شارك المقال
  • تم النسخ

مدونة الأسرة … في أحضان العلماء

صاحَب القرار الملكي القاضي بتشكيل الهيئة العليا المشرفة على تعديل المدونة، جدلٌ ولغط حول مكانة العلماء في هذه الدينامية الإصلاحية، حيث اعتبر الكثير من المتابعين والمهتمين أن القرار همّش العلماء من حيث التأسيس، وما لبث أن نُشرت الصورة الأولى لممثلي المؤسسات المشاركة في الهيئة، حيث كان الأستاذ محمد يسف في هامش الصورة، وهو ما عزز أطروحة التهميش وعضدها، يضاف إلى ذلك التصريحات الرعناء لوزير العدل ــ وهو فاعل رئيس في الهيئة ــ التي سبقت الحدث، كل هذه الحيثيات مجتمعةً جعلت المتتبعين يتحدثون عن علمنة المدونة وعن محاربة الدين في آخر معقل من معاقله.

شخصيا، لم أتأثر بهذه البروباغندا التي صاحبت الحدث، لسبب وحيد، وهو وقوفي مليا ــ بشكل لم أجده عند الكثيرين ــ مع الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة، وهي الرسالة التي دبجت بحكمة ودقة ورصانة، تدل بوضوح على أن المكلف بالإشراف الفعلي على هذا الورش في المربع الأعلى من صناعة القرار شخص حكيم ورزين ويعي إشكالات المدونة الحقيقية ويميز بينها وبين الإشكالات الوهمية التي لا أثر لها إلا على أوراق الجرائد وصفحات المواقع.

لنعد إلى الرسالة الملكية الموجهة إلى السيد رئيس الحكومة، سنجد فيها كلمات مفاتيح هي بمجموعها عبارات دالة على أن الإصلاح جزئي، وأن الهيئة ليست مكلفة بإخضاع المدونة في شموليتها تحت مبضع التشريح والتعديل.

تقول الرسالة الملكية المؤسِّسة للورش الإصلاحي: “إن مدونة الأسرة أضحت اليوم في حاجة إلى إعادة النظر بهدف تجاوز بعض العيوب والاختلالات التي ظهرت عند تطبيقها القضائي …”، وتقول الرسالة أيضا: “إن التأهيل المنشود يجب أن يقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة …”، وتقول الرسالة أيضا: “واعتبارا لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع …”.

فعلى مَ تدل هذه العبارات المركزية في الرسالة المؤطرة لهذا الورش الإصلاحي؟

بتتبعنا لهذه العبارات ندرك بالملموس أن الدوائر العليا للقرار تعتبر المدونة الحالية مدونة صالحة وسليمةً وليست في حاجة إلى إصلاح فقهي شرعي، وأنها تعرف خللا قانونيا وقضائيا فقط.

يتمثل الخلل القانوني في عدم مواءمة بعض بنود المدونة وموادها مع التطورات التشريعية متعددة الجوانب التي عرفها المغرب في العقدين الأخيرين.

ويتمثل الخلل القضائي في التطبيق القضائي لمواد المدونة.

ومعجم الرسالة الملكية يؤيد ما ذهبنا إليه في حينه، وإذا توقفنا عند عبارة: “إن التأهيل المنشود يجب أن يقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة …”، نلمس الآتي:

ــ استعملت الرسالة فعل “يجب” الدال على الإلزام.

ــ أضافت إلى الوجوب عبارة “أن يقتصر” الدال على القصر والحصر في مجال واحد وعدم تجاوزه إلى غيره.

وهذا ما لم يفهمه كثير من الفاعلين الذين ما فتئوا يقترحون على اللجنة مواضيع شاردة، كالمساواة بين الجنسين، أو إلغاء التعصيب، أو غيرها من الترهات التي سيقت تحت مسمى “الاجتهاد”.

وبالعودة إلى الرسالة المؤطرة لهذا الورش، نجدها لا تتجاوز منطوق النص الدستوري، حيث لم يعمد الملك إلى إحالة المشروع على لجنة خاصة خارج الحكومة، بل أسند الأمر إلى الحكومة باعتبارها صاحبة المبادرة التشريعية، وهذا ما لم تغفله الرسالة بقولها: “وطبقا لأحكام الفصل 78 من الدستور، فإن الحكومة مخولة لاتخاذ المبادرة التشريعية في هذا الشأن، وهي التي يعود لها أمر القيام بهذه المهمة”.

وبما أن مدونة الأسرة ليست نصا قانونيا كسائر النصوص التي تحال من الحكومة على البرلمان مباشرة، فإن الملك طالب الحكومة بعرض المقترحات ــ بعد تجميعها ــ على نظره قبل أن يعرضها على مصادقة البرلمان. هكذا نصت الرسالة، ولم تقل بأنه سيعرضها على المجلس العلمي الأعلى قبل العرض على البرلمان. فماذا حدث؟

يبدو أن المقترحات التي جمعتها الهيئة وقدمتها لرئيس الحكومة الذي قدمها بدوره إلى الملك قد تجاوزت الأرضية المؤطرة في “وجوب الاقتصار على الإشكالات القانونية والقضائية” المنصوص عليها في الرسالة، إذ لو اقتصرت المقترحات على هذا الجانب لما أحيلت على المجلس العلمي الأعلى لعدم اختصاصه، وكان حريا بها أن تحال على البرلمان صاحب الاختصاص في المصادقة على التعديلات التي تمس الجوانب القانونية والقضائية.

والإحالة على المجلس العلمي الأعلى بقدر ما تدل على عدم الرزانة، فإنها تدل على الرزانة أيضا.

ــ الإحالة على المجلس العلمي الأعلى تدل على عدم رزانة جهات ما داخل الهيأة، ولا أستبعد أن رعونات وزير العدل وإيديولوجيات رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان فرضتا الخروج عن منطوق “يجب أن يقتصر” إلى مجالات تختلف مع منطوق “إني لا أحل حراما ولا أحرم حلالا”.

ــ الإحالة على المجلس العلمي الأعلى تدل على رزانة الجهات التي تشرف على معالجة المشروع وتقلب النظر فيه داخل المربع الأول للحكم، وهي جهات لا تخضع للنزوات الإيديولوجية ولا تعيش تحت وطأة الضغط الفكري الوافد من الخارج.

وكما أن الإحالة على الحكومة كانت احتراما للفصل 78 من الدستور، فإن القضايا ذات الصبغة الدينية والفتوى المرتبطة بالشأن العام لا نقبلها ــ دستوريا ــ من الحكومة أو من البرلمان، لذا كانت الإحالة على المجلس العلمي الأعلى إجراء دستوريا وفاقا للفصل 41 من الدستور.

المدونة فوق طاولة المجلس العلمي الأعلى:

الآن، بعد إرجاع المقترحات إلى المجلس العلمي الأعلى، يمكننا أن نقرأ الإحالة باعتبارها رسائل متعددة، وأول رسائلها موجهة إلى متطرفي اللائكية بالمغرب، وأن مقترحاتهم لا يمكن قبولها إلا إن تجاوزت قنطرة المجلس العلمي الأعلى، وأن ضغطهم لا يمكن أن يتجاوز “لا أحرم ما أحله الله ولا أحل ما رحمه الله”.

ثاني الرسائل موجهة إلى المجلس العلمي الأعلى ذاته، فإن الإحالة عليه تتضمن عبارات يجب الوقوف عندها، وهي عبارات ليس بنت لحظتها، بل وردت في الرسالة المؤطرة لهذا الورش الإصلاحي، وهي الدعوة إلى “اعتماد فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البناء” المؤطر بسقف القاعدة السابقة “لا أحل ولا أحرم”.

فماذا نقرأ في هذه العبارة؟

أولا: لم تطالب الرسالة من علماء المجلس أن يتمسكوا ويتشبثوا بالمذهب المالكي.

ثانيا: هذا ما كنا نطالب به علماء المجلس في أكثر من مناسبة، ولا تجدهم إلا متمسكين بأقوال المذهب تمسكا أورثوذكسيا مملا، دون استعمال آلية الاجتهاد، ومن يقرأ بعض فتاوى المجلس يخالها صادرة عن فقهاء غرناطة في القرن التاسع.

ثالثا: العلماء مطالبون بالاجتهاد أولا، لكن، هل فيهم مجتهدون؟ أليس في علماء المجالس العلمية أناس نابذون للاجتهاد؟ أليس في علماء المجالس العلمية أناس ينَظّرون للتقليد وينتصرون له وفق أدبيات متأخري المذهب المالكي؟ فما عساهم أن يفعلوا اليوم؟ هل سيرفضون مطالبة الملك لهم بالاجتهاد؟ ثم كيف سيتعاملون مع أرثوذكسيتهم المالكية والملك يطالبهم بالاجتهاد المنفتح؟ هل سيقوون على الانفتاح وهم الذين ما فتئوا يكررون سيمفونيتهم بأن المذهب المالكي أفضل المذاهب ولا يفضله غيره؟

قد لا نبالغ إن قلنا بأن بعض علماء المجالس في واد والملك في واد آخر، لذا أرى من اللازم إحداث ثورة فكرية داخل المجلس العلمي الأعلى ليتوافق مع المشروع الملكي في دعوته إلى “الاجتهاد المنفتح البناء”.

والدعوة إلى الاجتهاد المنفتح قد يفهمها بعض علماء المجلس دعوة إلى التحلل من الأصول الكلية للشرع وفاقا للإسلام الإماراتي الطاغي هذه الأيام، لذا دعاهم الملك إلى “اعتماد فضائل الاعتدال”، وهي دعوة إلى عدم الركون إلى التطرف بنوعيه، التطرف في الركون إلى المذهب المالكي، والتطرف في الركون إلى أدبيات شحرور السوري والحاج حمد السوداني وغيرهما ممن ينبذ السنة ويدعو إلى هدم القرآن بالقرآن.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي