شارك المقال
  • تم النسخ

حمودي يكتب: فشل نموذج التنمية.. في الحاجة إلى إصلاح جوهري للمنظومة الوطنية

عبد الله حمودي*

سمعنا الكثير عن فشل نموذج التنمية الذي ساد في البلاد إلى حد الآن. جاء ذلك بصريح العبارة في تصريحات عاهل البلاد، بعدها حصل شبه إجماع على ذلك الفشل من طرف النخبة الحاكمة. 


هذا الإجماع ركز في الحقيقة على نقط أساس: إخفاق في توزيع عادل للثروة المنتوجة من حيث أن الشرائح الكبرى من المواطنين والمواطنات لم تستفد من تلك الثروة بقدر يحسن وضعيتها المعيشية. 


كذلك فإن مناطق عديدة بالمملكة لم تعرف تنمية إنتاج بقدر يُلبي الحاجيات اليومية التي تُعد من حقوق الإنسان. وقد حصل الإجماع على الفوارق الجد مرتفعة بين الشرائح التي اغتنت، والشرائح الأوسع التي اتسمت وضعيتها بالركود أو تجذر الفقر فيها بصفة مقلقة. وأخيرا تظمن هذا الإجماع معضلة تشغيل الشباب التي تتجلى في الأعداد المهولة للعاطلات والعاطلين والتي تغذي مشاعر الإحباط، وديناميات الاحتجاج المتواصلة، وحركة الهجرة إلى الخارج. 


في خضم تساؤلات عديدة، كنا على موعد مع الخطب الملكية التي هي المرجع الوحيد للسياسات. وكذلك لكون الملكية، بعد أخذ زمام المُبادرة في تسيير المشاريع الكبرى للبلاد، تصدرت الجواب مباشرة على المطالب الشعبية المُلّحة. وقد تأكد هذا التحول مع الانتقادات التي وجهها الملك للإدارات كما للؤسسات التمثيلية والأحزاب السياسية، وتنظيمات الوساطة بين المواطنين والدولة. 

في هذه الظروف حدد العاهل الحلول بشأن علاج مكامن الفشل، وذلك في خطاب 12 أكتوبر 2018، والذي تظمن مبادئ وتدابير بهدف علاج المشاكل الراهنة. 

1– توجيهات وتدابير: 

أ- قيم ومبادئ: 

هذه القيم والمبادئ تؤسس لتصور نموذج هدفه تفادي ثغرات النموذج السابق. والمبدأ الأول هو العمل الجماعي الجاد والسمو فوق الفوارق الاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق نتيجة جماعية حيوية، ألا وهي إدماج الطبقات التي لم تستفد لحد الآن من عائدات النمو، والطبقات الفقيرة بالخصوص. ومن أهداف هذا العمل الجماعي معالجة مشكل البطالة خاصة في صفوف الشباب. 

والقيمة الأخلاقية والإجتماعية التي ركز عليها الخطاب الملكي هي التضامن والوئام، و”الأخوة المتجذرة في القلوب”. 


ب – تدابير: 


تكليف لجنة خاصة بجمع المساهمات التي توصلت بها الدولة من أطراف متعددة. ومهمة هذه اللجنة هي تدارس تلك المساهمات بهدف رفع مشروع النموذج التنموي الجديد إلى نظر الملك. ويدخل عمل هذه اللجنة في “إعادة النظر في النموذج التنموي الوطني وبلورة منظور جديد يستجيب لحاجيات المواطنين وقادر على الحد من التفاوتات، وتحفيز الهيئات السياسية على تجديد أساليب عملها” بالدعم العمومي لفائدة الفعاليات التي تقوم بالتفكير والابتكار داخل تلك الهيئات. هذا وقد أشار الخطاب إلى أن مهمة البرلمانيين “ثقيلة” و”نبيلة”. 
التضامن الاجتماعي: تبسيط المساطير وتشجيع الأعمال الخيرية ومساهمات الخواص والمقاولات في هذا التضامن. 

الاعتناء بالشباب: الأولوية هنا التكوين المهني الذي يصفه الخطاب الملكي بالميدان “الواعد”، والهدف هو الإدماج. وفي هذا الباب تدخل الخدمة العسكرية التي تهدف هي أيضا التكوين وكذلك التربية على قيم الوطنية. 

الإعتناء بالشباب وتشغيله: يبدو أن الخطاب الملكي منح الأولوية في هذا الباب للقطاع الفلاحي بالمقارنة مع التدابير التي أتى بها في ما يخص الميادين الأخرى. ويتجلى ذلك في اهتمام أكبر بالتفاصيل العملية بحيث اعتبر القطاع الفلاحي بمثابة “خزان” يتعين أن تكون له دينامية أقوى في ما يخص التشغيل وتحسين ظروف العيش في العالم القروي. 

وأشار العاهل إلى أن ذلك الخزان يحتوي على مليون هكتار من الأراضي السلالية التي يجب إصلاحها بتمليكها، وذلك بهدف رفع الإنتاجية. 

وقد أشار الخطاب أيضا إلى مشكل تقسيم الأراضي الفلاحية الذي يتسبب في ضعف الإنتاجية. 
في هذه النقطة أوصى الخطاب الملكي بإيجاد حلول “مبتكرة” للتحفيز على الانخراط في تعاونيات منتجة ومتابعة التكوين في المجال الفلاحي. وكذلك فقد أوصى الخطاب الملكي الحكومة بالاهتمام بمنتوجات الفلاحين الصغار. 

والغاية المنشودة من وراء هذه التدابير والتوصيات تتلخص في انبثاق طبقة وسطى فلاحية تكون “عامل استقرار” و”توازن”. 

أخيرا أشار الخطاب الملكي إلى إمكانية الترخيص لصالح الأجانب في مجالات ليست مرخصة لهم لحد الساعة من بينها المصحات. 

2– مناقشة: 

هذه مناقشة أولية فقط، في انتظار الأفكار والإقتراحات التي سوف تخلص إليها اللجنة الخاصة المعلن عنها، وأؤكد على أن الملاحظات التي سوف أدلي بها قد أردتها من باب المناقشة الإيجابية. إنها أولا وقبل كل شيء مناقشة مجموعة من التدابير ورهاناتها بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا جميعا. لهذا يظهر جليا أن التدابير التنموية تطرح من جديد مشكل الإصلاح بما في ذلك إصلاح منظومة الحكم. وإذ يحتم الموقف أن أتطرق لموضوع إصلاح هذه المنظومة، فإني أقوم بذلك في إحترام تام للمؤسسة الملكية كنظام في حد ذاته من بين الأنظمة التي تسوس الشعب، وإحترام تام لدور الجالس على العرش وشخصه من حيث هو رمز. وذلك لأن الملكية، في نظري، هي أولا وقبل كل شيء فكرة تتجسد في تركيبات بملامح تختلف حسب الزمان والمكان. وما رمت مناقشته هو بالضبط التركيبة الحالية وليس مبدأ الملكية من حيث هي  رمز الكيان المغربي وضامن وحدته وسيادته. 

أ- إن تشجيع الهيئات السياسية على “تجديد أساليب” العمل هدف محمود وحيوي. لكن يبقى الإشكال في الوسيلة. في هذه النقطة أستاءل: من ناحية النجاعة، هل الدعم يكون أنجع من رفع الضغوط التي تمارس ضد حرية التفكير والتعبير؟ أليس تقنين استفادة متساوية من سوق الإشهار لصالح صحافتها اليومية والأسبوعية والشهرية كفيل بتحسين مواردها والاستغناء عن دعم الدولة؟ أليس احترام استقلالية الأحزاب من أنجع الوسائل لتحسين أدائها وأساليب عملها؟ وهناك وسائل أخرى منها تخفيف الضرائب على ممتلكات الأحزاب وهيئات المجتمع المدني، أو رفع تلك الضرائب. وفي جميع الأحوال، فإن تقديم الدعم للأحزاب ينال من إستقلاليتها، وفي حالات ليست بقليلة يؤدي إلى ممارسات مشبوهة في تسيير أموال الدعم. 

ب – سوف ننتظر الإجراءات العملية في موضوع مساهمة الخواص والمقاولات في ميدان التضامن، ونمسك عن إعطاء رأي في هذه النقطة ما دامت الإجراءات العملية لم تطرح بتحديد في الفضاء العمومي. 

وأما الأعمال الخيرية، فإنها أعمال حيوية ومحمودة، ونتمنى المزيد منها على الدوام. ومع ذلك فإنها لا تمثل أعمالا تنموية إلا هامشيا. ونعقد الآمال على تسريع وثيرة النمو والتشغيل بهدف الاستغناء ما أمكن عن المساعدة الخيرية والتبرع. 

ت – معروف أن ميدان التكوين المهني ميدان كبير ضمن ميادين التربية والتعليم وقد يساهم في الإدماج والتنمية. مثله في ذلك مثل الخدمة العسكرية. وخلافا للتكوين المهني فإن الخدمة العسكرية تؤهل عامة المواطنين للدفاع المسلح عن حوزة الوطن. 

وقد يشكو ميدان التكوين المهني من مشاكل تشبه مشاكل المنظومة التربوية بأكملها، ونجاحه متوقف على إصلاحات ناجعة. 

ج – يبقى أن الأولية في الخطاب الملكي ترجع إلى القطاع الفلاحي مع احتمال وجود مليون هكتار على الأقل من الأراضي السلالية التي يفترض تشجيع الاستثمار فيها بوسيلة التمليك. 

وعلى الوزارة المعنية – أي وزارة الفلاحة – تقديم الأسس الواقعية التي ينبني عليها ذلك الإحتمال. ولكن الملاحظ لحد الساعة هو انتشار استغلال مساحات عديدة من الأراضي السلالية من طرف الخواص، وباستغلال فرشة الماء العادية والجوفية. نقف على أعداد كبيرة لإستثمارات من هذا النوع الجديد في جهة مراكش، وفي مناطق تادلة، وضواحي ورزازات، وسوس، وغيرها. 

ويبدو أن هذه العمليات تخص طبقات ذات الإمكانيات المالية، وتزيد في ديناميات النزوح إلى المدن والهجرة بصفة عامة. وقد يضع ذلك إمكانية انبعاث طبقة وسطى قروية موضع تساؤل. 

3– استنتاجات: 

أ- نموذج جديد يحل محل نموذج فاشل؟ 

يظهر أننا، في حقيقة الأمر، أمام تعديلات لنظام اقتصادي واجتماعي قائم، منذ مدة، ولم يتغير هذا النظام في عمقه: نظام يعتمد على التحديث في مجالات معينة قصد رفع الإنتاجية والزيادة في الثروة. تكرس هذا النظام أكثر فأكثر مع اختفاء نماذج التنمية المندمجة والمتكاملة كما كان يتعارف عليها إلى حدود أواخر السبعينات من القرن الماضي. والتي انمحت أكثر من الأذهان مع سقوط جدار برلين والتقويم الهيكلي الذي خضع له الاقتصاد المغربي. 

فليس هناك على ما يظهر نموذج جديد أو قديم، لكننا نعيش تحت نظام يدفع بإنجاز الثروة في مجالات معينة ليبقى ملك الثروة بيد طبقات محظوظة وصغيرة الحجم ديمغرافيا، مع توزيع متواضع لفائدة الطبقات المتوسطة وتفاقم فادح للفوارق الاجتماعية، وتجذر الفقر في الأوساط الشعبية. 

إنه نمو بالمعنى الذي حاولت تحديده، وليس تنمية بالمعنى المندمج والذي من المفروض أن تتكامل فيه القطاعات المعروفة (الفلاحة، الصناعة، المعادن، السياحة، التجارة، الخدمات، الثقافة، إلخ). 

فالمنظومة الاقتصادية في حقيقة الأمر منظومة نمو (ورفع الانتاجية في مجالات) وليست منظومة تنموية بالمعنى المندمج والمدمج لشرائح أغلبية المواطنين. والتعديلات التي تروم التدابير المعلن عنها إدخالها، تعديلات جزئية لا تكون نموذجا جديدا للتنمية. 

ب – حل مشكل التشغيل بالإعتماد على القطاعات الأخرى بدل جزء من القطاع الفلاحي . 

يبدو أن القسم المذكور من القطاع الفلاحي يمكن أن يدمج أعدادا من الشباب. ولكن القطاعات الواعدة قد تكون في الصناعات الجديدة: صناعات غذائية تغزو الأسواق العالمية الغنية (في أوروبا، الولايات المتحدة، الصين مثلا)، صناعات إلكترونية ومعلوماتية، وصناعة الحاسوب بما فيها الإفتراضية، منتوجات ثقافية. ويظهر أن من بين الصناعات الغذائية الواعدة تحويل المواد البحرية من أسماك وغيرها. لكن شريطة إصلاح شامل لهذا الميدان يتيح الاستثمار الممنهج من طرف مقاولات متوسطة وصغيرة ومحاولة القضاء على المضاربات والمبادلات في أعالي البحار… 

وهذه أمثلة فقط. وقد تتوفر البلاد على موارد أخرى. وتتوفر كذلك على الأدمغة والأيادي القابلة للتعلم السريع الجاد إن توفرت لها المحفزات: رواتب معقولة، ولوج مناصب على قاعدة الكفاءة وليس الروابط العائلية أو القرب من دوائر النفوذ السياسي. 

وكذلك توفير أجواء الحرية التي تلائم حياة الشباب وتشجيع المبادرة والابتكار. 

وهناك أسواق أخرى مثل الأسواق الإفريقية والتقدم الحاصل اليوم في ولوج منتوجات مغربية إلى تلك الأسواق مؤشر على الإمكانيات الموجودة. 

ت – حلول جديدة أم حلول تقادمت؟ 

إن التدابير المطروحة تشبه حلولا قديمة طبقت خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي: أي الرفع من الإنتاجية وزيادة الثروة المنتوجة في مجالات معينة وبتقنية حديثة: والمثل المعروف هو سياسة السدود والزراعة العصرية السقوية مع امتداداتها في صناعات غذائية. 

أعطت هذه السياسة أكلها في مجال نمو الثروة وساهمت في تحديث البلاد. وكان لها تأثير إيجابي على قطاعات أخرى. لكن ذلك كله حصل مع تفاقم الفوارق الاجتماعية واتساع حاد للهوة بين المحظوظين والطبقات المتواضعة والفقيرة، وقد ساهم كذلك في توسيع الهوة بين مناطق الاستثمار الكثيف وأغلبية المناطق التي ظلت مهمشة. 

هناك قولة شهيرة للملك الراحل الحسن الثاني سمعناها قبل الثمانينات من القرن الماضي مفادها أنه يجب إغناء الفقير دون إفقار الغني. 

وقد بينت التجربة أن الأغنياء اغتنوا أكثر فأكثر بينما أصاب الركوض – بالمقارنة – وضعية المتوسطين والفقراء. 

ويبدو أن المنطق نفسه لازال سائدا في المنظومة السياسية والاقتصادية للبلاد. وليس في التدابير التي لخصنا ما يضمن التقليص من الفوارق التي تغذي اليوم الحركات الاحتجاجية القوية والمتواصلة في بلاد أصبحت أغلبيتها تسكن المدن أو تنزح إليها، وفقد فيها العالم القروي وزنه السياسي القديم. 

خلاصة: 

إن إصلاح جانب من القطاع الفلاحي قد يضمن تشغيل عدد من الشباب. لكن التنمية التي يمكن أن تضمن تشغيل الغالبية الساحقة للعاطلين لا بد وأن تبحث في سبل تنمية قوية في قطاعات أخرى، وبنظرة تكاملية. 
والنهوض هذا رهين بتحرير الاقتصاد من شبه الاحتكارات الفعلية، والمحسوبيات والريع بصفة عامة. وقد بشر العاهل المغاربة بمحاربة الريع في الأقاليم الصحراوية. لكن الريع منتشر في جميع أنحاء البلاد والقطاعات. ولا مناص من إصلاحات جوهرية للقضاء على الريع والبطالة والفقر وعواقبهما. 

والملاحظ أن المؤسسة الملكية، علاوة على دورها القيادي المعتاد، في قطاعات كبيرة، قد تصدرت عملية الجواب على مطالب الحراكات الشعبية بشكل مباشر، وذلك بعد تراجع دور الإدارات، ونظرا لضعف الهيئات التمثيلية المحلية والبرلمان. 

هذه الحالة الغير مسبوقة أظهرت بجلاء أن أي إصلاح جوهري للنظم السياسية والاقتصادية يمر عبر إصلاح المؤسسة الملكية لنفسها. 

*أستاذ بجامعة برينستون، الولايات المتحدة الأمريكية، وأستاذ سابق بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي