رحبت الإنسانية بلا تردد ولا شك بمعطيات الاتجاه نحو الحداثة، ومنتجاتها المادية المحكمة السرد، فهي خلاصات تتكئ على مناهج وأدوات أثبتت نسبتها للحقيقة، حتى بات الإنسان يرى خياله في الماضي واقعاً معاش.
وحين أغرقت المجتمعات في حالة الدهشة الأولى إزاء انقلاب حال الأوساط المآسية من تداعيات الحروب والظلم، لأبرز الجغرافيات تقدماً وتسارعاً في التطور، باتت تتلقف منها كل وارد في صناعة، أو اختراع، أو سياسة، حتى تعدى الأمر لتقليد ثقافي وسلوكي، اختلط الحكيم منه بالعبثي، أو على الأقل “غير الناضج”. إذ رافقت المادية تحولات غيرت من مكانتها، وجعلت منها مصدراً ثقةً ودليلاً قاطعاً، وهذا على كافة المستويات دون تفريق، مما سرب هذا الحس للوجدان الإنساني، فبات اليقين “متهماً”، والإيمان “مشككاً”!
إن هذا الاتجاه يمثل حكماً قاسياً على الإنسان، ففي حين كانت الغاية الاعتزاز بفردانيته، وشخصيته وذاته، بات هذا يحمله ما لا يحتمل من طاقات، أو إمكانات، إذ تعتبر المادية تصريحاً باعتماد العقل كمصدر موثوق فيه دون سواه، بل وإقحامه في مساحة موسومة ب: “ممنوع الخطأ”، و “مرفوض كل ما هو غير محسوس”، وهذا ما لا يمكن موائمته مع قلب مؤمن، أو عقل ذو بصيرة! إذ يضم العالم الحسي المحيط بالإنسان الكثير من المعارف والحقائق والمخلوقات التي “لم”، وربما “لن” يُقدَّرْ له أن يتعرف عليها، وفي قول الخالق -سبحانه وتعالى- إشارة لذلك، حين أقسم في الكتاب الكريم: ” فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ”[1]، مما يدل على محدودية الإدراك الإنساني، سيما في ظل رحابة غيبيات الوجود الوارف.
فهل يكتفي الإنسان بمعرفته المحدودة، أم يظل يقفز ساعياً لتحويل الغيب لما هو معلوم؟ -إن استطاع – أو كما يقول الأديب الأمريكي (إدجار آلان بو) في جملته الشهيرة: “لا تصدق كل ما تسمع، وصدق فقط نصف ما ترى”، وهذا يعبر عن طبع إنساني قبل أن يكون تأثراً بالمادية.
إذا ما استثنينا المادية كسبب دافع لإنكار ما نجده لدى البعض من إنكار كل ما يتصل بالغيب، وإقصاءه بعيداً عن العقل، نجد أن الإنسان عدو ما يجهله، إذ يمكن أن تكون قلة الدراية في ماهية ذلك الغيب، أو وجود التصورات المغلوطة عنه، هي الدافع في رفضه جملةً وتفصيلا. ومن جانب آخر يمكن لنزعات الذات المطبقة على تصوره أن تقنعه بكمال رجاحته العقلية التي تتنافى وفكرة النقصان بلا “قوة الإيمان”. وفي ذات السياق فإن النفس إذا ما والفت على فكرة ما، رفضت تغييرها بعدما باتت قناعة ثابتة ومتأصلة في كيانه، ولذا نجد أن الرسل واجهوا صعوبة في نشر الدين التي كانت قد قدمت طرحاً مخالفاً لما اعتاد عليه الأقوام وتوارثوه “أباً عن جد”.
إن تطويع العقل من باب التعقل لا التقيد، يبدو مجدياً في تحقيق التوازن بين مكونات الإنسان من جسد، وعقل، ونفس، وقلب، وروح. إذ يدفع الإنسان بطاقته الذهنية في سبيل الاستزادة النافعة، مبتعداً عن الخوض في ما لا يمتلك سلطة عليه، إذ يبدو على الإنسان في موقفه إزاء الغيب، تصديق ما لا يصدقه العقل التجريدي المادي، بناءاً على يقين إيماني واستدلال “حسي” لا ينفك يحيط بواقعه المعاش. فوجود الغيب “مستتراً”، هو سر التمييز بين الصالح والمسيء بين العباد، شاحذاً صوت الضمير باستمرار لتذكر ما يجهله، وخشية الخالق سبحانه، واستشعار وجوده في كل حين. ثم إن حكمة الله البالغة تقتضي إخفاء الغيبيات، ليصار للإنسان أن يقوم بمهمته في إعمار الأرض، أضف إلى ذلك أن خالق هذا الإنسان أعلم بما يطيقه وما لا يطيقه، وربما ما وجد في عالم الغيب يحول دون ديمومة الحياة بطبيعتها إذا ما كشف عنه الستار.
[1] القرآن الكريم، سورة الحاقة، آية رقم: (38 -39).
تعليقات الزوار ( 0 )