Share
  • Link copied

من مظاهر التدين المغربي .. الحلقة (5)

القرآن الكريم: حفظا وقراءة وتجويدا (2)

بالنسبة لقراءة المغاربة للقرآن الكريم، لاحظ الدكتور الحسن وكاك الفرق بين التجويد النظري والتجويد العملي التطبيقي عندهم، وسجل تفوقهم في الأول وضعفهم في الثاني، وقد نتفهم قوتهم في التجويد النظري بناء على ما بأيديهم من ثروة علمية متمثلة في منظومات القراءة والرسم وما عليهما من شروح، إضافة إلى تقييدات خاصة بقضية من قضايا القراءة، لكنهم لم يعملوا على تنزيل الجانب النظري أثناء ممارستهم القرائية في الغالب، لذلك سجل بعض المتقنين ملاحظاتهم على القراء المغاربة وما يعتري قراءتهم من نقائص.

يعد العلامة عبد الواحد ابن عاشر (ت:1040هـ) رحمه الله من جلة من نبه إلى هذه الآفة، ولعل مما ساعده على ذلك أمران:

أولهما: إتقانه العلمي في هذا الباب، وقد كان متقنا للقراءات السبع، تلقى ذلك عن المحقق أبي العباس الكفيف وأبي عبد الله محمد الشريف، وفاق أشياخه في التفنن في التوجيهات والتعليلات، “وكان ذا معرفة بالقراءات وتوجيهها بالنحو والتفسير والإعراب والرسم والضبط وعلم الكلام”، وألف في هذا الفن شرحا على مورد الظمآن في علم رسم القرآن، وله مستدرك عليه.

ثانيهما: انفتاحه على الثقافة المشرقية، حيث تلقى العلم أثناء رحلته الحَجية سنة 1008هـ عن شيوخ هناك، منهم المحدث صفي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيى العِزي الشافعي.

ذكر الشيخ أبو العباس أحمد الحبيب اللمطي أن الإمام ابنَ عاشر “لما قفل من المشرق وأنكر على أهل فاس قراءتهم، ورام إرشادهم إلى الصواب وهدايتهم، فمنهم من قابله بالنكير، ومنهم من قال: هذا حق ولا نشتغل به لأنه علينا يسير، ومنهم من اهتدى إلى الحق فشمر للتعلم أيما تشمير”.

وهذا النص يفيدنا أمورا:

أولها: لم يثبت عن الإمام ابن عاشر أن أرشد الفاسيين إلى قبح قراءتهم قبل ذهابه إلى الحج، مما يدل على أن انفتاحه على المشارقة هو الذي نبهه إلى الثروة العلمية الكامنة عنده نظريا.

ثانيها: لما انتبه في المشرق إلى خطأ قراءة المغاربة، لم يمعن في الخطأ، بل سارع الخطى نحو الصواب، وهذا شأن العلماء الربانيين المخلصين.

ثالثها: لما قام بدوره الإصلاحي في المجتمع الفاسي، لم يتفاعل معه القراء بسرعة، ولم يرجعوا كلهم إلى الصواب، بل وجد فئة ممانعة، وبالعناد متشبثة، مثل الحَزَّابين الذين كانوا يقرؤون القرآن في الجنائز، ولما رأى إمعانهم في الخطأ، منعهم من حضور جنائز ذويه، حتى نُسب إلى البخل لأجل ذلك، ولما توفي أخوه قام عند انصراف الناس وقال: “منعني اصطحاب الحزابين لأنهم يفسدون قراءة القرآن”، وقال مرة لأحمد بن علي البوسعيدي الهشتوكي (ت:1046هـ): “قراءة الحزابين عذر في التخلف عن الجنائز”، وقد نبه البوسعيدي إلى إصرار أهل فاس على قراءتهم غير السديدة بقوله: “لم ينتبه الحزابون لقوله، ولا انتهى الناس عن اصطناعهم”.

ومن علماء المغرب الذين يحق للمغاربة أن يفخروا بهم، سيدي أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي (ت:1175هـ)، وهو من ذوي المكنة والرسوخ في العلوم الشرعية، وقد لاحظ عيوبا شتى في قراءة المغاربة، وبادر إلى تقويمها، فألف رسالة في الموضوع سماها: عرف الند في حكم حذف حرف المد، صدّرها بقوله: “إن ما تمالأ عليه عوام المغرب الأقصى، وأكثر طلبته وفقهائه، وبعض المتساهلين ممن يعد من مقرئيه وقرائه، من إسقاط المد الطبيعي في محله من القرآن خطأ واضح، ولحن فاضح، لا يختلف في تحريمه اثنان، وما زال المحققون من القراء ينبهون عليه، ويحذرون من التورط في شناعة المصير إليه، ولم يزل ينشدهم لسان حال الطلبة في الحواضر والبوادي:

لقد أسمعت لو ناديت حيا // ولكن لا حياة لمن تنادي

حتى أني حضرت رجلا مشهورا بالأستاذية والاقتباس منه، مقصودا لأخذ القراءات السبع عنه، قرأ مع طالب لوحة بالسبع على كيفيةٍ رفَض بها المد الطبيعي رفضا، بل كادت تذهب حروف من غير حروف المد أيضا، فكُلّم في ذلك برفق، ظنًّا أنه ينتبه للحق فيتبعه، لكون الأمر من الوضوح بحيث يسلمه المنصف أول ما يسمعه، فما كان جوابه إلا أن قال: هذه طريقتنا التي أخذناها في المغرب، وتلك التي تأمرنا بها طريقة اللمطيين بسجلماسة”.

وتصدير العلامة أحمد الهلالي لكتابه بهذه المقدمة دال على حزنه الشديد على وضع القراءة في المغرب، وأن الأمر ليس مقتصرا على فئة من الناس، بل عم الخطب العوامَّ والطلبة والفقهاء والقراء والمقرئين، وأن المأساة لا تنحصر في دقائق القراءة وخوافيها، بل تعدتها إلى الأمور الواضحة التي يسلم بها المنصف لأول وهلة، وطامة الطوام أن المتلبس بهذا يعد من المتخصصين في علم القراءات، ونظرا لعموم البلوى، فإن العلامة الهلالي سيقول بالتعميم الدال على التغليب: “إن تساهل أهل المغرب في كيفية القراءة وإهمالهم لما يلزم، من جملة ما يصدق عليه المثل السائر:

إن بني درجوني بالدم // شنشنة أعرفها من أخزم”.

دعا العلامة الهلالي المغاربة إلى تقويم قراءتهم القرآنية وتصحيح ما بها من سقم، فاستجاب له القليل، وَوُوجه بممانعة كما ووجه العمل الإصلاحي للعلامة ابن عاشر، فذكر أن بعض “الأصحاب قد وفقهم الله لقبول النصح فانقادوا إلى الصواب، ثم راموا أن يحملوا عليه رفقاءهم في قراءة الحزب، فعسر عليهم ترك الإلف المألوف، وعزَّ عليهم مخالفة ما تواطأ عليه الألوف”.

وبعد عبد الواحد ابن عاشر وأحمد بن عبد العزيز الهلالي، نجد الشيخ المربي أبا العباس أحمد الصوابي (ت:1149هـ) الذي “كان ديدنه ترتيل القرآن، ويربي الصبيان ويعلمهم ترتيله، وينهاهم عن الهذّ المُخِلِّ بالواجب، ويروم رحمه الله أن يحمل أهل جيله وعصره على تلك القراءة ويحاوله”، لكن هذا الجهد الإصلاحي لم يكلل بالنجاح، لذلك علق تلميذه أبو عبد الله الحضيكي السوسي (ت:1189هـ) بأن شيخه “لم يَقْدر بعد المعالجة والمراودة والمعاودة أعواما ذوات العدد، (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)”، أما المختار السوسي فاعتبر جهود الصوابي مجرد صرخة ذهبت في واد.

Share
  • Link copied
المقال التالي