شارك المقال
  • تم النسخ

الناجح: رفع مبالغ الغرامات يُساهم في عملية التطبيع مع مظاهر الرشوة والفساد على الطريق

حاوره نورالدين لشهب

دعا إدريس الناجح، الخبير الأكاديمي المتخصص في السلامة الطرقية، إلى الخفض من الغرامات بالنسبة إلى السائقين، إذ يُعد “الرفع من قيمة الغرامات من بين أسباب التطبيع مع الرشوة ودعم منظومة الفساد في الطريق؛ فالمواطن إذا ارتفع حجم الغرامة قد يفضل أداء 100 درهم رشوة على أداء مبلغ غرامة جد مرتفع”.

وأكد الخبير، في حوار خاص، أن التصديق على السيارات homologation ليس له معيار خاص، بل هو “خاضع لمزاج وأهواء القائمين على هذا المركز”، مشيرا في الحوار نفسه إلى أن ما يعرف بـ”التريبورتور” “يفتقر إلى معيار من المعايير المعتمدة في نظام التصديق في المغرب”.

وعرج الحوار على قضية لوحة الترقيم للسيارات، والتي أصبحت مسألة تهدد أمن الأفراد والجماعات، إذ إنها لا تتوفر على أي “كود” إلكتروني؛ وهو ما يعني “إمكانية تغييرها بشكل فردي، إذ يمكن لأي مجرم أن يمتطي سيارة ويزيل لوحة ترقيمها ويضع أخرى بديلة ويقترف جريمته ثم يركب لوحته الأصلية، ويتسبب ذلك في اتهام مالك سيارة أخرى بسبب عدم وجود ترقيم إلكتروني” يقول المتحدث.

كما تطرق الحوار إلى عدة قضايا تهم مسألة السلامة الطرقية بالمغرب، والتلاعبات المخلة التي باتت تهدد السلامة الطرقية بالمغرب نتيجة الخلل البنيوي الذي يعاني منه قطاع النقل بالمغرب.

في حوار سابق أوصيتم بجملة مقترحات تخص السلامة الطرقية، في نظركم، وفي إطار تقييم سياسة الوزارة، ما أهم الإجراءات التي اتخذتها الوزارة وكان لها أثر إيجابي على منظومة السلامة الطرقية؟

في الحقيقة، ثمة إجراءات مهمة سبق لي أن أوصيت بها ضمن جملة سياسات وإجراءات لتقوية منظومة السلامة الطرقية، وقد تم اعتماد بعضها وكان لها أثر جد إيجابي على السلامة الطرقية، ومن ذلك ترقيم الدراجات النارية، فهذا الإجراء وحده يمثل إنجازا مهما، إذ من شأنه أن يضبط حجم الدراجات النارية المستعملة من جهة، ويلزمها من جهة ثانية بالفحص التقني، ويمكن من إنهاء أو التقليص من حالة الفوضى التي كان يعرفها القطاع من جراء ضخ عدد هائل من الدراجات النارية التي لا تتوفر على ترقيم وتأمين؛ وهو ما ينتج عنه مشاكل عديدة، سواء منها ما يرتبط بالتأمين أو ما يرتبط بالسلامة الطرقية.

الإجراء الثاني، الذي أعتبره مهما، وقد سبق أن أوصيت به بوحي من التجربة الألمانية التي أعتبرها من التجارب جد المتقدمة في أوروبا، وهو الخفض من الغرامات.. إن هذا الإجراء يصالح المواطن مع الإدارة، ويجعله يفضل أداء الغرامة على إعطاء الرشوة؛ وهو ما يسهل من جهة في الرفع من مستوى التحصيل الضريبي الخاص بمخالفات السير، ويرفع مستوى الوعي بالسلامة الطرقية، إذ لا يخفى أن الرفع من قيمة الغرامات كان من بين أسباب التطبيع مع الرشوة ودعم منظومة الفساد في الطريق؛ فالمواطن إذا ارتفع حجم الغرامة قد يفضل أداء 100 درهم رشوة على أداء مبلغ غرامة جد مرتفع.

وهنا أحب أن أضيف توصية أخرى لدعم هذا التوجه، وهو أن يتم الأداء النقدي في الطريق بشكل كامل، وأن يستعاض عنه بالشيكات أو الأداء الآلي باستعمال البطاقة، وهذا يتطلب أن يتوفر السائق على حساب بنكي.

من جهة ثالثة، لا يمكن أن نغفل تنصيص دفاتر تحملات وزارة التجهيز والنقل على قضية التكوين المستمر؛ فهذه العملية، على الرغم من بعض الاختلالات التي تعتريها، أثمرت نتائج إيجابية رفعت من مستوى الوعي بالسلامة الطرقية، وضيّقت الهوامش المتسيبة التي كانت لدى السائق، وبشكل خاص السائق المهني، وأعتبر أن هذا الورش ينبغي أن يستمر بعد أن تنطلق عملية تقييم لكل الجوانب المرتبطة به حتى يتم الارتقاء بالتكوين المستمر في هذا المجال ويتم ضمان نتائجه وآثاره الإيجابية كاملة.

لكن كيف تفسرون أنه نسب الحوادث في المغرب لا تزال جد مرتفعة، بالرغم من هذه الإجراءات المتخذة؟

لا أحتاج إلى أن أذكر أن السلامة الطرقية هي منظومة متكاملة تتدخل فيها عدد من الإصلاحات الضرورية، بحيث إن تخلف بعضها أو عدم الاقتراب من ساحته بحجة من الحجج يعرض المنظومة كاملة للاختلال. وهذا للأسف ما يحدث اليوم، فهناك مجهودات تبذل في بعض المجالات، لكن مجالات أخرى تحتاج إلى إصلاحات جذرية لم تنطلق فيها الأوراش الإصلاحية، وبعضها يعيش في حالة فساد بنيوي مستعص.

ماذا تقصدون بشكل خاص؟

لا أريد أن أمثل بكل المجالات، لكن على الأقل سأركز على بعضها. وأخص أولا قضية التصديق على السيارات homologation، فإلى حد الآن لا ندري وفق أي معايير يتم التصديق في المغرب، وهل هي المعايير ذاتها المعتمدة دوليا أم أن للمغرب معايير خاصة به، أم أن الأمر يخضع لمزاج وأهواء القائمين على هذا المركز. لنأخذ مثال ما يعرف بـ”التريبورتور”، ونطرح السؤال، ما تصنيفه وفق المعايير المعتمدة في نظام التصديق في المغرب؟ فالخصائص التقنية له ليست هي المصرح بها، وعملية التصديق تتم للأسف طبقا للمصرح به، مما ينتج عن ذلك مخاطر كبيرة بدأت تبرز بشكل كبير وبدأت وسائل الإعلام تنبه إلى خطورته على السلامة الطرقية وتوثق لذلك.

خذ مثال بعض الحوادث التي وقعت، وأثبت التحري الدقيق أن السبب الحقيقي يرجع إلى قضية التصديق مثل ما وقع في احتراق خزان الوقود لبعض المركبات، ولنطرح السؤال: ما الذي وقع بعد ذلك؟ وهل تم إيقاع العقوبات اللازمة بالمستحقين لذلك، مع أن الحادثة كانت مهولة وحجم الضحايا كبير؟

فإذا تركنا جانبا نظام التصديق الذي يعاني من اختلالات كبيرة توسع هامش الفساد والرشوة، وانتقلنا إلى المواصفات التقنية للسيارات، فتلك معضلة قائمة بنفسها.

في ألمانيا ودول أوروبا قاطبة، على سبيل المثال، لا تقتنى السيارة إلا ومعها لائحة تضم خصائصها التقنية التي تتضمن تفاصيل كاملة عن السيارة، في حين في المغرب الوضع مختلف، هذه الوثيقة لا تمنح للمقتنين؛ وهو ما يجعل السيارات التي تستعمل في الطريق مجهولة بغير هوية تقنية، وفي كثير من الأحيان ما تكون خصائصها التقنية غير مطابقة للمواصفات الدولية بحكم أن بعض الشركات المسوقة في المغرب تطلب تخفيض المعايير من الشركات المصنعة لتوسع هامش الربح، ومن ذلك ما يرتبط بالعجلات والفرامل والنوابض ونظام توازن السيارة وغيرها من القضايا التقنية الدقيقة التي يكون لها تأثير كبير على السلامة الطرقية.

لنذكر في هذا السياق ما وقع لشركة فولفساكن الألمانية في أمريكا، لما تم اكتشاف مخالفة الشركة المصدرة للمعايير الدولية المعتمدة، وكيف ألحقت أمريكا خسارة مهولة بهذه الشركة بسبب ذلك. هل يمكن أن نرى مثل ذلك في المغرب أو أي دولة متخلفة؟ مستحيل في ظل هذه الظروف، والمفارقة الكبيرة هي أن أغلب الشركات المسوقة السيارات في المغرب لا تقدم أي هوية تقنية للسيارات للمقتنين، فيتم الاكتفاء بتقديم الإطار الحديدي والقدرة الجبائية وانتهى الكلام، وهذا يخالف تماما المعايير الدولية التي تفرض أن تقدم للمشتري بطاقة تقنية تتضمن كل الخصائص التقنية الموجودة بالسيارة، ولا أقصد هنا الكتاب التعريفي بالسيارة، وإنما أقصد شهادة موقع عليها من لدن الشركة المسوقة تثبت الخصائص التقنية للسيارة.

أما الكارثة التي تهدد منظومة السلامة الطرقية بالكامل، بل وتهدد الأمن بشكل حصري، هي قضية الترقيم بالنسبة إلى السيارات. وبالمناسبة، فلوحة ترقيم السيارات المغربية هي الوحيدة في العالم، فيما أعلم، التي لا تستطيع معرفة هوية السيارة إن خرجت عن حدود التراب الوطني، فليس بها أي إشارة إلى الدولة ولا إلى المدينة، فهي مجرد أرقام نعرف بخبرتنا في الداخل أنها تخص هذه المدينة المغربية أو تلك، لكن حين تخرج عن الحدود تصبح السيارة المغربية تائهة لا هوية لها. أضف إلى ذلك أن لوحة الترقيم الحالية لا تتوفر على أي “كود” إلكتروني؛ وهو ما يعني إمكانية تغييرها بشكل فردي، إذ يمكن لأي مجرم أن يمتطي سيارة ويزيل لوحة ترقيمها ويضع أخرى بديلة ويقترف جريمته ثم يركب لوحته الأصلية، ويتسبب ذلك في اتهام مالك سيارة أخرى بسبب عدم وجود ترقيم إلكتروني.

لكن الوزارة أطلقت، منذ مدة، صفقة للترقيم الإلكتروني كما فعلت ذلك بالنسبة إلى شواهد الفحص التقني؟

نعم تم ذلك، للأسف في هذا الملف هناك شجرة تخفي غابة من الفساد والتحكم؛ فالناس لا يعرفون شيئا عن هذه الصفقات وأسباب تأخرها، ولا يعملون أن شخصا واحدا يستحوذ تقريبا، إن لم يكن بشكل كلي، على كل الشواهد الإلكترونية التي تصدرها المملكة المغربية، سواء تعلق الأمر بالبطاقة الوطنية أو جواز السفر أو البطاقة الرمادية أو رخصة السياقة أو شهادة الفحص التقني، وربما حتى الشواهد المدرسية والجامعية، وقد بدأت بعض الأصوات تتحدث عن روائح تزكم الأنوف من صفقة الترقيم الإلكتروني للوحات السيارات بسبب اختلالات وشبهة فساد غيرت مجريات الأمور وأعادتها إلى شركة المعني بالأمر الذي سيطر على كل شيء، مهددا بذلك الأمن المعلوماتي بالنسبة إلى المغرب فيما يخص السلامة الطرقية بحكم أنه الوحيد الذي يسيطر على هذه المعلومات جميعها وتوضع بين يديه بدون انتباه إلى خطوة ذلك على منظومة الأمن الوطني، فهل يتعلق الأمر بمافيا منظمة تسيطر على القطاع برمته، وتمانع عملية الإصلاح التي تقوم بها الوزارة، وتتواطأ مع الإدارة وبعض مكوناتها دون علم المسؤولين السياسيين المشرفين على القطاع، وفي بعض الأحيان بتدخل جهات لها مصالح في جزء من أرباح الصفقات.

هذه اتهامات خطيرة هل تملك معلومات عليها؟

أرجو أن تمتلك الإدارة المغربية الجرأة لتقدم تفسيرا عن أسباب هيمنة شركة واحدة على كل الشواهد الإلكترونية التي تصدرها البلاد، كما أرجو أن تكشف المعطيات حول مجريات الصفقة الأخيرة التي تمت بخصوص الترقيم الإلكتروني للسيارات وكيف تم تغيير نتائجها والتحايل الذي تورط فيه قسم في وزارة التجهيز والنقل لإرجاع الصفقة إلى “ملك الشواهد الإلكترونية في المغرب” بدون منازع. ولا أريد أن أزيد تفاصيل أخرى في الموضوع. مسؤولية الإدارة التفاعل مع ما سيُكتب وتقديم بيان حقيقة في الموضوع.

من القضايا الأساسية التي أشرتم إليها في عدد من الحوارات قضية قطاع الغيار، وأثرها في الإخلال بمنظومة السلامة الطرقية، ما تقييمك لجهود الوزارة في هذا الشأن؟

هذا الموضوع كبير، وتكبر المواضيع كلما ارتبطت بالمصالح المادية لبعض الشركات. لا أمل من التكرار بأن هناك فوضى عارمة لقطع الغيار في المغرب، يكشف عن وجود فساد بنيوي ينخر الإدارة المغربية بالكامل. فهل يمكن أن نتصور قطع غيار لا تمتلك أدنى مستويات معايير الجودة المعترف بها دوليا، وبعضها رديء يتم الترخيص بدخوله ويتم التأشير عليه من قبل الجمارك ويتم تداوله بشكل واسع، وبعضها الآخر لا يكون مطابقا للعينة التي يتم عرضها على الجمارك، مما يتسبب في دخول فرامل ونوابض وعجلات وقطع غيار جوهرية في السيارة إلى المغرب وتستعمل وتتسبب في حوادث خطيرة لا سيما العجلات التي يمثل المغرب سوقا فوضوية لانتشار الرديء منها والذي يمنع استعماله دوليا. والغريب هو أن المختبرات التي تراقب جودة قطع الغيار المراد تسويقها في المغرب يتم التحايل عليها بعرض عينات ذات جودة تحترم المعايير الدولية، بينما السلع الضخمة لا تكون مطابقة لهذه العينات؛ وهو ما يثير مشكلات عديدة، بعضها مرتبط بالفساد والرشاوى في هذا المجال، وبعضها مرتبط بعدم وجود خبراء وكفاءات في مستويات عالية داخل هذه المختبرات.

لنمر إلى ملف التأمين الذي يثير، بين الفينة والأخرى، جدلا واسعا بخصوص العديد من الملفات.. في نظركم، ما موقعه داخل منظومة السلامة الطرقية؟

خطورة هذا القطاع تكمن في تقدير الخبير المعتمد، الذي قد يسمح رأيه وقراره بالسماح لمركبات وسيارات غير صالحة بالاستعمال، لا سيما ما يرتبط بالسيارات التي تعرضت لحوادث خطيرة. وكما هو معلوم، فخبير السيارات في المغرب لا يتمتع بوضعية مستقلة كما هو الشأن في العديد من الدول الأوروبية ومنها ألمانيا، فخبير السيارات في المغرب يعمل في الغالب لدى شركات التأمين، ويخدم مصالحها، ويتعرض مصيره المهني للخطر إذا حاول أن يشتغل بمنطق مستقل بوحي من ضميره المهني، أي أن الوضع القانوني له في المغرب يجعله في خدمة شركات التأمين أكثر مما يكون في خدمة منظومة السلامة الطرقية.

والخطير في الأمر هو أن هناك عددا كبيرا من السيارات التي تتعرض لحوادث خطيرة تستصدر قرارات من لدن خبراء يخدمون مصالح شركات التأمين، فيسمح لها بالاستعمال تخوفا من التعويضات الباهظة، وهي تفقد تقريبا كل أو جل مكونات التوازن مما تتسبب في حوادث أخرى خطيرة؛ وهو ما يطرح مرة أخرى مشاكل التصديق، ويضع شركات التأمين في دائرة التساؤل، بحكم أن هَمَّ أغلبها هو الربح وتوسيع هامشه، وفي أحيان كثيرة يكون ذلك على حساب ما تتطلبه منظومة السلامة الطرقية.

في كثير من الحالات، يخرج مسؤول عن الوزارة الوصية على القطاع تعليقا على حادثة ويقرر بأن مشكلها بشري ولا علاقة له بالتجهيز الطرقي، ويرمي باللائمة على طريقة السياقة؛ وهو ما يضع منظومة تعليم السياقة في دائرة المساءلة، ما هو تقييمكم للإجراءات المتخذة في هذا المجال؟

دعني أكون صريحا، فالجهود التي تم القيام بها نوعية وتسير في الاتجاه الصحيح؛ غير أن مستوى تعليم السياقة في المغرب يظل لا يرقى إلى المعايير الدولية، كما أن إدماج السلامة الطرقية في برامج التكوين لا يزال محدودا ولا يتعدى البعد الإشهاري، كما أن المغرب لم يستفد من الخبرة الأوروبية في هذا الباب، وكيف عملت أوروبا على تكييف وملاءمة المساطر والأنظمة التي كانت تعمل بها أوروبا الشرقية حتى تصير متناغمة مع معاييرها الدولية.

نحتاج إلى أن نستفيد من الخبرة الألمانية في هذا المجال، وندمج منظومة السلامة الطرقية في المناهج والبرامج؛ ففي ألمانيا يخضع لطفل لجزء مهم من التربية الطرقية وتمنحه المدرسة رخصة سياقة رمزية تشجيعا له على ضبط معارفه وتطوير ممارسته في مجال السياقة المناسبة لعمره. ثم هناك مشكلة أخرى تحتاج إلى معالجة سريعة.

نعم نجحت الوزارة نسبيا في القضاء على الاحتكار في مجال تعليم السياقة، وفتحت المجال للمنافسة وفق دفاتر تحملات نشرت في إبانه، ونتج عن ذلك فتح المجال أمام مبادرات كثيرة؛ لكن هذه الوضعية الجديدة أثمرت مشاكل من نوع آخر، فالمنافسة أدت إلى تخفيض الأسعار، وذلك بدوره أدى إلى التخفيض من مستوى وجودة التكوين.

الوزارة تعالج مشكلة، فتظهر مشكلة أخرى.. فما العمل في هذه الحالة؟

في هذه اللحظة، أتصور أنه لا بد من تحديد سعر مرجعي لا يتم النزول عنه، مع فتح المجال للتفاضل في الخدمات المرتبطة بالتكوين، مع تفعيل لجان المراقبة والتفتيش لضمان الحد الأدنى من التكوين المطلوب المتناسب مع السعر المرجعي المحدد، وتنفيذ العقوبات بشكل صارم في وجه المخالفين حتى تترسخ في ذهن المستثمرين في هذا المجال أن جودة التكوين خط أحمر لا يمكن المساس به.

وفي هذا الصدد، لا بد من رفع رواتب وتعويضات المكونين وتشديد شروط الولوج إلى هذا المنصب، وتفعيل إجراءات سحب الرخصة في حالة الإخلال حتى تشيع ثقافة المسؤولية والجدية في هذا القطاع الحساس الذي يمثل المحور الأساس في منظومة السلامة الطرقية.

ما زلت ترى أن الفساد يعد من المشاكل البنيوية التي تحول دون تحقيق مستوى جيد من السلامة الطرقية في المغرب؟

هذا واقع لا يرتفع إلا بجهود الأحزاب والمجتمع المدني بشراكة مع الإدارة وبإرادة سياسية واضحة في هذا الاتجاه، فكما تابعتم في هذا الحوار، فالفساد ينخر منظومة الترقيم والإشهاد الإلكتروني، وينخر منظومة التصديق، ويتسبب في الترخيص لسيارات غير صالحة للاستعمال مرة أخرى بعد أن تعرضت لحوادث خطيرة أفقدتها القدرة على التوازن، ويسمح بولوج قطع غيار لا تتواءم مع المعايير الدولية، ويسمح ببيع سيارات دون هوية تقنية مفصلة، ويسمح ترقيم اللوحات باندلاع جرائم والتسبب في حوادث مع نسبتها لمجهول، ويسمح بتمكين أشخاص من رخص السير وهم لا يستحقون ذلك، بل يسمح بتمكين شركات من صفقات وهي لا تحترم أدنى المواصفات المطلوبة في المعايير الدولية، وأضف إلى ذلك ملفات كثيرة لا سيبل لحصرها.

خذ مثال المعركة التي قامت بها الوزارة مشكورة لتجديد الأسطول، والتي نجحت فيها نسبيا فيما يخص سيارات الأجرة، نتساءل: لماذا لم تنجح فيما يخص الحافلات، علما أن كثيرا من الحوادث المميتة كان سببها الحافلات؟ لماذا قامت معركة كبيرة ضد الوزير المنتدب في النقل سابقا وكاتب الدولة الحالي، وإلى الآن لم ينجح في تمرير إصلاحه في هذا المجال علما أن الأمر يعود بالنفع على القطاع برمته، ويسهم في إعطاء صورة جد إيجابية عن تطور النقل بالمغرب، ويضمن مستوى من الراحة والرفاهية والأمن بالنسبة إلى المواطن، ويخفف من ضغط المشاكل في المحطات الطرقية والتي تستثمر الدولة مجهودات كثيرة من أجل احتوائها ومعالجتها.

كيف يمكن، في نظرك، الاستفادة من الخبرة الألمانية في موضوع السلامة الطرقية؟

للجواب عن هذا السؤال، لنطرح سؤالا أعمق، وننظر في مسار الدول التي استلهمت النموذج الألماني والدول الأخرى التي استلهمت النموذج الفرنسي، دعني أخلص بسرعة إلى أن كل التجارب التي ارتبطت بالنموذج الفرنكفوني بقيت جد متخلفة وتبعية، وأشبه ما تكون بسوق جاهزة لبيع المنتجات الفرنسية، وبأغلى الأثمان، ومن دون منافسة وبالارتهان لمنظومة احتكارية أثمرت فسادا عارما.

أما التجارب التي ارتبطت بالنموذج الألماني، فقد انطلقت بقوة، وبنت نموذجها المستقل بعد ذلك، دون أن تبقى رهينة لشيء اسمه الخارج، وتجربة تركيا في هذا واضحة، لا تحتاج إلى بيان. أما ما يخص السلامة الطرقية، فالأرقام والمعطيات تتحدث، وقبل ذلك التاريخ؛ فألمانيا أدخلت هذا البعد لاعتباراتها الإستراتيجية الحيوية سنوات كثيرة قبل فرنسا، وألمانيا اليوم تعدّ نموذجا يحتذى في مجال السلامة الطرقية، ويكفي أن تعلم أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي لا تحدد فيها السرعة في مقاطع كثيرة في طرقها، ومع ذلك تعتبر الأقل دوليا في عدد الحوادث بسبب صرامة وقوة نموذجها في السلامة الطرقية. ولذلك، نجحت أوروبا الشرقية كلها في الالتحاق السريع بالمعايير الدولية في هذا المجال بسبب استلهامها للنموذج الألماني، ونجحت تركيا أيضا، بينما ظلت الدول الدائرة في الفلك الفرنكفوني في حالة القهقرى بسبب أن الارتهان للنموذج الفرنسي التبعي الإلحاقي يعدّ في حد ذاته سببا من أسباب اختلال منظومة السلامة الطرقية.

والمشكلة هي أن العقليات التي تدير الإدارة وأحيانا حتى السياسات في المغرب لا تعرف كيف تتحرر أو تنعطف لتجارب أخرى، بسبب بنيوية الفساد الذي كرسه النموذج الفرنكفوني المستغل، وحتى الأطر المغربية ذات الكفاءة في مختلف بقاع العالم، ومنها ألمانيا لا تعرف كيف تجد مكانها في بلادها بسبب سطوة هذا النموذج وإقصائه وضيق صدره اتجاه تجارب أخرى وبشكل خاص التجربة الألمانية.

ونتحدث هنا من وحي التجربة، ولدنيا معطيات كثيرة تؤكد حالة الإقصاء التي يتعرض لها الخبراء المغاربة المقيمون في الخارج بسبب كونهم غير مرتهنين للنموذج الفرنكفوني الذي أعتبره شخصيا من الأسباب التي ستعيق تقدم أي تجربة تسعى إلى الارتقاء بمنظومة السلامة الطرقية بالمغرب.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي