شارك المقال
  • تم النسخ

تداعيات اغتيال سليماني على الوجود العسكري الإيراني في سورية وحدود التصعيد

أيمن الدسوقي

تمهيد

تصدّر اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، المشهد السياسي والإخباري على مدى الأيام الماضية، حيث كثرت التوقعات حول ردّ الفعل الإيراني على هذا الاغتيال، وحدود التصعيد مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، والساحات المرشحة لذلك، فضلًا عن تداعيات الاغتيال على الوجود الإيراني العسكري خارج حدود إيران، ولا سيما في الساحة السورية، إثر بروز معطيات ميدانية على تحركات إيرانية في بعض نقاطها العسكرية. وبناءً عليه، سنعرض أبرز مراحل الوجود الإيراني في سورية، منذ بدء حركة الاحتجاجات في عام 2011، وتحلل حركة النقاط العسكرية الإيرانية الرئيسة في الجغرافيا السورية، وما تحمله من مؤشرات ودلالات، إضافةً إلى اختبار فرضية التصعيد الإيراني مع الولايات المتحدة في سورية، وعلاقة إيران بحليفَيها، النظام السوري وروسيا، بعد هذا الاغتيال.

مسار الوجود العسكري الإيراني في سورية منذ عام 2011

تُعتبر سورية بمنزلة “حجر الزاوية” في استراتيجية إيران المتعلقة بالتمدد الإقليمي، وإنجاز هيمنتها وفق مخيالها الإمبراطوري، وهو ما يفسّر دعمها اللامحدود للنظام السوري في مواجهة حركة الاحتجاجات الشعبية في مطلع ربيع عام 2011، حيث عملت إيران على توفير الدعم الفني والاستشاري لقوات الأمن السورية بغرض إخماد المظاهرات، ليتطور دورها، بحلول آذار/ مارس 2013، من خلال تأسيس قوات تعبئة رديفة للجيش، تحت مسمى “الدفاع الوطني”، والعمل لاحقًا على تشكيل ميليشيات محلية، واستقدام أخرى من خارج الحدود، إلى جانب قواتها من الحرس الثوري؛ إذ بلغ مجموعها بحلول عام 2015 ما يزيد على 100 ألف مقاتل، بحسب ادعاء بعض المصادر[1].

وظّفت إيران ميليشياتها في المجهود الحربي، الذي قادته موسكو ضدّ فصائل المعارضة، بعد تدخلها المباشر في أيلول/ سبتمبر 2015. وعلى الرغم من مساهمة هذا التدخل في درء مخاطر سقوط النظام، وتعزيز نطاق سيطرته الميدانية بشكل تدريجي، فإنه شكّل قيدًا على الحركة الإيرانية في الجغرافيا السورية، دافعًا إياها منذ عام 2017 إلى شرعنة قواتها غير الرسمية وحمايتها، عبر قوننة وضع قواتها للدفاع المحلي تحت مسمى “الجيش الشعبي”[2]، ودمج بعض ميليشياتها في الهياكل الرسمية للجيش، كما حدث مع دمج لواء الإمام الحسين في تشكيلات الفرقة الرابعة[3]، إلى جانب الحرص على تسوية وضع المجندين الشيعة السوريين العاملين مع حزب الله ضمن قطعات الجيش النظامية، وإن بَقُوا تحت ولاية الحزب[4].

أعادت إيران تنظيم الوجود العسكري لقواتها وانتشارها في عام 2018، بعد انحسار خطر تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتحت ضغط الضربات الإسرائيلية المتكررة لنقاطها، وتماشيًا مع الترتيبات الميدانية الناجزة بين أطراف إقليمية ودولية، ولا سيما في الجنوب والشمال الغربي السوري، ليبقى التساؤل قائمًا حول شكل هذا الوجود وطبيعته، في ظل احتمالات التصعيد مع الولايات المتحدة في سورية، بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد، بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 2020.

الوجود العسكري الإيراني في سورية بعد اغتيال سليماني

مرّت أيام على اغتيال سليماني، وتعيين نائبه، العميد إسماعيل قاني، مكانه قائدًا لفيلق القدس. ولئن كان من المبكّر الحكم على تداعيات الاغتيال على التموضع العسكري الإيراني في سورية، فإنّ هنالك معطيات ميدانية لا يمكن إغفالها بدأت تتمظهر في بعض مناطق الانتشار الإيراني بعد الاغتيال. وبناءً عليه، سيتم عرض أهم النقاط العسكرية لإيران في الجغرافيا السورية، وقراءة التغيّرات التي طرأت عليها بعد عملية الاغتيال.

تُظهر المعطيات الميدانية تغيّرات مكثفة طرأت على الوجود العسكري الإيراني في محافظة دير الزور، حيث شهدت ستّ نقاط عسكرية رئيسة – نصفها في البوكمال – من أصل تسع نقاط، تغيّرات متباينة. كما امتدت التغيّرات إلى أربع نقاط عسكرية من أصل سبع نقاط في محافظة حمص، في حين كان التغيّر محدودًا جدًا على مستوى محافظة حلب، حيث شملت موقعًا عسكريًا واحدًا من أصل سبعة مواقع. في المقابل، لم تُلحظ تغيّرات بعدُ على النقاط العسكرية الإيرانية في محافظات دمشق وحماة ودرعا والرقة، عقب اغتيال سليماني.

أما عن طبيعة المناطق التي امتدت إليها التغيّرات، فكانت مستودعات للأسلحة تستخدمها الميليشيات الإيرانية، كما في البوكمال والميادين ومطار التياس وبحيرة قطينة في حمص، أو مطارات توجد فيها قوات إيرانية، أو يستخدمها حزب الله، كما في مطارات الحمدان في دير الزور والضبعة في حمص والنيرب في حلب.

كان الجزء الأكبر من التغيّرات التي امتدت إلى النقاط العسكرية الإيرانية من نصيب النقاط التي توجد فيها قوات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، ومن الميليشيات الشيعية الوافدة من الخارج، حيث تم سحب هذه القوات، والاستعاضة عنها بقوات محلية موالية لإيران، من تشكيلات الدفاع المحلي أو الفرقة الرابعة.

الجدول (1)

التغيّرات التي طرأت على أبرز المواقع العسكرية الإيرانية في سورية بعد اغتيال سليماني

المحافظةالمدينةالموقعقوى محليةقوى أجنبيةالوضع بعد اغتيال سليماني
دير الزورالبوكمالالمدينة (مقرّ تجنيد)لا يوجدالحرس الثوريتم إغلاق المركز
دير الزورالبوكمالمعبر البوكمالدفاع محليالحرس الثوريتم سحب القوى الأجنبية والاعتماد على القوى المحلية فقط
دير الزورالبوكمالمستودعات جنوب المدينةدفاع محليحزب الله وحركة النجباءتم إفراغ المستودعات
دير الزورالجلاءمدخل القرية الشماليلا يوجدلواء “فاطميون”ما زال موجودًا
دير الزورالحمدانالمدرج الزراعيدفاع محليلواء الإمام الحسينتم سحب القوى الأجنبية والاعتماد على المحلية فقط
دير الزورالميادينمستودعات عسكريةدفاع محليحركة النجباء والحرس الثوري وحزب الله العراقيتم إفراغ المستودعات
دير الزوردير الزور المدينةمعسكر الطلائعلا يوجدحزب الله اللبنانيما زال موجودًا
دير الزوردير الزور المدينةدوار البانورامادفاع محليحزب الله اللبنانيما زالت القوات موجودة
دير الزورجنوب البوكمالمضخة الـ T2دفاع محليلواء “فاطميون” ولواء “زينبيون” وحركة النجباءتم سحب القوى الأجنبية والاعتماد على المحلية فقط
الرقةشرق المحافظةمعدان (نقطة تفتيش ومعبر تهريب)دفاع محليلا يوجدما زال موجودًا
الرقةعين عيسىنقطة مراقبةدفاع محليلا يوجدما زال موجودًا
حلبالخفسةأطراف البلدة (مقرّ تجنيد)دفاع محليلواء الإمام الخطيبما زالت القوات موجودة
حلبالسفيرةمدخل المدينة الجنوبي (نقاط تفتيش)دفاع محليلا يوجدانسحبت النقاط قبل مقتل سليماني
حلبالمدينةمطار النيربدفاع محليحزب الله اللبناني وحركة النجباء والحرس الثوري ومنظمة بدرما زالت القوات موجودة، لكن تم نقل كافة الآليات إلى الريف الشرقي
حلبالحاضرريف حلب الجنوبيلا يوجدحزب الله اللبناني وحركة النجباء واللواء 69 ومنظمة بدرما زالت القوات موجودة
حلبالراموسةمعامل الدفاعدفاع محليلا يوجدما زال موجودًا
حلبخناصرجنوب البلدة مستودعاتلا يوجدحزب الله اللبنانيما زال موجودًا
حلبأثرياتقاطع طرق أثريا (نقطة تفتيش)الفرقة الرابعةلا يوجدما زالت موجودة
حماةقمحانةمركز المدينة (مقرّ أساسي)لا يوجدحزب الله اللبنانيتم إعادة تموضع القوات إلى مطار حماة مع بدأ معارك ريف حماة الشمالي
حمصالسخنةمقرّ تجنيد (غير رسمي)دفاع محليحزب الله اللبنانيما زالت القوات موجودة
حمصسدّ الوعرمنطقة السدّ الحدودية (موقع مراقبة للوجود الأميركي في التنف)دفاع محليميليشيات عراقية غير معروفةتم إفراغ الموقع بشكل كامل
حمصالتياسمطار التياس (مستودعات)دفاع محليالحرس الثوريما زالت القوات موجودة، ولكن وجودها أصبح يقتصر على العناصر، ولا وجود لأي آليات أو مستودعات في الموقع
حمصالقريتينمطار الضبعة (مستودعات)لا يوجدحزب الله اللبنانيتم إفراغ الموقع بشكل كامل
حمصقطينةبحيرة قطينة (مستودعات)لا يوجدحزب الله اللبنانيتم إفراغ الموقع بشكل كامل
حمصالقصيرمعبر حدوديلا يوجدحزب الله اللبنانيما زال موجودًا
حمصالدرباسيةمعبر حدوديلا يوجدحزب الله اللبنانيما زال موجودًا
دمشقالمدينةمطار المزّة (مستودعات)الفرقة الرابعةالحرس الثوري وحزب الله اللبنانيما زالت القوات موجودة
دمشقالمدينةمنطقة السيدة زينب (مقرّات متعددة)لا يوجدميليشيات متعددةما زالت موجودة
دمشقالمدينةمطار دمشق الدولي (مقرات ومستودعات)لا يوجدالحرس الثوري وحزب الله اللبنانيالموقع فارغ من المعدات العسكرية الضخمة، منذ الضربة الأخيرة التي تعرّض لها المطار
دمشقالكسوةريف الكسوة الجنوبي (قاعدة)لا يوجدالحرس الثوري وحزب الله اللبنانيما زالت القوات موجودة
دمشقالغوطة الغربيةبيت جن (نقاط مراقبة)قوات محلية من مصالحات وسكّان المنطقةحزب الله اللبنانيما زالت القوات موجودة
درعاإزرعمقرّ عسكرياللواء 313لا يوجدما زال موجودًا

المصدر: من إعداد الباحث بناءً على معلومات من راصدين مقيمين في الداخل السوري.

تندرج التغيّرات التي أجرتها إيران على عدد من نقاطها العسكرية في سورية، بعد اغتيال سليماني، في سياق إعادة التموضع، كـ “تكتيك” يتسق مع استراتيجيتها الموسومة بـ “الصبر الاستراتيجي”؛ إذ تهدف من وراء ذلك إلى التكيّف مع المتغيّرات السياسية والميدانية الطارئة على المشهد السوري، وامتصاص الضغوط الواقعة عليها، بما يقلل من خسائرها ويعظّم مكاسبها على المدى البعيد.

لا توحي إعادة التموضع هذه بتغييرات جوهرية على شكل الوجود العسكري الإيراني في سورية وطبيعته حتى الآن؛ فمقرّات إيران الحيوية ما تزال قائمة في دمشق وريفها، وكذلك في حلب، ولا يبدو أنها في وارد الانسحاب من نقاطها في الجنوب السوري، وهو ما يعكس إصرارها على البقاء كفاعل مؤثر في الترتيبات الميدانية في الجنوب والشمال، والاحتفاظ بأوراق قوة وضغط تتيح لها حماية مصالحها الاستراتيجية تفاوضًا أو حربًا. في حين يمكن تفسير اهتمامها بإعادة التموضع في محافظتَي دير الزور وحمص إلى اعتبارهما الساحات الأكثر ترجيحًا للردّ الأميركي على نقاط إيرانية في سورية في حال التصعيد، ولا سيما أنّ مناطقها في محافظة دير الزور قد تعرّضت إلى ستّ ضربات جوية منذ بداية كانون الثاني/ يناير 2020.

الجدول (2)

أهم المواقع الإيرانية المستهدفة في محافظة دير الزور منذ بداية كانون الثاني/ يناير 2020

التاريخالمكاننوع الاستهدافالهدفالقوى المنتشرة في منطقة الهدف
1 كانون الثاني/ يناير 2020البوكمالضربة جويةمستودعات بالقرب من معبر البوكمالحزب الله وحركة النجباء
3 كانون الثاني/ يناير 2020دير الزورضربة جويةمدرّج الطيران الزراعي في مضخة الـ T2حزب الله وحركة النجباء
5 كانون الثاني/ يناير 2020الميادينضربة جويةنقطة عسكرية للميليشياتحزب الله وحركة النجباء
6 كانون الثاني/ يناير 2020البوكمالضربة جويةمستودعات أسلحةاللواء 313 ولواء “فاطميون”
7 كانون الثاني/ يناير 2020الصالحيةضربة جويةمستودعات أسلحة وورش لتصنيع الصواريخلواء “فاطميون”
9 كانون الثاني/ يناير 2020البوكمالضربة جويةمدرّج الطيران الزراعي في مضخة الـ T2حزب الله وحركة النجباء

المصدر: المرجع نفسه.

تكشف عملية إعادة التموضع هذه أيضًا عن ميل إيران إلى اعتماد متنامٍ أكثر على القوات المحلية الموالية لها[5]، عوضًا عن قواتها التي تخصّها، أو تلك العائدة إلى حزب الله أو الميليشيات الشيعية الوافدة من الخارج. وقد يكون ذلك في سياق مساعي إيران للتقليل من خسائرها المباشرة، في وقت يتزايد فيه استهدافها من إسرائيل التي أعلنت على لسان وزير دفاعها، نفتالي بينيت، أن سورية ستكون بالنسبة إلى إيران بمنزلة فيتنام[6]، أو قد يكون ذلك ناجمًا عن رغبتها في اختبار جاهزية حلفائها المحليين للدفاع عن مصالحها، في حال اضطرارها إلى التخفيف من وجودها لديهم وسحب الميليشيات الشيعية، أو الانسحاب من سورية على المدى الطويل، وقد يكون ذلك أيضًا في سياق محاولة احتواء الجهود الروسية المزاحمة لها في مناطق انتشارها.

خريطة التغيّرات التي طرأت على أبرز المواقع العسكرية الإيرانية في سورية بعد اغتيال سليماني

المصدر: من تصميم الباحث

حدود تصعيد إيران مع الخصوم وعلاقتها بالحلفاء بعد الاغتيال

ما تزال حرب التصعيد الكلامية قائمة بين واشنطن وطهران، وإن خفّت وتيرتها مقارنة بالساعات الأولى لعملية الاغتيال، الأمر الذي يطرح احتمال تحوّل الجغرافيا السورية إلى ساحة للمواجهة الميدانية بين الطرفين، ويثير تساؤلات حول مواقف كل من روسيا والنظام السوري، حليفَي إيران، إزاء تصعيد محتمل على هذا النحو.

1. احتمالات المواجهة مع الولايات المتحدة في سورية: لا تصعيد في الأفق

صعّد المسؤولون الأميركيون والإيرانيون من حدة تصريحاتهم بعد اغتيال سليماني. وتأتي هذه التصريحات في سياق الحرب الكلامية ومحاولة استشعار حدود ردّ الفعل المتبادل، في حال انزلاق الطرفين إلى التصعيد الشامل. وأَطَّرت بعض التحليلات الردّ الإيراني ضمن ثلاثة سيناريوهات، هي: أولًا، الردّ الإيراني المباشر على أهداف ومصالح أميركية في منطقة الشرق الأوسط. ثانيًا، الردّ الإيراني غير المباشر عبر وكلائها في المنطقة. ثالثًا، عدم الردّ[7].

تميل إيران إلى ترجيح خيار عدم الردّ على الولايات المتحدة في سورية في المدى القريب، وتعتمد هذه القراءة التحليلية على عدة مؤشرات وأسباب، حيث إنّ واشنطن سترفع من تكاليف المواجهة والتصعيد مع طهران، في حال اتخاذها قرار التصعيد. فقد حدّدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخطوط الحمراء لإيران، في حال اتخاذها قرار الردّ، بأنه يجب ألّا يقع قتلى أميركيون مدنيون أو عسكريون[8]. كما فعّلت واشنطن استراتيجيةً لردع إيران عن الردّ في سورية، وذلك عبر ضربات استباقية لمواقع إيران في محافظة دير الزور، وعبر استقدام تعزيزات عسكرية لعدد من قواعدها في المنطقة الشرقية[9]، وإعادة الانتشار. وفضلًا عن ذلك، جلبت عدة تعزيزات لقواعدها على مستوى منقطة الشرق الأوسط.

الجدول (3)

التغيّرات التي طرأت على أهم القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة الشرقية لسورية بعد اغتيال سليماني

القاعدة العسكرية الأميركيةالمحافظةطبيعة التحركات العسكرية
قاعدة تل نمرالحسكةإفراغها من العتاد والمدرعات، ونقل المعدات إلى قاعدة الشدادي
حقل العمر النفطيدير الزورنقل عتاد عسكري إليها/ بطاريات HIMARS
حقل كونيكو للغازدير الزورنقل عتاد عسكري إليها/ بطاريات HIMARS
قاعدة الصوردير الزورنقل عتاد عسكري إليها
قاعدة حموالحسكةحالة تأهب
قاعدة الشداديالحسكةنقل عتاد عسكري إليها
قاعدة الرميلانالحسكةنقل عتاد عسكري إليها من العراق

المصدر: من إعداد الباحث.

كذلك، تجد إيران نفسها في بيئة معادية في المنطقة الشرقية، مع اندلاع مظاهرات رافضة لوجودها، في محافظة دير الزور[10]، الأمر الذي يحدّ من حريتها في الردّ، في حال أرادت استهداف القواعد الأميركية الموجودة في شرق الفرات. كما أنها تواجه تهديدات أمنية متنامية، تتمثل بضربات خلايا “تنظيم الدولة الإسلامية” لنقاطها العسكرية المنتشرة في عمق البادية[11]. يُضاف إلى ما سبق، ترجيحات صانع القرار الإيراني لأماكن المواجهة المحتملة مع الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، لا تأتي سورية في مقدّمة الأولويات للاعتبارات الثلاثة التالية: يتعلق الاعتبار الأول باصطدامها بعدم قبول موسكو للتصعيد مع واشنطن في سورية. أما الاعتبار الثاني فهو يتعلق بتركيز إيران أكثر فأكثر على العراق كساحة للمواجهة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يمكن قراءته من خلال الضغوط التي تمارسها على حلفائها لإنهاء الوجود الأميركي في العراق[12]، إلى جانب توجيهها ضربة يمكن وصفها بالمركزية لقاعدتين أميركيتين في العراق[13]. وأما الاعتبار الثالث فهو يتعلق بالقيود التي فرضتها التفاهمات السياسية والميدانية على الحركة الإيرانية في سورية.

علاوة على ما سبق، ربما تنتظر إيران جاهزية وكلائها المحليين في سورية للردّ على القواعد الأميركية، بما يعفيها من المسؤولية المباشرة عن هذا الاستهداف في حال حصوله، حيث تشير مصادر محلية إلى جهد مكثّف يقوده الحرس الثوري الإيراني، بالتعاون مع عشيرة المعامرة في دير الزور، لتأسيس “كتيبة الإمام” في ريف دير الزور الشرقي، على أن يتم تدريبها من قبل أفراد من حزب الله العراقي، تمهيدًا لتوظيفها مستقبلًا في الرد على الاستفزازات الأميركية، إلى جانب العمل المكثّف مع بعض عشائر المنطقة الشرقية لإقناع أفرادها بالانشقاق عن “قوات سورية الديمقراطية”، والانضمام إلى ميليشيات ترعاها إيران، وهو ما يفسّر قيام وفد من العشائر بزيارة إيران قبيل اغتيال سليماني[14]، وبقاءه لتقديم واجب العزاء، ولقاءه قيادات من الحرس الثوري، ومن بين هؤلاء قائد فيلق القدس إسماعيل قاني. يضاف إلى ذلك مساعي إيران الحثيثة لتفعيل تنظيم “المقاومة الشعبية” المنتشر في مناطق سيطرة قوات الإدارة الذاتية[15].

2. علاقة إيران بالحلفاء: روسيا والنظام، الأولويات ليست نفسها

اتخذت دمشق وموسكو مواقف متقاربة تجاه عملية اغتيال قاسم سليماني، حيث قدّمتا التعازي لإيران، وعبّرتا عن تخوّفهما من أن يؤدي ذلك إلى تصعيد في المنطقة، ليبقى التساؤل قائمًا عمّا إذا كانت موسكو ودمشق تتشاركان الأولويات نفسها مع طهران، وترغبان في التصعيد، في حال لجوئها إلى مثل هذا الخيار.

أظهرت العديد من التفاهمات السياسية والمعارك الميدانية امتلاك الحلفاء الثلاثة أولويات غير متطابقة تجاه ملفات الأزمة السورية، حيث تمنّعت إيران عن السماح لميليشياتها بالمشاركة في معارك ريف حماة الشمالي التي قادتها موسكو في صيف عام 2019 ضدّ فصائل المعارضة[16]، في الوقت الذي انخرطت فيه ميليشياتها، إلى جانب الفرقة الرابعة، في معارك للاستيلاء على تلة الكبانة في ريف اللاذقية، دونما دعمٍ جوي روسي. كذلك، تعمل موسكو جاهدة لضبط التوتر في الجنوب السوري، والحفاظ على الاتفاق الذي أُنجز بوساطتها[17]، في الوقت الذي تصطدم فيه بالنشاط الإيراني المكثّف بشكل يقوّض الاستقرار في تلك المناطق. وكما يبدو واضحًا، ثمة تباين في موقفَي موسكو وطهران بشأن ملف ضبط الحدود، حيث تعمل روسيا على مزاحمة إيران في تولي هذا الملف، وإقفال المعابر غير الشرعية التي تشكّل مصدرًا مهمًا لتمويل الميليشيات الإيرانية. وفي هذا السياق، أشارت مصادر صحفية إلى وجود قوات من الشرطة العسكرية الروسية على الحدود السورية – اللبنانية، لضبط المعابر غير الشرعية[18].

يتركّز جدول أولويات موسكو، في عام 2020، على إغلاق ساحات الصراع والحيلولة دون تفجرها، واستثمار المعطيات الميدانية المتحققة للسير في اتجاه حل سياسي عبر رافعة اللجنة الدستورية، على نحوٍ يتماشى مع مصالحها ويشرع الباب لعملية إعادة إعمار تحصد مكاسبها، فضلًا عن الاستمرار في رعاية جهود دبلوماسية لتأهيل النظام إقليميًا، وإنجاز تقارب بين دمشق وأنقرة، بعدما فشلت في تحقيق انفراج في علاقات دمشق بمحيطها العربي.

من جهة أخرى، تجد إيران نفسها معنيّة أكثر بكسر محاولات تهميشها سياسيًا، وقد ظهر ذلك من خلال استثنائها المتكرر من التفاهمات السياسية التي تمّت بين روسيا وتركيا في ما يتعلق بالأوضاع في الشمال الغربي والمنطقة الشرقية، إضافةً إلى احتواء الضغوط العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل ضدّها في سورية، والاحتفاظ بأوراق قوة تمكّنها من عرقلة أي تفاهمات تتجاهل مصالحها.

يتشارك النظام السوري مع روسيا جزءًا كبيرًا من الأولويات نفسها. لكنه في المقابل، لا يرغب في كسر لعبة التوازن بين روسيا وإيران التي تمنحه هامشًا للمناورة، ويبدو أنّ النظام منفتحٌ على التنسيق مع إيران للردّ على الولايات المتحدة على مستوى المنطقة، إذا تطلب الأمر ذلك، وهو ما يمكن قراءته من خلال إيفاد اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، إلى طهران للتعزية بمقتل سليماني ولقاء مسؤولين إيرانيين، ليأتي ردّ روسيا بزيارة رئيسها دمشق، ولقائه الأسد في غرفة العمليات الروسية في مقرّ سفارتها في دمشق، في دلالة رمزية مفادها أنّ موسكو هي التي تتولى قرار الحرب والسلام في سورية، وأنّ على دمشق الالتزام بالأولويات الروسية، وتحييد الساحة السورية عن أي احتمال للتصعيد الإيراني – الأميركي، الأمر الذي يحمل مؤشرات دالة على تنامي مساحة عدم التوافق بين الحلفاء، وخصوصًا روسيا وإيران، في سورية.

خاتمة

ما يزال من المبكّر الحديث عن التداعيات المحتملة لاغتيال أحد أبرز عرّابي المشروع التوسعي الإيراني بشأن وجود إيران العسكري خارج الحدود. ويبدو واضحًا أنّ عملية الاغتيال تأتي في سياق تعزيز الضغوط على إيران لدفعها إلى التفاوض، وإجبارها على تقديم تنازلات، في ما يتعلق بملفها النووي وطبيعة دورها في منطقة الشرق الأوسط.

لا توحي عملية إعادة التموضع التي أجرتها إيران في سورية بعد عملية الاغتيال بأنها صارت مستعدة للتنازل، أو بتأثر مشروعها الإقليمي سلبيًّا بمقتل سليماني، حيث تندرج إعادة التموضع هذه في إطار استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي تراهن عليها إيران لتحسين موقفها التفاوضي. وبناءً عليه، فهي غير مهتمة في المدى القريب بالدخول في مواجهة ذات مخاطر عالية مع الولايات المتحدة في سورية أو حلفائها في المنطقة، ولا سيما في ظل بيئة معادية لها تقيّد حرية حركتها السياسية والميدانية في سورية، فضلًا عن تباين أولوياتها مع حلفائها في هذا الصدد، ليبقى المشهد الإيراني في سورية مرتبطًا بمعادلة “الصبر الاستراتيجي”، وهو ما قد يغري خصوم إيران بتصعيد عملية استهدافها.

عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات

[1] مايكل آيزنشتات، “التدخل العسكري الإيراني في سوريا: الآثار طويلة الأمد”، معهد واشنطن، تحليل السياسات، 15/10/2015، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/2Fv67HS

[2] “كيف يتم دمج المليشيات الإيرانية بقوات النظام”، المدن، 4/5/2017، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/36wX84F

[3] Kirill Semenov, “Russia, Iran in Tug of War over Syria Military Reform,” Al-Monitor, 10/6/2019, accessed on 12/1/2020, at: http://bit.ly/35K1UL7

[4] أيمن الدسوقي، “ما الذي تفصح عنه الطائفية في الجيش السوري؟”، في: المؤسسة العسكرية السورية عام 2019: طائفية وميليشياوية واستثمارات أجنبية (إسطنبول: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 2019)، ص 27.

[5] “ميليشيا إيرانية جديدة وصلت إلى دير الزور في الأيام الماضية”، دير الزور 24، 5/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/2T4SpTU

[6] “سوريا ستتحول لفيتنام خاصة بكم .. وزير الدفاع الإسرائيلي يحذر إيران”، الحرة، 8/12/2019، شوهد في 12/1/2020، في: https://arbne.ws/2tJxZVS

[7] “الأزمة الأميركية – الإيرانية: كيف ترد إيران على مقتل اللواء قاسم سليماني؟”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقدير موقف، 6/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/36ESyRY

[8] إبراهيم الحميدي، “قتل أميركيين ’خط أحمر‘ لواشنطن يقابله قصف فوري ضد إيران”، الشرق الأوسط، 8/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/39Sph8v

[9] “واشنطن تستقدم منظومات دفاعية إلى دير الزور لمواجهة إيران”، بلدي نيوز، 6/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/303LagF

[10] “تجدد المظاهرات ضد النظام وإيران في دير الزور”، زمان الوصل، 4/10/2019، شوهد في 12/1/2020، في: http://bit.ly/2FJSPXW

[11] “تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ يواصل نشاطه في البادية السورية، ويستهدف بعبوات ناسفة آليات عسكرية لقوات النظام والميليشيات الموالية لإيران”، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 4/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/2T3ayBI

[12] “مجلس النواب العراقي يطلب من الحكومة إنهاء تواجد قوات التحالف الدولي وأي قوات أجنبية في العراق”، فرانس 24، 5/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/2QY844Z

[13] “الانتقام الإيراني لسليماني.. طهران تتحدث عن مقتل 80 جنديًا أميركيًا، وترصد 100 هدف لضربه بالمنطقة”، الجزيرة، 8/1/2020، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/2QAnFsl

[14] “وفد عشائري سوري في طهران.. ومسؤول إيراني ’الأزمة السورية انتهت‘”، وكالة ستيب الإخبارية، 28/12/2019، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/36HGvU4

[15] أُعلن عن تشكيل المقاومة الشعبية في نهاية عام 2014 من أبناء عشيرة الشيعطات، حيث تلقّت عناصرها تدريبات من الدفاع الوطني، وتم الزجّ بها في الحرب ضدّ تنظيم الدولة، لتظهر مرةً أخرى إعلاميًّا في عام 2018، مع تشكيل فرع لها في الرقة، وإعلانها التصدي للاحتلال الأميركي ومن يسانده.

[16] مصطفى محمد، “لماذا غابت إيران ومليشياتها عن معارك ريف حماة؟”، عربي 21، 9/7/2019، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/2R3HuqT

[17] “روسيا تتدخل لـ “ضبط التوتر” جنوب سوريا بعد ’اغتيالات غامضة‘ في درعا”، الشرق الأوسط، 13/1/2019، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/306xdhY

[18] طوني بولس، “الشرطة الروسية تسيطر على معابر حدودية بين لبنان وسوريا”، إندبندنت عربية، 26/12/2019، شوهد في 12/1/2020، في: https://bit.ly/37OF2eF

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي