شارك المقال
  • تم النسخ

التدمير الذاتي للقوة الأمريكية..كيف أهدرت واشنطن لحظة القطبية الأحادية !

فريد زكرياء ـ ترجمة عبدالقادر نعناع

في وقت ما في العامين الماضيين، انتهت الهيمنة الأمريكية، وكان عصر الهيمنة الأمريكية فترة قصيرة وجذابة، لحوالي ثلاثة عقود، وتميزت بلحظتين أساسيتين، كان كل منهما نوعًا من الانهيار: إذ انبثقت في ظل انهيار حائط برلين في عام 1989، حيث كانت النهاية أو بداية النهاية حقًا. أما الانهيار الآخر، فكان انهيار العراق عام 2003، والانهيار البطيء منذ ذلك الحين. لكن هل كان الوضع غير العادي للولايات المتحدة ناتجًا عن أسباب خارجية، أم هل قامت واشنطن بتسريع انهيارها من خلال عادات سيئة وسلوك سيء؟ هذا هو السؤال الذي سيناقشه المؤرخون لسنوات قادمة. ولكن في هذه المرحلة، لدينا ما يكفي من الوقت والمنظور لتقديم بعض الملاحظات الأولية.

 

كما هو الحال مع معظم النهايات، ساهمت العديد من العوامل في هذا الانهيار، فقد كانت هناك قوى هيكلية عميقة في النظام الدولي، عملت بلا هوادة ضد أي دولة تراكمت لديها الكثير من القوة. ومع ذلك، في الحالة الأمريكية، يتفاجأ المرء بالطرق التي تعاملت بها واشنطن -في موقف غير مسبوق- في تعاملها مع هيمنتها، واستغلال قوتها، وفقدان حلفائها، وتشجيع أعدائها. وحالياً وفي ظل إدارة ترامب، يبدو أن الولايات المتحدة فقدت الاهتمام، وفقدت بالفعل إيمانها، بالأفكار والغرض الذي حفز وجودها الدولي لمدة ثلاثة أرباع القرن.

ولادة قوة:

لم تكن الهيمنة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، أشبه بأي شيء كان العالم يراه منذ الإمبراطورية الرومانية. حيث يُغرَم الكتّاب بمواجهة فجر “القرن الأمريكي” حتى عام 1945، وذلك بعد وقت قصير من صياغة الناشر هنري لوس لهذا المصطلح. لكن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت مختلفة تمامًا عن حقبة ما بعد عام 1989.

ففي مرحلة ما بعد عام 1945، وفي مناطق واسعة من العالم، كانت فرنسا والمملكة المتحدة لا تزالان تتمتعان بإمبراطوريات رسمية وبالتالي تأثير عميق. وسرعان ما قدم الاتحاد السوفيتي نفسه كمنافس للقوة العظمى، منافسًا لنفوذ واشنطن في كل ركن من أركان الكوكب. ونذكر أن عبارة “العالم الثالث” مشتقة من التقسيم الثلاثي للأرض، العالم الأول هو الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والعالم الثاني: الدول الشيوعية. فيما كان العالم الثالث في كل مكان آخر، حيث كانت كل دولة تختار بين النفوذ الأمريكي والسوفييتي، وبالنسبة للعديد من سكان العالم، من بولندا إلى الصين، كان القرن بالكاد يبدو أمريكيًا.

كان من الصعب في البداية اكتشاف تفوق الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، كما أشرت في مجلة نيويوركر في عام 2002، فقد فات معظم المشاركين ذلك. في عام 1990، جادلت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، بأن العالم كان ينقسم إلى ثلاثة مجالات سياسية، يهيمن عليها الدولار والين والمارك الألماني. فيما تنبأ كتاب هنري كيسنجر عام 1994: “الدبلوماسية”، ببزوغ فجر عصر جديد متعدد الأقطاب.

بالتأكيد في الولايات المتحدة، كان هناك القليل من الانتصار، وتميزت الحملة الرئاسية لعام 1992 بشعور بالضعف والتعب. حيث انتهت الحرب الباردة، وكان بول تسونجاس Paul Tsongas، المرشح الديمقراطي الأمل، يردد مراراً وتكراراً: “لقد فازت اليابان وألمانيا”، حيث بدا وكأن آسيا تتحدث بالفعل عن “قرن المحيط الهادئ”.

كان هناك استثناء واحد لهذا التحليل، وهو مقال قديم في صفحات هذه المجلة من قبل المفكر المحافظ تشارلز كراوثامر Charles Krauthammer: “لحظة القطب الواحد”، والذي نشر في عام 1990. ولكن حتى الانتصار كان محدوداً في اتساعه، ومجرد مقترح عنوان. واعترف كراوثامر في عموده بأن “اللحظة أحادية القطبية ستكون قصيرة”، متنبأً في عمود نشر في الواشنطن بوست بأن ألمانيا واليابان، وهما “القوى العظمى الإقليمية الناشئة”، ستتبعان سياسات خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة.

رحّب صناع السياسة بتراجع الأحادية، التي افترضوا أنها وشيكة، وفي عام 1991، عندما بدأت حروب البلقان، أعلن جاك بوس، رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي: “هذه هي ساعة أوروبا”. وأوضح: “إذا تمكن الأوروبيون من حل مشكلة واحدة، فستكون مشكلة يوغوسلافيا، فهذا بلد أوروبي، ولا يعود للأميركيين”. لكن اتضح أن الولايات المتحدة هي وحدها التي تملك القوة والنفوذ المشتركين للتدخل بفعالية والتصدي للأزمة.

وبالمثل، مع نهاية التسعينيات، عندما أدت سلسلة من الذعر الاقتصادي إلى وضع اقتصاديات شرق آسيا في أزمة عابرة، فإن الولايات المتحدة هي وحدها التي كانت قادرة على تثبيت النظام المالي العالمي. فقد نظمت خطة إنقاذ دولية بقيمة 120 مليار دولار لصالح الدول الأكثر تضرراً، وحلت الأزمة. ووضعت مجلة تايم ثلاثة أمريكيين، هم: وزير الخزانة روبرت روبن، ورئيس الاحتياطي الفيدرالي آلان جرينسبان، ونائب وزير الخزانة لورانس سامرز، على غلافها تحت عنوان “لجنة إنقاذ العالم”.

بداية النهاية:

تماما كما نمت الهيمنة الأمريكية في أوائل التسعينيات في حين لم يلاحظ أحد ذلك، ففي أواخر التسعينيات قامت بما من شأنه تقويضها، بينما كان يتحدثون عن الولايات المتحدة باعتبارها “الأمة التي لا غنى عنها” و “القوة العظمى الوحيدة في العالم”. في هذه الأثناء، كان هناك صعود للصين، ومن السهل أن نرى بأثر رجعي أن بكين ستصبح المنافس الجدي الوحيد لواشنطن، لكن ذلك لم يكن واضحًا منذ ربع قرن. وعلى الرغم من أن الصين قد نمت بسرعة منذ الثمانينيات، فقد فعلت ذلك من قاعدة منخفضة للغاية، وقليل من الدول كان قادراً على مواصلة هذه العملية لأكثر من عقدين، وبدا مزيج الصين الغريب من الرأسمالية واللينينية هشًا، كما كشفت انتفاضة ميدان تيانانمن.

لكن نهضة الصين استمرت، وأصبحت البلاد القوة العظمى الجديدة، وذلك بقوة وطموح مطابق للولايات المتحدة. فيما تحولت روسيا، من جانبها، من الضعف والهدوء في أوائل التسعينيات إلى أن أصبحت قوة انتقامية، ومخربٍ يتمتع بقدرة كافية ومكر للدفاع عن نفسه، ومع وجود فاعلين عالميين رئيسين خارج النظام الدولي الذي شيدته الولايات المتحدة، دخل العالم مرحلة ما بعد الولايات المتحدة. رغم أنه لا تزال الولايات المتحدة أقوى بلد على هذا الكوكب، لكنها موجودة في عالم من القوى العالمية والإقليمية التي يمكنها -وفي كثير من الأحيان- أن تدفعها إلى التراجع.

قامت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، إلى جانب صعود الإرهاب الإسلامي، بدور مزدوج في تراجع الهيمنة الأمريكية. في البداية، بدا أن الهجمات حفزت واشنطن لحشد قوتها. ففي عام 2001، اختارت الولايات المتحدة، التي لا تزال أكبر اقتصاديًا من البلدان الخمسة التالية مجتمعة، زيادة إنفاقها الدفاعي السنوي بمبلغ في حدود 50 مليار دولار، وكان أكبر من ميزانية الدفاع السنوية للمملكة المتحدة بأكملها. وعندما تدخلت واشنطن في أفغانستان، كانت قادرة على الحصول على دعم ساحق للحملة، بما في ذلك من روسيا.

وبعد عامين، على الرغم من العديد من الاعتراضات، كانت لا تزال قادرة على تشكيل تحالف دولي كبير لغزو العراق. لقد كانت السنوات الأولى من هذا القرن بمثابة ارتقاءٍ عالٍ للإمبريالية الأمريكية، حيث حاولت واشنطن إعادة تشكيل الأمم الأجنبية بالكامل -أفغانستان والعراق- وذلك على بعد آلاف الأميال، على الرغم من بقية دول العالم الرافضة أو المعارضة بحدة.

كان العراق بشكل خاص نقطة تحول، حيث شرعت الولايات المتحدة في حرب اختيار، رغم المخاوف التي أعرب عنها بقية العالم. إذ حاولت إقناع الأمم المتحدة بالمصادقة على مهمتها، وعندما ثبت صعوبة ذلك، استغنت عن المنظمة بالكامل. وتجاهلت عقيدة باول (الفكرة التي أصدرها الجنرال كولن باول أثناء رئاسته لرؤساء الأركان المشتركة خلال حرب الخليج: بأن الحرب تستحق المجازفة، فقط إذا كانت المصالح الوطنية الحيوية على المحك، وتأكد النصر الساحق).

في هذه الأثناء، أصرت إدارة بوش على أن التحدي الكبير المتمثل في احتلال العراق، يمكن القيام به بعدد صغير من القوات، وبتدخل محدود، وقيل إن العراق سيمول هذا الحرب من تلقاء نفسه. وفجأة من بغداد، قررت واشنطن تدمير الدولة العراقية، وتم حل الجيش وتطهير الجهاز البيروقراطي، وهو ما أنتج الفوضى التي ساعدت في تأجيج التمرد، وكان من الممكن التغلب على أي من هذه الأخطاء، لكنه كان من المؤكد أن العراق تحول إلى إخفاق مكلف.

بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، اتخذت واشنطن قرارات كبيرة ما زالت تسعى لتحقيقها، لكنها اتخذت كل هذه القرارات على عجل وبخوف. لقد رأت نفسها في خطر قاتل، وأنها تحتاج إلى القيام بكل ما يلزم للدفاع عن نفسها، من غزو العراق إلى إنفاق مبالغ لا حصر لها على الأمن الداخلي، إلى ممارسة التعذيب. وشهد بقية العالم دولة كانت تعاني من نوع من الإرهاب كان يعيش معه الكثيرون لسنوات، ومع ذلك كانت تتجول كأنها أسد جريح، تهدم التحالفات والقواعد الدولية.

في السنتين الأوليين، ابتعدت إدارة جورج دبليو بوش عن الاتفاقيات الدولية أكثر من أي إدارة سابقة. (مما لا شك فيه، تم تجاوز هذا السجل الآن في عهد الرئيس دونالد ترامب). وحطم السلوك الأمريكي في الخارج، أثناء إدارة بوش، السلطة المعنوية والسياسية للولايات المتحدة، حيث وجد الحلفاء القدامى مثل كندا وفرنسا أنفسهم على خلاف معها، جوهره الأخلاق وأسلوب سياستها الخارجية.

الهدف في مرمى الذات:

إذاً، ما الذي أدى إلى تآكل الهيمنة الأمريكية، أكان صعود منافسين جدد أم التوسع الامبراطوري؟ وكما هو الحال مع أية ظاهرة تاريخية كبيرة ومعقدة، ربما يكون الجواب كل ما سبق.

كان نهوض الصين أحد تلك التحولات التكتونية في الحياة الدولية، التي كانت ستؤدي إلى تآكل قوة أية هيمنة لا نظير لها، بغض النظر عن مدى مهارتها في دبلوماسيتها. لكن عودة روسيا كانت قضية أكثر تعقيدًا. من السهل أن ننسى الآن، ولكن في أوائل التسعينيات، كان القادة في موسكو مصممين على تحويل بلادهم إلى ديمقراطية ليبرالية وأمة أوروبية وحليف للغرب. فيما ساند إدوارد شيفرنادزه، الذي كان وزيراً للخارجية خلال السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفيتي، حرب الولايات المتحدة ضد العراق في الفترة 1990-1991. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان أول وزير خارجية روسي، أندريه كوزيريف، ليبراليًا أكثر تحمسًا وأمميًا وداعمًا قويًا لحقوق الإنسان.

من خسر روسيا هو سؤال لمقال آخر. لكن تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن واشنطن منحت موسكو بعض المكانة والاحترام، كتوسيع مجموعة السبع إلى مجموعة الثماني، على سبيل المثال، إلا أنها لم تأخذ حقًا مخاوف روسيا الأمنية على محمل الجد. حيث تم توسيع الناتو بسرعة وبشكل جنوني، وهي عملية ربما كانت ضرورية لدول مثل بولندا، وكانت غير آمنة تاريخياً وتهددها روسيا، لكنها استمرت بشكل غير متصور، مع القليل من الاهتمام بالحساسيات الروسية، فيما تمتد حاليا إلى مقدونيا.

اليوم، يجعل السلوك العدواني للرئيس الروسي فلاديمير بوتين كل إجراء يتخذ ضد بلده يبدو مبررًا، لكن الأمر يستحق السؤال: ما هي القوى التي أنتجت صعود بوتين وسياسته الخارجية في المقام الأول؟ مما لا شك فيه، أنها كانت في الغالب داخلية لروسيا، ولكن إلى الحد الذي كان لإجراءات الولايات المتحدة تأثير ضار، ما ساعد في تأجيج قوى الانتقام والنزعة الانتقامية في روسيا.

كان أكبر خطأ ارتكبته الولايات المتحدة خلال لحظتها أحادية القطب، مع روسيا وبشكل عام، مجرد التوقف عن الاهتمام. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أراد الأمريكيون العودة إلى ديارهم، وقد فعلوا ذلك. فخلال الحرب الباردة، ظلت الولايات المتحدة مهتمة بشدة بالأحداث في أمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا ومضيق تايوان وحتى أنجولا وناميبيا. وبحلول منتصف التسعينيات، فقدت كل الاهتمام في العالم.

هبطت عمليات بث المكاتب الأجنبية التي تبثها شبكة NBC من 1013 دقيقة في عام 1988 إلى 327 دقيقة في عام 1996. (اليوم، تكرس الشبكات الرئيسة الثلاث مجتمعة نفس القدر من الوقت لقصص المكاتب الأجنبية كما فعلت كل شبكة فردية في عام 1988).

ولم يكن لدى الكونغرس أثناء إدارة جورج بوش الأب رغبة لأي جهد طموح لتغيير روسيا، ولا مصلحة في طرح نسخة جديدة من خطة مارشال أو الانخراط بعمق فيها. وحتى في خضم الأزمات الاقتصادية الخارجية التي عانت منها إدارة كلينتون، كان على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يتدافعوا ويرتجلوا، مع العلم أن الكونغرس لم يخصص أي أموال لإنقاذ المكسيك أو تايلاند أو إندونيسيا. لقد قدّموا النصيحة، وكان معظمها مصمم ليتطلب القليل من المساعدة من واشنطن، وكان موقفهم موقف قوى عظمى بعيدة، وليس موقف قوة عظمى منخرطة في الأمر.

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، أرادت الولايات المتحدة تغيير العالم، وفي التسعينيات، بدا ذلك ممكنًا أكثر من أي وقت مضى. كانت البلدان في جميع أنحاء الكوكب تتجه نحو الطريقة الأمريكية. ويبدو أن حرب الخليج الثانية مثلت علامة فارقة جديدة للنظام العالمي، حيث تمت الاستناد إليها في عملية صناعة نموذج محدود في نطاقه، أقرته القوى الكبرى وشرعه القانون الدولي. لكن في ظل هذه التطورات الإيجابية، فقدت الولايات المتحدة الاهتمام.

وما زال صناع السياسة في الولايات المتحدة يريدون تغيير العالم في التسعينيات، ولكن بثمن بخس، لم يكن لديهم رأس المال السياسي أو الموارد اللازمة لتقديم هذا الجهد. كان ذلك أحد الأسباب التي أنتجت نصيحة واشنطن للدول الأجنبية دائمًا: العلاج بالصدمات الاقتصادية والديمقراطية الفورية. أي شيء أبطأ أو أكثر تعقيدًا – أي شيء، وبكلمات أخرى، بما يشبه الطريقة التي حرر بها الغرب نفسه وبنى اقتصاده ودمقرط سياساته، لأي شيء سوى ذلك كان غير مقبول.

قبل الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، عندما واجهت الولايات المتحدة التحديات، كان التكتيك الأمريكي يتمثل في الغالب في الهجوم من بعيد، ومن هنا جاء الأسلوبان التوأمان المتمثلان في العقوبات الاقتصادية والغارات الجوية الدقيقة. كلاهما، كما كتب العالم السياسي إليوت كوهين عن القوة الجوية Eliot Cohen، كان له خصائص الانخراط الحديث: “الإرضاء دون التزام”.

بالطبع، هذه القيود على استعداد الولايات المتحدة لدفع التكاليف وتحمل الأعباء لم تغير خطابها، وهذا هو السبب، في مقالة لمجلة نيويورك تايمز في عام 1998، أشرت فيها إلى أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تم تحديدها من خلال ما قلته بأن: النتيجة كانت “هيمنة جوفاء”. واستمرت هذه الهالة منذ ذلك الحين.

الضربة النهائية:

قامت إدارة ترامب بتفكيك السياسة الخارجية للولايات المتحدة أكثر فأكثر، وكانت غرائز ترامب ضمن النزعة الجاكسونية، حيث لم يكن مهتماً بالعالم إلى حد كبير، إلا بقدر ما يعتقد أن معظم البلدان تُغضِب الولايات المتحدة. إنه قومى، وحمائي، وشعبوي، مصمم على وضع “أمريكا أولاً”.

لكن بصدق، لقد تخلى عن هذا المجال أكثر من أي شيء آخر، وتحت إدارة ترامب، انسحبت الولايات المتحدة من شراكة عبر المحيط الهادئ ومن التعامل مع آسيا بشكل عام. إنها تنفصل عن شراكتها التي دامت 70 عامًا مع أوروبا. وتعاملت مع أمريكا اللاتينية من خلال منظور إما إبعاد المهاجرين أو الفوز بأصواتهم في فلوريدا. كما نجح في تنفير الكنديين (ولم يكن عملاً بطولياً).

وقد تعاقدت من الباطن على سياسة الشرق الأوسط مع إسرائيل والسعودية، مع استثناءات قليلة متهورة، مثل الرغبة النرجسية في الفوز بجائزة نوبل من خلال محاولة صنع السلام مع كوريا الشمالية، وباستثناء ذلك، فإن أبرز ما يميز السياسة الخارجية لترامب هو غيابها.

عندما كانت المملكة المتحدة القوة العظمى في عصرها، تآكلت هيمنتها بسبب العديد من القوى الهيكلية الكبيرة -صعود ألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي-. لكنها فقدت أيضًا سيطرتها على امبراطوريتها من خلال التغطرس والإكراه. غفي عام 1900، مع خضوع ربع سكان العالم للحكم البريطاني، كانت معظم المستعمرات الرئيسة في المملكة المتحدة تطالب فقط بالحكم الذاتي المحدود – “وضع السيادة” أو “الحكم الداخلي”. وسرعان ما منحت المملكة المتحدة ذلك لجميع مستعمراتها، من يدري ما إذا كانت ستتمكن من إطالة عمرها الإمبراطوري لعقود من الزمن؟ لكنها لم تصر على مصالحها الضيقة والأنانية بدلاً من استيعاب مصالح الإمبراطورية الأوسع.

هناك تشابه هنا مع الولايات المتحدة، لو كان البلد يتصرف بشكل أكثر اتساقًا في السعي لتحقيق المصالح والأفكار الأوسع نطاقًا، لكان قد استمر في التأثير على مدى عقود (وإن كان ذلك بشكل مختلف). فيما تبدو قاعدة تمديد الهيمنة الليبرالية بسيطة: “كن أكثر ليبرالية وأقل هيمنة”. لكن في كثير من الأحيان وبوضوح، سعت واشنطن إلى تحقيق مصالحها الذاتية الضيقة، مما أدى إلى تنفير حلفائها وتشجيع خصومها.

وعلى عكس المملكة المتحدة في نهاية حكمها، فإن الولايات المتحدة ليست مفلسة أو مفرطة الإمبريالية، وتبقى البلد الأقوى على هذا الكوكب. وستستمر في ممارسة نفوذ هائل، أكثر من أي دولة أخرى. لكنها لن تحدد وتهيمن على النظام الدولي كما فعلت منذ ثلاثة عقود تقريبًا.

ما تبقى إذن هو الأفكار الأمريكية، حيث كانت الولايات المتحدة مهيمنة فريدة من نوعها، من حيث أنها وسعت نفوذها لإقامة نظام عالمي جديد، وحلم كان يحلم به الرئيس وودرو ويلسون، وتصوره الرئيس فرانكلين روزفلت بشكل كامل. إنه العالم الذي تم إنشاؤه جزئياً بعد عام 1945، والذي يطلق عليه أحيانًا “النظام الدولي الليبرالي”، والذي انشق عنه الاتحاد السوفيتي لبناء مجاله الخاص.

لكن العالم الحر استمر خلال الحرب الباردة، وبعد عام 1991، توسع ليشمل معظم أنحاء العالم، وأنتجت الأفكار التي خلفها الاستقرار والازدهار على مدار ثلاثة الأرباع الماضية من القرن. والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان النظام الدولي الذي رعته -القواعد والأعراف والقيم- سينجو، مع تراجع القوة الأمريكية. أم هل ستراقب الولايات أيضًا تراجع امبراطوريتها من الأفكار؟

للعودة إلى النص الأصلي، انظر:

Fareed Zakaria, “The Self-Destruction of American Power: Washington Squandered the Unipolar Moment”, Foreign Affairs, July/August 2019.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي