تلقيت يوم 4 يناير الماضي دعوة كريمة من عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري لحضور حفل تقديم ترجمة كتابه “بين التنمية والثقافة” إلى اللغة الصينية، وهو الحفل المنظم من قبل معهد كونفوشيوس بالرباط، فقررت الحضور للاحتفاء بالرجل العابر للقارات، وبعد يومين تلقيت منه رسالة نصية تخبر بتأجيل اللقاء.
اليوم، تلقيت خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وفراق أمثال هذه القامات خسارة كبيرة، وهي خسارة حقيقية لا قبل لها بالمجاز أو الكناية أو الاستعارة.
لا أدعي علاقة وطيدة أو طويلة بالرجل، لكن علاقته بالعائلة الجبارية تعود تفاصيلها إلى أكثر من نصف قرن.
كان والده العلامة عبد الله الجراري مفتشا وطنيا في التربية الوطنية، وكانت زياراته إلى القصر الكبير سببا لربط وشيج العلاقة مع العلامة الشيخ عبد الله الجباري؛ خريج القرويين وأستاذ المعهد الديني؛ ومن خلاله ربط علاقات مع شيوخ العائلة ونخبة مدينة القصر الكبير.
منذ سنوات خلت، حضرت جلسة علمية ماتعة في بيت الدكتور عباس بالرباط في إطار حلقات النادي الجراري الذي أسسه والده رحمه الله، وما أن تعرف على اسمي سألني عن نسبتي، وهل أنا من القصر الكبير؟ ففرح باللقاء ورحب بي واسترجع ذكريات مضت حول رحلاته مع والده في القصر الكبير، وعندما همّ بتوديعي، طلب مني إعادة الكرة لزيارته بأدب جم وتواضع الكبار.
تأملت في أخلاقه وطيبته وتساءلت عن كنهها، فربطتها للتو بتربية والده الأديب والمؤرخ.
كنت فيما مضى أتساءل عن سبب تعلق طلبته به، وهم الذين صاروا أساتذة وأكاديميين في ربوع الوطن وخارجه، هل ذلك راجع إلى التملق له وهو الوجيه المكين؟ أم أن العلاقة بينهم مؤطرة بثنائية الشيخ والمريد؟ أم ماذا؟
بعد ذلك اللقاء، وتعرفي على ثلة من تلاميذه وهم يناقشون بحضرته مواضيع متنوعة وقضايا متعددة، لمست فيه عنصري التمكن العلمي والسمو الخلقي، فأضفتهما إلى الاحتمالات السابقة لفهم علاقة الحب والإجلال بين التلاميذ وأستاذهم.
بعد سنوات، قطعتُ الشك باليقين، وأيقنت أن المودة التي يكنها التلاميذ لأستاذهم لا يمكن أن تكون إلا بسبب أخلاقه، وذلك حين أخبرني أحد الأساتذة بتصرف صدر عن أستاذه المشرف الدكتور الجراري، وهو تصرف لا يكاد يصدر عن أحد، مفاده أنه استيقظ ذات مرة على رنين الهاتف، ووجد على الخط أستاذه بكلماته الهادئة والمنتقاة، وأخبره أنه يتصل به من مكان قرب الكعبة وسط البيت الحرام، وأنه تذكره أثناء الطواف ودعا له.
هذه أخلاق الأولياء التي لا تنقطع من الأرض بسبب وجود الثلة المصطفاة من الخَلق، “مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أو آخره”.
هذه أخلاق الكبار التي لا تحول المناصب دون تمثلها والتحلي بها، وهي الأخلاق التي جعلت الرجل يتربع على قلوب تلاميذه مذ عرفوه.
توصلت مرة بكتاب جمع بين دفتيه مقالات والده، ولما قرأته أيقنت بأهمية كتابة قراءة حوله، لما احتواه من أفكار لا يختلف اثنان أنها تجديدية، خصوصا إذا وضعت في سياقها، ولما اطلع عليه بحث عن هاتفي واتصل بي شاكرا مثنيا، مهنئا مستبشرا، وتداولنا أطراف الحديث في مواضيع شتى. ولما طورت المقالة إلى كتاب، لم يتردد في نشره ضمن قائمة منشورات النادي الجراري، وقد سُرّ بذلك أيما سرور، وهذا من أمارات البرور، أن يجتهد المرء في خدمة تراث والده إلى آخر حياته.
وقبل نشر الكتاب، قرأت رحلته المسماة “رحيق البوسفور”، وتتبعت من خلالها ما تنثر بين دفتيها بخيط ناظم، وكتبت عنها مقالا بعنوان: عباس الجراري شابا من خلال رحلته نسيم البوسفور، ولما قرأ المقالة اتصل بي هاتفيا بكلماته الرقيقة التي تترقرق بأريج الثناء، ومما علق بالبال من ذلك الاتصال، أنه قال لي مازحا: ما إن قرأت العنوان حتى ارتج قلبي، ما عساه يحمل المقال من شبابي؟ ولم أهدأ إلا بعد الانتهاء من القراءة.
هذه سوانح من وحي الحدث، حدث وفاة أستاذ الجيل وأديب المغرب، حري بتلاميذه ومعارفه ألا يبخلوا بما يتزاحم على أذهانهم من ذكريات مع الفقيد أو حوله، لأن إبرازها وإظهارها حري بأن يمكننا من تكوين صورة إنسانية عن الرجل، بعد أن تعرفنا عليه باحثا وأديبا وخطيبا ومبدعا وكاتبا ومفكرا.
رحم الله الدكتور عباس بن عبد الله الجراري، وألحقه الله بعباده الصالحين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
تعليقات الزوار ( 0 )