شارك المقال
  • تم النسخ

“إمارة البئر” رواية تُدشن لأدب الصحراء في نسخته المغربية

نورالدين لشهب

إذا كانت من علامة ستُحسب لرواية “إمارة البئر” لصاحبها محمد سالم الشرقاوي، الباحث والإعلامي المغربي، فهي كونها اقتحمت مجال الصحراء الواسع المُمتد، لتُغني المتخيل السردي المغربي بتفاصيل نعرفها ونجهلها في آن، فيُبعد عنا، بإصرار وترصد، الصورة النمطية التي ارتسمت في خيالنا عن “صحرائنا” المُتمنعة، الهائمة، الحالمة، الجَحُود..

الصحراء في رواية “إمارة البئر”، الصادرة حديثا عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، جميلة في وحشتها، وموحشة في جمالها، غنية في جفائها، وجافية في غناها، قريبة في بعدها وبعيدة في قربها، هي طيعة وقاسية في الآن نفسه، فلا يشعر المتلقي أنه إزاء منطقة معزولة لا يعرف عنها إلا ما تتناقله الألسن عن كون هذا المجال “عبارة عن غابات وبراري موحشة تملؤها السباع والضباع والحيوانات المفترسة، مما تدل عليه أسماء هذه المناطق كأم الضبع، وبئر السبع ووادي النعام، وتحسب أن الناس يسكنون الخيام، ويركبون الإبل والحمير، ولهم عادات غذائية خاصة بهم، ويتحدثون لغة محلية لا يفهمها أحد سواهم”، على حد ظن زوجة أحد أبطال الرواية (ص 233).

وحيث إن “الإمارة” أخاذة بروحها ونفسها الإبداعي المُبهر، فقد نقلنا كاتبها إلى فضاءات الصحراء، لنستمتع معه بعمق التنوع المغربي، القوي بروافده الثقافية واللغوية، فيأسرنا عالم الصحراء الساحر من خلال معيش الناس وحركتهم، في انسجام بين “الأكسسوارات” التي وظفها الكاتب ليشدنا إلى عالمه، وهو يمنحنا القوة والصبر لنستزيد من “المعرفة الصحراوية” بجمالياتها، وهي التي تعطي الانطباع بقساوتها ووحشتها.. تقول الرواية: “يلتفت منصور باحثا عن جيران جدته (بنت أخوالها)، ولا تقع عيناه إلا على الفيافي المقفرة على مدّ البصر، فيُدرك أن المرأة بلغت درجة كبيرة من الحكمة، وأنها أصبحت لا تقدر على نسيان ذكرياتها مع أحبتها، التي تمتد في تلك الأمكنة المترامية، فتغدو قريرة العين، وتروح هانئة البال ورائقة الجوى، مع من تآنسهم وتستأنس بهم”، (ص 98).

وحيث إننا في الصحراء، فإنه يجدر بنا أن نبحث عن أسباب الحياة التي بناها الكاتب في عالمه الروائي في “إمارة البئر” على تيمة الماء، من خلال البئر التي أسسها جد قبيلة “أعرابات” الصحراوية في بلدة “بئر السبع” لتُقام حولها حياتهم ويرتبط بها مصيرهم، فنجد صاحبنا يُمعن في إبهارنا حين يُقرر، ذات لحظة، أن يجعل مياه البئر الوحيدة تنضب تدريجيا لتصبح غير صالحة للاستعمال، فيختلف الناس حول كيفية التعامل مع هذا المستجد الخطير الذي قد يرهن حياتهم، وربما يحكم عليهم الرحيل.

لذلك يقول الكاتب مفسرا هذا الإحساس: “في حقيقة الأمر، لا يقبل أهل بلدة بئر السبع أي حديث سيء عن بئرهم. ومنهم من لا يُصدق ما يقال عن تلوث المياه. حتى إن بعضهم كان يسأل الفقيه باحسين عن حُكم من (يكفُر بالنِّعم). فالبئر بالنسبة للسكان هو المصدر الوحيد للمياه، ومصدر الرزق لديهم. فكيف يُسمح بتداول الإشاعات المغرضة التي تمس سمعته الطيبة التي ترسخت على مدى عقود طويلة”، (ص 104).

وتتمحور أحداث الرواية – التي تقع في ثلاثة فصول – حول تيمة الماء، حيث يترك الكاتب الحرية لأبطاله، ليتمثل كل منهم هذا الموضوع من وجهة نظره. لذلك ستأتي صفحات الرواية متضمنة حضورًا مكثفًا لبئر الماء بواقعية لا تغيب عنها المعتقدات الأسطورية الممزوجة بقيم الفلسفة والتصوف أحيانا، في تجسيد لهذا المعنى في المتخيل الصحراوي، شأنه في ذلك شأن باقي مناطق المغرب الأخرى، التي يحضُر فيها المعتقد الروحي بقوة.

ولذلك وجدنا من بين من قرر النزوح إلى “الرقيبة” حيث ضريح جد القبيلة “سيدي المختار لعريي” من يعتقد في كرامات “الشيخ” وقدرته على إرجاع مياه البئر إلى صبيبها المعتاد، كما أوعز بذلك متزعم هذا التيار الراعي “لمغيفري”، وهو يصطدم بواقعية الضابط منصور السٍّيود وابنه محمد الشيخ الشّراد بصفته “آمر البئر”، ومعهما “الخليفة” عُمر الصَّافي، الذين أكدوا، من دون مواربة أو تردد، أن للبلدة “ربّا يحميها”، وهو قادر على تأمين المياه لساكنيها من دون الحاجة لترك الديار.

وإذا كان لا بد لحضور البُعد “السياسي” في الحكاية، فإن الكاتب قد أظهر تهيُّبا مفهوما في بعض أطوارها، لاسيما حين يصل إلى مفترق الرواية مع الإعلان عما أسماه “الزحف العظيم”، كناية عن حدث المسيرة الخضراء، الذي سيطبع مرحلة مهمة من تاريخ المغرب، فيخرج من هذا “التمرين” برشاقة واتزان، لم تظهر مؤثراته البتة على المتن الروائي المرتبط بتمية الماء، بل زادته قوة وتماسكا.

جاء في الرواية: “كتب محمد عالي في مذكراته عن الحشود، وتساءل عمَّا سيلزم المشاركين من قوارير و(غالونات) المياه! التي يمكن أن تسد حاجة الجمع الغفير القائم في الساحة الرئيسية حول أعلام ملونة ارتفعت في المقدمة وسار خلفها أشخاص بلباس غير الذي تعود الولد على رؤيته في بلدته وفي المدينة المجاورة التي يدرس بها، بينما انبرى جمع آخر في مكان غير بعيد لأداء الصلاة خلف إمام كان صوته بالكاد يُسمع في الصف الأول، وسط غبار كثيف غطّى المساحة برمتها”، (ص 266).

وفي لُجة الأحداث وتصارعها، تتبدى لك نفسية الكاتب، الذي اختبار أن يضع لنفسه، فيما يبدو، حدودا للوصف، لم يستطع أن يتجاوزها، وكأنه يخاف الوقوع في المحظور، فلا تنزلق الحكاية إلى ما قد يسيء لصاحبها ولشخصياته التي رسم لها إطارا “أخلاقيا” محددا تحدُّه قيم البادية المعروفة بالحدس، والفراسة، والمحافظة، والاتزان، وبُعد النظر.

منذ البداية سنفهم حدود السلوك الذي يؤطر “أصل الحكاية ووصلها وفصلها” (عناوين الفصول الثلاثة)، ومعها نتفهم رغبة الكاتب ونحترم مقاصده في أن يبقى وفيا لقيم، سيتقاسمها معه، في الواقع، قراؤه، حين يُعرفنا، بأدب وكياسة، على بعض ملامح المجتمع الصحراوي وطبائعه، فيقول: “كانت الزوجة تشير إلى زوجها النائم، ولكنها لم تكن لتناديه باسمه على الملأ، لأن ذلك كان يتعارض مع قيم الأدب والحشمة التي تربت عليها في بيئة العفة والوقار، التي تفرضها قوانين البادية، على غرار ما تفرضه على الرجال والأولاد والبنات من التزامات يتعين التقيد بها وعدم الخروج عنها”.

ثم يضيف: “ففي مجالس الرجال لا يتقدم الصغار أبدا. بل يجلسون في مكان مخصص لهم. ولا يتمدد الابن أمام والده، ولا يضم الأب أبناءه أمام جدهم، ولا تتناول النساء والرجال الطعام في صحن واحد، حتى ولو اقتصر الأمر على أفراد العائلة الواحدة. بل تجد الزوجة في مكانها تتناول طعامها مع بناتها بعيدا عن الزوج والأبناء الذكور، الذين يُخصص لهم مكان آخر يفصله ستار، يتوسط الخيمة، عن فضاء السيدات”، (ص 35).

وإذا كانت “إمارة البئر”، وهي المرشحة لتكون سيرة ذاتية للكاتب، لكونها تمثل الجزء الأول من ثنائية وسمها بـ “السيرة والإخلاص”، قد عمدت إلى اختيار تكثيف القيم الاجتماعية في الصحراء، بدء من منطقة “بئر السبع”، التي قد تكون هي البلدة التي وُلد فيها الكاتب، فإنها مع ذلك لم تسقط أبدا في أسلوب التقريرية الفجة التي قد نفهم منها أن صاحبها يركب مغامرة الأدب لتحقيق مقاصد أخرى، وإن كنا لا نعرف عن صاحبنا ميولا أدبية إلا ما يخطه من مقالات متخصصة في الصحف والمجلات.

ذلك أن أي عمل أدبي لا تكتمل جماليته إلا بتحقيق ميزة فارقة تميزه ضمن الجنس الذي ينتمي إليه. وهو ما نلمسه في إمارة البئر، التي أظهرت صرامة صاحبها في احترامه لمعايير السرد المعروفة، من دون تقريرية قد تعطي الانطباع بأنه قد تأثر بالمدارس المعروفة التي اهتمت بأدب الصحراء، أو اشتغلت في مجالها. لم لا وهو نفسه يتحدر من هذا المجال، فتطاوعه لغته الفياضة ويُسعفه لسانه الفصيح.

ولذلك نستطيع التنويه بأن هذا العمل الأدبي المغربي جدير بأن يضيف للمكتبة الوطنية المغربية موضوعا جديدا لاشتغال الأدباء على تيمة من التيمات غير الدارجة، يكون مجالها “أدب الصحراء”، برحابته وغنى روافده، التي تتوزع على الحكاية الشفوية، والمعاني، والأمثال، والشعر، والموزون، والعمل على نقلها إلى حكايات وقصص مكتوبة يستفيد منها الدارسون، وقد تُدرج، بقليل من الحظ، في مسالك التدريس ومناهجه، حتى تتعرف عليها الأجيال بشكل يليق بها وبعمقها.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي