابن المنقذ سفير صلاح الدين بنظم قصيدة تثني على السلطان المغربي، ومما جاء فيها[10]: ” إلى معدن التقوى إلى كعبة الندى… إلى من سمت بالذكر منه الأوائل

إليـك أمـير المؤمنين ولم تـزل… إلى بابك المأمول تزجي الرواحل

قطعت إليك البر والبحر موقنا… بأن نـداك الغمـر بالنجـح كافل

وحـزت بقصيـدك العـلا فبلغتها… وأدنى عطاياك العـلا والفضائل”.

فجهز السلطان المغربي مائة وثمانين سفينة كان لها أثر قوي على منع النصارى من سواحل الشام كما يقول ابن خلدون[11]. وكان ضمن الاسطول عدد من المغاربة مكث عدد منهم بالقدس، كان فيهم الصناع والعمال والفقهاء من أمثال أبي الحجاج يوسف بن محمد المعروف بـ “ابن الشيخ”، الذي غزا بالمغرب مع الموحدين وبالشام مع صلاح الدين. ولعل أحسن تعبير أدته الشام اعترافا بجميل العاهل المغربي هو ذلك المشهد الذي أقامته للمنصور على مقربة من دمشق على ما عند ابن خلكان وابن بطوطة. وعندما حقق صلاح الدين آماله في إبعاد الخطر عن بيت المقدس، أذن لمن يريد من المغاربة بالعودة إلى ديارهم، لكنه كان بحاجة إلى بعض منهم ممن كانوا يفضلون بدورهم البقاء بالشام استعدادا للطوارئ. وفعلا استقر في مدينة القدس الشريف جزء من المغاربة الذين شاركوا في حملات صلاح الدين البرية والبحرية، وهو ما كان له دور في توسيع الوجود المغربي في المدينة المقدسة[12]، وفي نشر المذهب المالكي والتصوف المغربي.

وتقول تقديرات المؤرخين[13]، أن خمس جيش القائد الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي لمواجهة الصليبيين في القدس، كان من المغاربة، الذين قدموا أواخر القرن الثاني عشر الميلادي إلى المنطقة عبر 180 سفينة جهزها سلطان المغرب حينها يعقوب المنصور الموحدي، فكان الانتصار العسكري على جيوش الصليبيين القادمة من عواصم الإمبراطورية الرومانية، من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والجزيرة الإيبيرية وغيرها من بلدان أوروبا. وكانوا قبل ذلك قد ساهموا في انتصارات  معركة “حطين” سنة 1187 ميلادية. وتقول الشواهد التاريخية أن صلاح الدين الأيوبي تمسك بالمغاربة الوافدين وأقامهم بشكل دائم في المدينة المقدسة، بل إنه وهب لهم أرضا صارت فيما بعد تعرف بحارة المغاربة، وقال فيهم مقولته الشهيرة “أسكنتُ هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يُؤتـَمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة”، فقاموا بعد ذلك بتوقيف عقارات في القدس وبنوا المساجد والزوايا الصوفية وتقلدوا المناصب، وكان لافتا تمسكهم بالمذهب المالكي والإفتاء به في أرض فلسطين وبالتصوف كسلوك تديني معتدل[14].

ختاما ذلك الطريق الطويل والشاق، الذي تأسس عبر قرون سحيقة، والذي وثب عبره المغاربة الأجداد وجدا وشوقا وانتصارا لأرض المسجد الأقصى، هو نفسه الطريق الذي يركبه المغاربة الأحفاد اليوم، ولم يبدلوا تبديلا، لفك قيود الأسر عن أرض فلسطين.. مغاربة اليوم يعيدون رسم معالم متجددة للعبور إلى هناك.. عبور كل المبادرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم بها المملكة عبر لجنة القدس وعبر وكالة بيت مال القدس.. معالم بلغة الواقعية والوجود الملموس والثقة في الذات وفي المستقبل، في كل شارع من شوارع فلسطين، وجود شعاره الوفاء لجيل مغاربة حارة المغاربة هو مسير مرير ومستمر منبعه التاريخ والعقيدة ومبتغاه الحرية والكرامة..

*باحث في علم الاجتماع السياسي


[1] المغاربة في بيت المقدس، دراسة من إنجاز الدكتور نظمي الجعبة وفريق الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية (مؤسسة باسيا) بالقدس، منشورات وكالة بيت مال القدس الشريف، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الثانية: 2021، الرباط.

[2] محمد الصديق الحافظي، الرباط فـي القدس توثيق لما تفرق بين الرحلات المغربية عن قيم القدس وفضائلهـا، منشورات وكالة بيت مال القدس الشريف، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2023، ص: 21-25

[3] عبد العزيز بنعبد الله، القدس تاريخيا وفكريا، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، مارس 1981، ص: 17.

[4] محمد الصديق الحافظي، الرباط فـي القدس…، مرجع سابق.

[5] نفس المرجع السابق.

[6]بوشتى بوكزول، المغاربة والقدس جوانب من العلاقات التاريخية، الطبعة الأولى، طوب بريس، الرباط، 2015، ص: 76-77.

             [7] محمد الصديق الحافظي، الرباط فـي القدس،…  مرجع سابق.

 [8]                  نفس المرجع السابق.   

[9] محمد الصديق الحافظي، الرباط فـي القدس،…  نفس المرجع السابق

[10] عبد الحميد المودن، عبد الرحمان محمد مغربي، المغاربة في القدس الشريف نموذج من التعاون المغربي الفلسطيني”، الذاكرة التاريخية المشتركة المغربية – الفلسطينية، الجزء الأول، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، 2018، ص 95.

[11] عبد الهادي التازي، أوقاف المغاربة في القدس، ذكره محمد الصديق الحافظي، الرباط فـي القدس، مرجع سابق.

[12] محمد الصديق الحافظي، الرباط فـي القدس…، مرجع سابق، ص: 25.

[13] “حارة المغاربة.. وصية صلاح الدين الأيوبي الحيّة”، بتاريخ 26 يناير 2023، الرابط:

https://shorturl.at/Pq9JM

[14] مجير الدين العليمي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، إعداد وتحقيق ومراجعة: محمود عودة الكعابنة، المجلد الثاني، الطبعة الأولى، مكتبة دنديس، 1999، عمان، الأردن، ص: من 361 إلى 369.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي