شارك المقال
  • تم النسخ

السجائر تسبب السرطان.. هل تكفي الحقائق وحدها لتغيير والإقلاع عن التدخين؟

مقدمة

أحيانا نُحبّ ما يُؤذينا، ونكره ما يَنفَعنا، ولعلّنا نُدمنُ ما يَضرُّنا ونشمئز ممّا يَشفينا. أحيانا نَرى الصواب لكنّنا نتجنّبه، ونرى الخطأ لكنّنا نُقدِم عليه، ذلك أن لنا أسبابنا الأخرى، الأكثر عُمقا، والتي قد تحرمنا القدرة على التراجع عن الخطأ، واتّخاذ القرارات الأكثر صوابا.

هل البَشر “كائنات عاقلة” حقّا؟ ولو كُنّا كذلك، فلماذا نعتاد على ممارساتٍ وسلوكياتٍ قاتلة وخطيرة ومؤذية؟ ولماذا نُؤمن ونتعلّق بما ثبتَ خطؤه بالفعل؟ ولماذا لا يُغيّر النّاس أفكارهم بالرغم من وجود الدلائل العقلية الواضحة أمامهم؟ ولماذا لا تُجدي الكثير من النقاشات والحوارات العقلية في تغيير قناعات الأهل أو الجيران أو الأصدقاء من حَولنا؟

بحسب منظّمة الصحّة العالَمية، يقتل تدخين السجائر 8 ملايين شخص سنويا حول العالَم، بالرغم من أنّ عُلَب التدخين مُرفَقة بها مُلصَقات تحذيرية توضّح خطورة التدخين وما يتسبّب به من أمراض وسرطانات ووفيات وعواقب صحّية، جُزئية وكُلّية. وبالرغم من الخلاصات العِلمية الواضحة التي تُشير إلى خطورة التدخين، فإنّ النّاس يُدخّنون السجائر وبكثرة، بالرغم من إدراكهم التامّ وعدم جهلهم بمخاطر التدخين وعواقبه الوَخيمة ذات الأثر المُباشِر على المُستوى الصحّي.

في الواقع، فإن أحد أكثر الأسئلة الملحّة في حقل العلوم الإنسانية، هو سؤال: هل الإنسان كائن عَقلاني؟ أي هَل يتّخذ الإنسان قراراته ويتبنّى مُعتقداته بناء على ما يظهر أمامه من أدلّة؟ وهل تزويد البشر بالقدر الكافي من المعلومات العِلمية والصحيحة يكفي للتأثير على معتقداتهم وسلوكياتهم؟

يُمكِن اختبار هذه الفكرة بشكلٍ بسيط ومباشر، فمثلا لو صحّت الفكرة القائلة بأنّ الإنسان كائن عَقلانيّ على إطلاقها، فهذا يعني أنّ تزويد أيّ مُدخِّن بدراسات علمية مُحكَمة تخبره بأنّ التدخين ضارّ بالصحة سيكون كَفيلا بجعل هذا المُدخِّن يترك التدخين. لكن ما يحدث هو أنّ النّاس لا يتركون التدخين لمُجرّد عِلمهم بهذه الحقائق، فبعضهم قد يُقرّ بالحقيقة ويخبركَ أنّه بالرغم من علمه بذلك فهو لَن يخطو خطوات حقيقية باتجاه ترك عادة التدخين، وبعضهم ربّما يشكّك بتلك المعلومات، والبعض الآخر قد يجعل من أضرار التدخين مسألة “احتمالات” لا تَعفي من المَوت الحَتمي الذي سيأتي على أيّ حال.

من هنا حَصَل إشكالٌ مَبدَئي بين تصوّرين حول الإنسان وسلوكياته، أحدها قادم من علم الاقتصاد، والآخر قادم من علم النفس. ويمكن أن نلخص هذا الاختلاف في التصوّرات عبر توضيح التنازع بين مَفهومَي الإنسان الاقتصادي (العَقلانيّ) (Homo-Economicus)، والإنسان النَفساني (العاطفيّ) (Homo-Psychologicus)، وهو اختلاف مَبدئي تجاه الكيفية التي سنُعرِّف بها سلوك الإنسان وآلية اتّخاذه قراراته.

كان التصوّر الكلاسيكيّ قائم على فكرة الإنسان الاقتصاديّ، والذي يعني أنّ الإنسان يقوم بحِسبَة عقلانية للخيارات المُتاحة أمامه، وفق المعلومات المُتوفِّرة لديه، ومن ثَمّ تقييم المَنافع والأضرار، وبناء على هذه الحِسبة يتخذ قراره. أمّا التصوّر الحديث المُسمّى بالإنسان النَفساني، فيعني أنّ الإنسان لا يتّخذ قراراته من خلال حِسبة عَقلانية للمُعطيات المُتوفّرة أمامه فحسب، وإنّما يتداخل في هذه الحِسبة بعض الانحيازات النفسية والرغبات العميقة التي تتحكّم بالنتائج، فنحن قد نتوصّل بحسبة عقلانية إلى ضرر سلوك التدخين، لكنّ رغبتنا وتعلّقنا بهذه العادة السلوكية، وحبّنا لما تمنحه لنا من صفاءٍ ذهنيّ وإزاحةٍ مؤقتةٍ للقلق، تجعلنا نقرّر في نهاية المطاف أنّنا سنستمرّ بالتدخين على أيّ حال.

كلّ إنسان حاولَ التخلّص من الوزن الزائد يعرف جيدا أن اتّباع حمية غذائية لتخفيف الوَزن مسألة أشبه بالحرب الشاملة على النفس ورغباتها. وهكذا تكون الحقائق العلمية عن خطورة الوَزن الزائد وأضراره واضحة أمامَكَ وضوح الشمس، بل أنتَ تُعاني منها دقيقة تلوَ الأخرى، وبإمكانِكَ إدراكُ هذا، بينما تُملي عليكَ رغباتُكَ وعواطفكَ أن تخرق الحِمية وأن تتناول مزيدا من الحلويات والوجبات السريعة.

لماذا نُمجِّد العقل ونقلّل من قدر المشاعر؟

لعلّك سمعتَ النّاس ينتقدون فُلانا بقولهم: “هذا شخصٌ عاطفيّ”، ويريدون بهذا أنّه يُفكِّر تفكيرا عاطفيا، تُسيطر فيه مشاعره على عقله، أو لأنّ عواطفه تَغْلب عليه في حياته اليومية. ولعلّ هذا الانتقاد فيه شيء من الصواب، حين يتعلّق الموضوع باتّخاذ قرارات مهمة، يجعل من الاندفاعية والانفعال والغضب أدوات تدمير تزيد من احتمالات الخطأ وتعقيد المسائل اليومية أو تفاقم المشكلات البسيطة.

فالعاطفيّ أو الشعوريّ قد يحمل في أذهاننا مَعاني رومانسية حين نريد مَدحَ أحدهم، أمّا حين نودّ انتقاده والتقليل من شأن أحكامه، فنحنُ نستخدم العاطفيّ أو الشعوريّ في سياق الانتقاد للأحكام الخاطئة غير المبررة. لكن ما الذي يجعل “العواطف” نقيضا للعقلانية؟ وما مدى صحّة هذا المُعتقد الضمني السائد الذي يجعل من “العاطفة” كما لو أنّها محلول كيميائيّ يُفسِد العقل، أو كما لو أنّ العاطفة عيب يخرق عملية التفكير ويُفقد أحكام العقل ونتائج التفكير شرعيتها؟

من المعلوم أنّ البشرية تنبّهت من مرحلة مُبكّرة إلى خطورة المشاعر والعواطف وأثرها على عملية التفكير واتّخاذ القرارات، ولكنّ هذه الفكرة أخذت مَجدها وبلغت ذروتها ومركزيتها خلال عصر التنوير، العصر الذي أعلى من شأن العقل حدّ تأليهه، وجعله مُتساميا على كلّ انفعال أو شعور أو عاطفة أو انحياز. وكان الفيلسوف الفرنسيّ إدغار مورغان قد وجّه نقدا حادّا إلى العقلانية الأوروبية في كتابه “ثقافة أوروبا وبربريتها”، وخاصّة حينما تتحوّل العقلنة إلى إلهٍ يُعبَد ويُؤدّى لذاته.

لآلاف السنين ظلّت الفلسفة الغربية تتحرّك ضمنَ إطارٍ نظريّ يُقدِّس العقل، ويُقلِّل من شأن العاطفة والشعور بوصفها عيوبا إدراكية تخرق من قيمة التفكير الإنسانيّ وصوابيته. صيغت ثلاث نماذج فلسفية لتحليل العقل البشريّ والطريقة المُثلى للتفكير والوصول لنتائج صحيحة. كان النموذج الأوّل وهو الأكثر شهرة وشيوعا النموذج الأفلاطونيّ الذي يعتقد أنّ العَقل يجب أن يكون الحاكم لعملية التفكير، وأنّ يكونَ سيدا وفوق كلّ الاعتبارات الأخرى من شعور أو رغبة، حتى ولو كان الفلاسفة وعدد قليل جدّا من البشر بإمكانهم تحييد مشاعرهم والالتزام بتحكيم العقل بشكلٍ مُطلَق، فإنّ هذا هو النموذج الأمثل بحسب أفلاطون، وهو ما انتهجته الفلسفة الغربية إلى اليوم ولو بشكلٍ ضمنيّ.

أمّا النموذج الثاني، فقد صاغه الفيلسوف الإسكتلنديّ، ديفيد هيوم، الذي رأى أنّ العَقل في حقيقة الأمر ليسَ إلّا عبدا تابعا للشعور ورغباتنا النفسية، فنحن نستخدم العقل لتبرير ما نرغب به أساسا، ومن ثم فعملية التفكير ليسَت إلّا عملية لاحقة لنتيجة قد حدّدتها رغباتنا مُسبَقا. والنموذج الثالث صاغه الفيلسوف الأميركيّ توماس جيفرسون، الذي رأى بأنّ العَقل والمشاعر نظامَان مُختَلفان، يُقرّر كلّ منهما بشكلٍ مُستقلٍ عن الآخر، ولا يتسيّد أحدهما الآخر، فأيّ النماذج كانت على صواب؟

لعلّنا نقترب من الإجابة عن هذا السؤال عبر مُراجعة التطوّرات الأخيرة التي حدثت في حقول علم الدماغ والأعصاب وعلم النفس المعرفيّ، والفضل في ذلك يعود للتطوّر التقنيّ الهائل الذي مكّن البشرية من رصد المراكز الدماغية المسؤولة عن التفكير والمشاعر واتّخاذ القرار بشكلٍ دقيق. ونتيجة لهذا التطوّر فقد بدأ العُلماء منذ مُدّةٍ قريبة بتغيير التصوّرات القديمة عن العقل والمشاعر وعمليات التفكير واتّخاذ القرار، إذ يبدو أنّ فكرة الفصل بين القرار العقلاني والعاطفيّ فكرة حالمة ونظرية بعض الشيء.

في هذا السياق، قام أنطونيو داماسيو، الطبيب وعالِم الأعصاب البرتغالي، بإجراء سلسلةٍ من الدراسات على المَرضَى الذين تضرّر لديهم الجزء المُسمّى بقشرة الفصّ الجَبهي البَطني (vmPFC) من القشرة الدماغية، وهو الجزء المَسؤول عن السيطرة على الانفعالات والعواطف واستدخال المشاعر ضمن عمليات الإدراك والتفكير واتّخاذ القرارات.

على سبيل المثال، وعند رؤية هؤلاء المرضى لصور مُبهِجة أو مُقزّزة أو مؤلمة، فإنّهم لَم يكونوا يشعرون بأيّ شيء، بالرغم من أنّهم على معرفة تامّة بمحتوى الصورة وما تستدعيه من صواب أو خطأ، لكنّهم لا يشعرون بشيءٍ حيالها. الجدير بالذكر هنا أنّ هؤلاء المَرضى لم يُظهروا أيّ مشكلات على مستوى اختبارات الذكاء (IQ)، وكانت قدراتهم العقلية سليمة تماما، كما أنّهم سجّلوا نتائج جيّدة على اختبار كولبرغ للاستنتاجات الأخلاقية، لكنّهم لَم يكونوا يشعرون بشيء حيال المواقف التي كانوا يفكّرون بها.

كانت تجارب داماسيو لافتة، إذ إنّ المَرضى الذين أشرفَ على حالاتهم كانت مشاعرهم قد انخفضت إلى الصفر تقريبا، وفَقدوا القدرة على استحضار العواطف والانفعالات خلال عمليات تفكيرهم واتخاذهم القرارات، وهو ما دعا العلماء للافتراض بأنّ قرارات هؤلاء المَرضى ستصير أكثر عقلانية وأكثر دقّة وصوابا، لأنّهم تحرّروا من سَطوة العواطف والانفعالات الشعورية.

لكنّ ما حدَث نتيجة لهذا العطَب الدماغيّ كان مناقضا تماما لافتراضات العلماء، إذ إنّ جزءا من هؤلاء المَرضى صاروا أكثرَ تهوّرا، بالرغم من قرارهم العقلانيّ الخاضع لحِسبة دقيقة للخسارة والربح والمَنفَعة والضرر، ولكنّهم بالوقت نفسه صاروا أقلّ مبالاة لأنّهم لَم يستحضروا مخاوف شعورية عديدة، أيّ أنّهم صاروا لامُبالينَ أكثرَ من قبل، وهو ما جعل سلوكياتهم أكثرَ تهوّرا وخطرا بالرغم من صحّتها التجريدية عقلانيا.

ولكي تتخيّل تَبِعات هذا العطب في الدماغ، دعونا نوضّح المثال التالي: لنتخيّل ما يجري عند قيامِ الإنسان بحِسبة عقلانية للمنافع والأضرار المُترتّبة على ارتكاب جريمة قتل بحقّ والدَيه، في حال رَجحَت كفّة المَنافع والمكاسب لقتلهم، فإنّ ما يمنعه من الإقدام على قتلهم بالأصل هو الشعور التلقائي برُعب الفكرة وغرابتها الشديدة والخَوف من عواقب الجريمة، حتى وإن كانت حسابيا وعقلانيا ذات احتمالات ضئيلة للغاية، لكنّ هذا الرعب والخوف سيتلاشى لو تعرّض هذا الجزء الدماغيّ للعطب، وهو ما سيزيد من سرعة وفُرَص استجابة الفَرد للإقدام على قتل والدَيه في حال تأكّد عقلانيا من منافع ومكاسب هذه الجريمة، لأنّ شعوره بالخوف أو الندم أو الامتنان لَن يكونَ حاضرا ليمنعه من القيام بذلك.

من جهةٍ أخرى، كانت عواقب تعطّل الجزء الدماغي المسؤول عن العواطف والمشاعر من نوعٍ آخر، إذ لَم يستطع جزء آخر من المَرضى اتّخاذَ أيّ قرار، بل ظلّوا عالقين في حلقة مُفرَغة من التفكير العَقلاني والحيرة، لأنّ المَرضى فقدوا القدرة على استحضار الحوافز الشعورية والمُنطلقات الانفعالية التي تُعينهم على خلق قفزة شعورية أمام حيرة العقل تدفعهم لحسم القرار. فالخوف أو الرغبة مثلا من المشاعر التي تُعين المَرء على الخروج من الحيرة أمام خيارات عقلانية متساوية، فالإنسان يُفضِّل خيارا ما بناء على رغبته أو شغفه، أو يبتعد عن خيارٍ ما، بناء على خوفه أو كراهته لهذا القرار. وحين يظلّ النّاس عالقين دون أن يتّخذوا أيّ قرار، فإنّ هذا من شأنه أن يُعرِّضَهم للخطر وإضاعة الفُرَص، خاصّة في مواقف ضرورية يلزَم فيها اتّخاذ القرار.

كانت خلاصة داماسيو البحثية أنّ العواطف والمشاعر -في حدّها الطبيعيّ- عناصر أساسية لاستكمال العقلانية، وليسَت عَيبا ولا مَنقصة لعملية التفكير. ويُشبّه عالِم النفس المَعرفيّ “ستيفن بينكر” العَقل من الداخل كما لو أنّه بَرلمان تتصارَع فيه الأفكار العَقلانية مع المشاعر والعواطف، ويحاول كلّ طَرَف منها الهيمَنة على العقل وقراراته وتفكيره على الدوام. وعليه لَم يَعُد التيّار العِلميّ المُعاصر ينظر للعواطف كما لو أنّها نقيض للعقل، بل هي عنصر أساسيّ لاستكمال القرار الأكثر عقلانية والأكثر سلامة ودقّة، بشرط عدم وجود اختلال يجعل من الحضور الانفعالي زائدا عن حدّه المَعقول والطبيعيّ أو أقلّ منه.

حسنا، كيف نتصرّف حينما تكذِّب الحقائق ما نريد وما نعتقد؟

شكّلت نظرية التنافر المَعرفي في علم النفس نقلة نوعية في فهم السلوك البشريّ. وقد اشتُهِرَ” ليون فستنغر”، عالم النفس الاجتماعيّ، بهذه النظرية التي رصد بها الانزعاج الذي يحدث للفرد حين تتناقض مُعتقداته مَع سلوكه، وكذلك حين تتعارض توقّعات المَرء مع واقعه الفعليّ.

كانت ملاحظة فستنغر هي أنّ النّاس ينزحون لتقليل التناقض، فحين نؤمن بشيءٍ ما ونتصرّف بشكلٍ مُعاكس، يُثير في النّاس شعورا من الإرباك وعدم الراحة، ولهذا يلجأ النّاس لتخفيف هذا الشعور إمّا بتغيير مُعتقداتهم لتتماشى مع السلوك المُخالف، وإمّا بالتراجع عن أداء السلوك المُخالف لمُعتقداتها. لكنّ الأكثر حدوثا هو أن نُبرّر لأنفسنا أو لغيرنا بأنّ السلوك الذي قُمنا به لا يتناقض مع مبادئنا عن طريق إيجاد تبرير أو عوامل خارجية مثل: (كنتُ غاضبا، لَم أتناول أيّ وَجبةٍ منذ الصباح، كنتُ على عجلةٍ من أمري، الجميع يفعل ذلك…).

أراد فستنغر أن يدرس أكثر التناقضات المُمكنة وضوحا بين واقع المَرء ومُعتقداته، فقام هو وفريقه البحثيّ بالانضمام لجَمَاعة دينية تحمل مجموعة من المُعتقدات، أهمّها أنّ العالَم سيتحطّم بأكمله عبر طوفان سيعمّ الأرض في 21 ديسمبر عام 1954. كانت دوروثي مارتن هي زعيمة هذه الجماعة، وكانت قد ادّعت أنّها تلقّت نبوءَة من كائنات عُليا خارج الأرض تخبرها أنّ العالَم سينتهي، وأنّه سينجو من هذا الطوفان فقط مَن يؤمن بعقيدة الجماعة التي تَدين بها دوروثي مارتن وأتباعها.

لَم يكن لدى فستنغر وفريقه البَحثيّ أيّ فكرة إذا ما كانت مُعتقدات هذه الجماعة صحيحة أم لا، لكنّهم كانوا يأملون أن تكونَ خاطئة لكيّ يَرصدوا ردود الفعل البشرية لهذا التناقض الصارخ حين تفشل النبوءة. وفي ليلة 21 ديسمبر، ترقّب الأتباع الّليلة المُنتظرة في منزل دوروثي مارتن ظنّا منهم أنّ الكائنات العُليا سترسل طائرة فوق منزل دوروثي مارتن لإنقاذ المؤمنين ورفعهم إلى السماء الآمنة.

كانت هذه المعتقدات عميقة إلى درجة دفعت أتباعها للاستقالة من وظائفهم قبل أيامٍ من اليوم المُرتَقَب، وقد تحضّروا جيّدا لهذه الليلة، فتجهّزوا بملابس مجرّدة من أيّ معادن أو أجهزة، وكان ليون فستنغر وأتباعه شاهدين على هذه الليلة بأنفسهم بوصفهم أتباعا لهذه الجماعة، يترقّبون نهاية العالم من داخل منزل الزعيمة الدّينية. مرّت 24 ساعة ظلّ فيها الأتباعُ يترقّبون قدوم الطوفان والخلاص من الكائنات العليا عبر الطائرة أو السفينة الفضائية المُرسَلة لرفع المُؤمنين إلى السماء وإنقاذهم، ولكن دون أن يحدثَ أيّ شيء.

راقب فستنغر وفريقه البحثي ما يجري بعناية، فبعد انقضاء الليلة بأكملها، تساءل الأتباع عن سبب عدم حدوث أيّ شيء، فأجابتهم الزعيمة دوروثي مارتن: لقد نشر الأتباع الطيّبون في هذه الغرفة الصغيرة نورَهم على الأرض بأكملها، فمنعوا حدوث الطوفان، لقد أنقذتم النّاس بإيمانكم. وبالفعل فإنّ العدد الأكبر من الأتباع صدّقوا كلامها، ولَم يتخلّوا عن معتقداتهم ولا إيمانهم، ولَم يُزعزعهم فشل النبوءة.

كانت خلاصة فستنغر هي أنّ النّاس لا يتخلّون عن معتقداتهم لمجرّد تعارضها مع الواقع أو الحقائق، بل قد يحدث أن يزداد اعتناق النّاس لمعتقداتهم عند فشلها أو مهاجمتها. فحين يفشل المُعتقَد أو النبوءة فإنّ المؤمنين بها سيغيّرون من تفسيرهم الأوّلي لصالح تفسير آخر منطقيّ يخدم النبوءة ذاتها.

وفقا لنظرية التنافر المَعرفيّ، فإنّ النّاس يقلّلون من مواجهة المصادر التي تذكّرهم بتناقضهم أو بفشل قناعاتهم، لذلك حين تخبرهم بأنّكَ لا تؤمن بما يؤمنون به، فهُم غالبا سيبتعدون عَنك. قدّم لهم الحقائق العِلمية، سيسألونكَ عن مصادرك، زوّدهم بالمصادر، سيشكّكون بمدى مصداقيتها، قدّم لهم تفسيراتٍ أكثر علمية ومنطقية، وسيقولون لكَ إنّكَ “تتفلسف” وإنّك لا تفهم ما تقول.

وفي دراسة مشابهة، فقد قامت إحدى الدراسات بعرض مجموعة من التقارير الصوتية المُسجّلة مُسبقا على المَبحوثين في موضوعاتٍ متعدّدة، وقد وُجِدَ أنّ المُدخنّين يقومون بالانتباه بشكلٍ أكبر للتقارير التي تنفي وجود علاقة بين التدخين والضرر الصحّي، فيما قام غير المُتديّنين برفع صوت المذياع حينما يسمعون تقريرا ينتقد مُعتقدات المُتديّنين، بينما كان المُتديّنون لا يجدون أيّ مانع بوجودِ تشويش أو ضجيجٍ مُحيط خلال التقارير التي تنتقد الدّين، الأمر الذي يُعينهم على عدم الاستماع لما يخالف معتقداتهم.

يُقوّي الناسُ قناعاتهم عبر انحيازٍ نفسيّ يُعرَف بالاستدلال المَدفوع (Motivated Reasoning)، والذي يعني أنّ النّاس تبحث عن الأدلّة والحقائق والتقارير العِلمية التي تخدم قناعاتهم المُسبقة وتعززها، فيما يتجاهلون الأدلّة والحقائق والتقارير العلمية التي تخلُص لنتائج تعارض قناعاتهم المُسبَقة. ويساند هذا كلّه ما يُعرف بالانحياز التأكيديّ (Confirmation Bias)، وهو الانحياز الذي يجعلنا نتنبّه أكثر ونُصغي بعناية للأدلّة التي تؤكّد قناعاتنا المُسبَقة، ويشمل هذا عملية التذكّر بأثر رَجعي، فالانحياز التأكيدي يعمل بالذاكرة بوصفه أداة استحضار انتقائية لا تستدعي من ذاكرتك إلّا ما يُقوّي قناعتك الحالية.

للأسباب السابقة ذاتها جميعا، فإنّ النّاس يُكرّرون أخطاءَهم نفسها -مرّة تلو الأخرى- حين يَحمون تصوّراتهم وقناعاتهم للمساءلة بين الحين والآخر، هذا لا يعني أن تكون قناعاتنا المُسبَقة خاطئة بالضرورة، ولكنّه يعني أن نكون شُجعانا بما فيه الكفاية لتقبّل فكرة أنّنا قد نكون على خطأ. لهذا يحتاج الإنسان لكيّ يتطوّر مَعرفيا ووجدانيا إلى التواضع المَعرفيّ، وإلى الشجاعة للاعتراف بالخطأ، وإلى ممارسة النقد الذاتي بين الحين والآخر.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي