شارك المقال
  • تم النسخ

من الغفران إلى التجليات…أسفار الغيب ورحلات البرزخ

أول ما تعرفت على ابن عربي كان من خلال كتاب الشيخ عبد السلام ياسين ” الاسلام غدا ” في بداية تسعينات القرن الماضي وهو من أوائل ما كتبه من كتبه الأولى النادرة ، وفيها يتجلى النفس الصوفي واضحا قبل أن يطغى عليه الجانب الحركي والدعوي ، وقد أفرد فيه فصلا خاصا تكلم فيه عن الشيخ. الأكبر ، لكنه فتح علي باب القمقم ولم يشف الغليل ، فأصبحت مهووسا بغوامضه، وألغازه، فرحت أهيم على وجهي بمكتبات الطالعة الصغيرة بالمدينة القديمة بفاس ، أجمع كتبه ورسائله وكتب شارحيه ربيبه صدر الين القونوي. وابن سودكين والقيصري والنابلسي ، وابن صائن التركة ، والقيصري وعبد الباقي فتاح، والغراب، ومحقيقي مخطوطاته، الدكتور. أبي العلاء عفيفي وابراهيم مذكور ، وعبد العزيز سلطان المنصوب وكلود عداس في كتابه الرائع ابن عربي سيرته وفكره وميشيل شودكيفتش في كتابه الماتع بحر بلا ساحل ، وخلال هذه الرحلة الطويلة من العشق والحب والبحث صادفت أكبر محقق له وهو الأستاذ الكبير عثمان يحيى واليوم وقع بصري على كتاب التجليات الإلهية وأنا أقلب الكتب في رفوف مكتبتي وهي بالمناسبة المكان العزيز على نفسي وأحب الي من نفسي ، أجد فيها روحي وطمأنينتي وراحتي من تعب البحث الحثيث عن السراب ووصب الحياة ،وكدرها، حملت هذا الكتاب أحسست بقشعريرة لذيذة تنتابني فبدأت أتصفح أوراقه، وأقرأ فصوله.

وقد كتب الشيخ الأكبر. كتاب التجليات الإلهية بعد سفره من الأندلس إلى المشرق الاسلامي بعد أن استقر به المقام بمحروسة دمشق سنة 620 هجرية ويشبه هذا الكتاب من حيث المبنى كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، وهذا الكتاب هو كتاب التجليات الإلهية ، الفرق أن. المعري كان يتجول في الجنة وموقف الحشر. والجحيم ، ويلتقي بالشعراء فيجري معهم محادثات ومناظرات حول الشعر. ، وذكر القصائد والمناسبات ، وقد استهلُ أبو العلاء رسالته بذكر الأثر الطيب لرسالة ابن القارح في نفسه، فيصف لنا المنزلة التي وصل لها ابن القارح في الدار الآخرة، كما يصنف مراتب الشعراء في الجنة والنار وبما شفع لهم من أشعارٍ أنزلتهم منازل رياض الجنة كزهير بن أبي سُلمى. فالخيال في هذه الرسالة مزين ببريقٍ من هدي الواقع،.، قد تأثر بهذه الرسالة دانتي في مسرحيه الخالدة الكوميديا الإلهية.

أما كتاب التجليات الإلهية فيقول عنه المحقق الأكبر والأعمق لثرات الشيخ ابن عربي السوري عثمان يحيى بأنه قد صيغت فصوله في قالب حوار بين الشيخ الأكبر في عالم البرزخ بين من تقدمه من شيوخ التصوف الأوائل ،ويبدو محيي الدين. في مطارحاته معهم في حضرة من حضرات الحق أو مشهد من المشاهد القدسية بصورة شخص غريب عن بيئته وزمانه…. ويسترسل فيقول : فكذلك تلذ مسامعنا لهذا الحوار العجيب مع شيخ الطائفة الجنيد حول “توحيد الربوبية ” ولتلك المناظرة الممتعة مع شهيد التصوف الحلاج الكبير بشأن “تجلي العلية ” ولذلك الحديث العذب مع ذي النون المصري “في التنزيه والتشبيه”وجهي الحقيقة المطلقة في كمونها وظهورها ،في وحدثها زكثرتها وكذلك يتجلى لأعيمنا موقف ابن عطاء في “العبادة الذاتية ” وعجز سهل التستري عن إدراك معنى “سجود القلب الى الأبد “وحيرة المرتعشة إزاء التوحيد الحقيقي وينهي الدكتور عثمان يحيى تعليقه ،فيقول :إن هذه الصحف الخالدة من فصول كتاب التجليات يحق لها من الوجهة الأدبية الخالصة أن توضع في مصاف رسائل الغفران الفيلسوف الشعراء أبي العلاء العظيم .

حقا لقد كان المفكر والمحقق العبقري السوري سفير الشيخ الأكبر وشارح ومحقق نصوصه الملغزة ، فهو يعتبر من أكبر الأساتذة السوريين المتخصصين في نشر التراث الصّوفي، ويدين عثمان يحيى إلى أساتذته من المستشرقين الكبار الذين ساعدوه في رحلته العلمية، ومنهم المستشرق الفرنسي الشهير ماسنيون صاحب كتاب آلام الحلاج وهو الذي عرف باهتمامه بالآثار والنصوص الصوفية، وبلاشير الذي قرن اسمه بالأدب العربي والدراسات القرآنية، وهنري كوربان صاحب كتاب ابن عربي الخيال الخلاق ، والمستشرق الكبير لاووست.

وتعتب أطروحة عثمان يحيى لنيل شهادة الدكتوراة. من جامعة السوربون من أهم الدراسات الصوفية التي قام بها أحد الباحثين على ثلاث وفكر ابن عربي، ، وكان عنوانها «مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها»، وقد ترجمها للغة العربية شيخ الأزهر أحمد الطيب ، وقد شفعت هذه الرسالة برسالة أخرى حقق فيها نصّ «كتاب التجليات» لابن عربي، وهو الكتاب الذي بين يدي الآن ، وكان من الأعمال العلمية الرائدة. الراسخة عظيمة القدر تحقيقه كتاب «الفتوحات المكّية» وهو خلاصة المعارف العرفانية الروحية في الاسلام لم يكتب مثله قبله و لا بعده. ومن أجل ذلك تربع على عرش ختم الولاية. ولقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. كما سماه الشيخ عبد الوهاب الشعراني وقد أصدر منه الاستاذ عثمان يحيى محققاً أربعة عشر مجلداً من أصل سبعة وثلاثين، وكان عازما على إكماله ، ولو تم لكان الجوهرة الفريدة والدرة الفاخرة، لكن المرض اشتد عليه سنة 1997 فما لبث أن عاجلته المنية فتوفي وانتقل إلى جوار ربه ، ولم يستطع أحد الى الآن أن يكمل تحقيق الكتاب على نفس النفس و النهج ، رغم بعض المحاولات التي قام بها المحقق اليمني عبد العزيز سلطان المنصوب ،وقد نشر المرحوم برحمة الله الاستاذ عثمان يحيى كذلك تراث الحكيم الترمذي كتابه المهم جدا ختم الأولياء وكذلك من نصوص شيخ الإشراق السهروردي، وقد كان تحقيقه لكتاب التجليات الإلهية مع شرح صدر الدين القونوي وشرح ابن سودكين في الحاشية وكتاب فصوص الحكم وهو من أعظم التحقيقات لغاية الوقت الحاضر رحم الله الجميع.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي