قراءات كثيرة منذ ليلة أمس تناولت تحليل الهجوم الإيراني العسكري، ردا على هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي لم تكن الخسائر المادية والبشرية الناتجة عنه واضحة أو مدوية، مما يجعله عسكريا أقرب إلى المناورة العسكرية بالذخيرة الحية منه إلى هجوم دولة لا طالما ما توعدت خصومها بالنعوش والدمار العظيم.
قراءات عسكرية وأخرى سياسية وغيرها، انصب معظمها على خلاصة واضحة وهي كون إيران قادرة على إبراز نفسها كنموذج ناضج عسكريا وسياسيا للتعامل مع إسرائيل ومع حلفائها الغربيين في المنطقة. وبذلك تقدم ايران نفسها كقوة توازن، تصنع فعلها وردود فعلها وفق القواعد الإتفاقية للاشتباك و بدون مباغتة، وتميز نفسها عن باقي الحركات المقاتلة للاحتلال الاسرائيلي وعلى رأسها حركة حماس.
في نظرنا هناك أربع محطات رئيسية لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين، قد تؤكد فرضية الرهان الحقيقي لأمريكا من وراء دعم صورة إيران في المنطقة، بغية الاستمرار في إشعال التوترات والمواجهات العقدية بين الشيعة والسنة، وتقوية إيران على حساب حلفاء أمريكا من الدول السنية.
وقبل أن ننظر في هذه المحطات الأربع الكبرى، سنحاول رسم بعض محددات التدخل الغربي بقيادة أمريكا في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية والإسلامية.
المحدد الأول هو كون الصراع والمواجهات بين العربي الإسلامي وبين الغربي، كان متركزا تاريخيا بشكل مطلق بين التوجه الاسلامي السني بجميع تياراته المعتدلة والمتطرفة وبين الغرب. اشتباك فكري حضاري وسياسي و إيديولوجي أيضا. هذا الصراع جسدته على مستوى التأطير الفكري والنظري، منذ سقوط الخلافة الاسلامية، حالات السلفية و تنظيم الإخوان المسلمين عبر البلاد العربية والإسلامية من شمال إفريقيا و الشرق الأوسط وآسيا. على مستوى المواجهات الميدانية تمثل هذا الاشتباك التاريخي في صفحات المقاومة ذات التوجه السني، سواء في فترة الاستعمار الغربي للمنطقة أو في زمن المقاومة المسلحة الفلسطينية ضد إسرائيل، أو في فترة حرب الأفغان ضد الاتحاد السوفييتي وما بعدها، وبداية مواجهة سنية وصفت بالمتطرفة ضد الغرب، لكونها جنحت إلى استعمال العنف خصوصا مع ظهور طالبان و تنظيم القاعدة، ثم تنظيم الدولة الإسلامية، والتي هددت أمن ومصالح الغرب بشكل كبير.
إلى جانب ذلك تميزت العقود الأربعة الأخيرة ضمنها فترة الربيع العربي، بتوسع المد الإسلامي السني في المنطقة العربية، مع ظهور حركات إسلامية متعددة وأحزاب خرجت من هذا التوجه، أصبحت تطالب بمساحة أكبر من الديمقراطية ومن الحرية في تأطير المجتمعات والشعوب العربية، وفي تدبير الدولة الوطنية. و بعض هذه الحركات دخلت في اشتباكات عنيفة مع أنظمة سياسية عربية، من جملتها الصراعات التي وقعت في الجزائر البترولية خلال التسعينيات من القرن الماضي.
هذه التوجهات السنية السياسية شكلت تهديدا لمصالح الغرب في المنطقة وتهديدا للأنظمة السياسية القائمة، بنيت عليها سياسات دولية وأمنية وتشريعية وثقافية متشعبة، وأصبحت عنصرا فاعلا في معادلات وشكل بناء الدولة، و عاملا خطابيا وتتظيميا معارضا لتوجهات الأنظمة المدعومة من الغرب.
في ظل هذا السياق التاريخي، لم يشكل التوجه الشيعي أي تهديد حقيقي لمصالح الغرب، ولم يكن فاعلا في السياق الدولي والإقليمي والتأطيري السياسي للجماهير العربية إلى أزمنة متأخرة، بل كان دائما ذا ردود فعل دفاعية محدودة لاعتبارات عقدية، أهمها التقية التاريخية في انتظار ظهور الإمام الأكبر لقيادة العالم. كما أن إيران التي يختلط فيها حلم المجد الفارسي ب”الوجد” الشيعي، تشبه إلى حد كبير الدولة الاسرائيلية، ربما هذا ما سهل التقارب بينهما في صفقة ايران غيت ثمانينات القرن الماضي، ودفع الديمقراطيين في أمريكا منذ مجيء بايدن إلى دعوة السعودية ودول الخليج إلى إعادة العلاقات مع إيران بدل مواجهتها.
وعلى هامش هذا المعطى يقول المفكر الكويتي عبد الله النفيسي أن التشابه بين اسرائيل وإيران واقع ملموس ويكمن في ثلاث عناصر أساسية وهي: العزلة الثقافية واللغوية في المنطقة وكراهة العرب؛ هوس التسلح والتفوق العسكري وأخيرا الرغبة في التوسع في المنطقة والهيمنة على دول المنطقة وتشييعها، وهذا ما يحدث منذ سقوط نظام صدام حسين تحديدا.
قراءة السياق التاريخي تفرز وجود صعوبات لدى الغرب في مواجهة قوة إسلامية سنية متعاظمة، قد تصبح مع الوقت مخاطبا رئيسيا وحقيقيا في المنطقة، أمام فشل حكامها في الإحاطة بمجتمعاتهم، رغم أنه كان هناك اشتغال عميق على تقسيم هذه القوة السنية إلى تيارات دينية وحركية متعددة ومتصارعة بين سلفياتها وإخوانها، غير أنها في آخر المطاف لم تعط محاولات التقسيم هاته كل النتائج المرجوة منها.
لذلك فإنه قد يكون أهم تحد رفعه الغرب في المنطقة، هو كيفية خلق صراع عقدي داخلي لتفتيت السنة من جهة، ثم لإدخال لاعب جديد مخالف لمعتقدات وتصورات السنة. وهو لاعب يبدو أنه أكثر براغماتية في التفاوض مع الغرب وأقل عنفا وتهديدا للمصالح الغربية. وبالتالي اعتبر الرهان على خلق هذا الصراع العقدي أهم خطوة اشتغل عليها ونظر لها الاستراتيجيون في أمريكا، توجت بتوجهات سياسية وعسكرية في المنطقة متعددة.
في اعتقادنا أن هذا التوجه الغربي تجسد في أربع محطات رئيسية خلال العقدين الأخيرين، أعطت نتائج مذهلة وملموسة وسريعة في توزيع القوة في المنطقة وتقسيمها. هذه المحطات رآها البعض تعبيرا عن فشل أمريكيا في المنطقة، غير أننا يمكن أن نصف هذا الفشل، بالفشل الوهمي الوظيفي المصطنع، من أجل إيهام جهات بضعف أمريكا وقوة الخصوم، كما فعلت أمريكا مع عراق صدام حسين تمهيدا لحرب الخليج الثانية سنة 1991، عندما أوهمت العالم إعلاميا بعظمة وخطورة نظامه ثم اجتثته في بضع أسابيع.
المحطة الأولى ترتبط بالغزو الغربي للعراق سنة 2003، بعد إضعاف نظام صدام حسين منذ حرب 1991، وعزلة العراق وتقييد حركته لصالح إيران، بل وإشراكها هي و حلفاؤها من تنظيمات شيعية عراقية في القرار السياسي والأمني والاقتصادي العراقي، نتج عنها سيطرة شبه تامة للشيعة على المؤسسات السياسية والدستورية لهذا البلد. هذا الوضع خلق خريطة سياسية إيديولوجية ودينية جديدة في المنطقة بإزاحة دولة بترولية بموارد بشرية وعسكرية مهمة، من الحلف السني واصطفافها في الجانب الشيعي، بما يعنيه ذلك من توترات مع السعودية وباقي دول الخليج السنية. نتج عن هذه العملية إعادة ترتيب لمواقع القوى في المنطقة الشيء الذي أفرز تفوقا شيعيا يبدو أنه مصطنعا، لاسيما من خلال الضغط على سوريا للانسحاب من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري سنة 2005، وتسليم الجنوب اللبناني وقوة الردع داخل لبنان إلى حزب الله الشيعي، الذي تسلم موقع جديدا منذ ذلك الوقت بشكل مختلف عن الماضي.
المحطة الثانية كانت حرب يوليوز 2006 بين حزب الله الشيعي اللبناني وبين إسرائيل، وتحول المواجهة العسكرية إلى “قوة ناعمة”، توحد المجتمعات الشيعية، وتستميل مشاعر “العرب المغرمين” بالبطولات في الأقطار السنية، لاسيما في صفوف الشباب والمثقفين، وتظهر تخاذل أنظمة عربية كثيرة. كانت حربا جيشت الشعوب العربية بشكل شبيه بحرب الخليج الثانية حينما قصفت العراق مواقع اسرائيليه بالصواريخ البعيدة المدى، أصابت العمق الاسرائيلي. تميزت هذه المحطة بانتشار خطاب أمريكي جديد يبشر بفوضى خلاقة، وصل مداها إلى ما بعد الربيع العربي مع ارتفاع موجة المد الإسلامي.
حرب 2006 تحكمت في بدايتها ونهايتها الولايات المتحدة الأمريكية، ابتداء من تقديمها الدعم لإيهود اولمرت وتشجيعه على خوضها، ثم على إنهائها بالضغط على اسرائيل و إستصدار قرار أممي من مجلس الأمن الدولي بإيقافها تحت حماية قوات أممية “اليونيفيل” تفصل بين اسرائيل ولبنان. هذه الحرب أدخلت إلى وجدان الشعوب العربية بأن الشعية قادرون على تحرير الأمة ومحاربة الغرب عكس حكامهم، وبالتالي كانت بداية صناعة نموذج “مقاوم/مفاوض” جديد في المنطقة.
هذه الحرب أنتجت ما يمكن وصفه بوهم هزيمة إسرائيل والغرب أمام حزب محدود القوة والجغرافيا، ربما من أجل إعطاء مشروعية جديدة للتيار الشيعي، وجعله طرفا في تحديد مصير المنطقة وبالتالي إدخاله إلى الصراع مع التوجهات السنية المناوئة للتشيع، ثم بعد ذلك خلق واقع جديد في المنطقة، لا سيما خلال الربيع العربي وتسلم الشيعة تدبير مناطق جغرافية جديدة.
كما نتج عن حرب يوليوز تقوية شيعة العراق وتسليمهم رأس صدام حسين لإعدامه في يوم عيد الأضحى، وما يعنيه ذلك من تغذية للكراهية بين المعكسرين الشيعي والسني و بالتالي تطعيم الصراع العقدي بشكل أقوى. تلت هذه الأحداث سيطرة الشيعة على الأنظمة السياسية لليمن وسوريا ما بعد موجة الربيع العربي و استمرار “نظرية الفوضى الخلاقة” في التجسيد الملموس.
وقد برز جراء ذلك مستوى مرتفع لإنتشار التشيع الثقافي بشكل واضح في سوريا، حيث تأسست الحوزات والمزارات والمقامات، وتمت السيطرة على معابد السنة وارتفع عدد المتشيعين في صفوف السوريين بشكل كبير، نتيجة الحرب ودعم الاستقرار ك”قوة ناعمة”، وما نتج عن هذه الحرب من تقديم للمساعدات المادية والغذائية، حسب المراقبين للشأن السوري.
المحطة الثالثة وهي اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني على أرض العراق مطلع يناير 2020. السليماني يعد أحد الرموز والقادة السياسيين والعسكريين الذين يشتغلون خارج حدود إيران، تم اغتياله حسب متتبعين للشأن الإيراني، في ظرف تميز بخلافات سياسية حادة داخل مربعات الحكم في إيران. هذا الاغتيال وحد من جديد الداخل الإيراني، وأعطى اشعاعا وتعاطفا مع الشيعة في المنطقة برمتها، وأبرز بشكل أو بآخر تخاذل العرب والسنة والأنظمة المتحالفة مع أمريكا.
الاستراتيجيون الأمريكيون قد لا يهمهم خسران معركة جزئية، إذا كانت هذه الخسارة أو الهزيمة السياسية أو حتى العسكرية ستوظف استراتيجيا لخلق صراع عقدي بين الشيعة والسنة، قد توظف هذه الخسارة المحدودة في إضعاف المعسكرين السني و الشيعي على المدى المتوسط والبعيد، مما قد يسمح بعودة الولايات المتحدة والغرب إلى المنطقة بقوة، بعد إضعاف الطرفين في حروب استنزاف تخلق التفرقة والانقسامات داخل نفس الدين ونفس المنطقة. تارة يدعم الغرب الحلف السني وباقي أنظمته ويشجع الأطراف السنية، بما في ذلك تركيا على القيام بمبادرات عسكرية، وتارة تدعم الطرف الشيعي عن طريق الاتفاقيات المكتوبة كالاتفاق النووي، أو عن طريق “صناعة” شهداء أبطال في صفوفه ومنحه انتصارات عسكرية “وهمية” تجيش الشعوب العربية والإسلامية بأكملها.
المحطة الرابعة والأخيرة تتعلق بطوفان الأقصى الذي أطلقته حركة حماس السنية في 7 أكتوبر 2023، والذي أفضى إلى الكشف عن التردد الكبير في دعم الوكلاء الشيعيون في المنطقة لحركة حماس، وعلى رأسهم حزب الله اللبناني، أمام هول المجازر في قطاع غزة. لم تتحرك إيران بشكل علني وواضح رغم عشرات الآلاف من موتى فلسطين، إلا بعدما قتل بضع أفراد من حرسها الثوري في سوريا. وقد شاهدنا كيف كانت خطب حسن نصر الله وردود حزب الله المحتشمة بعد عملية الطوفان، عكس ما كان يروج سابقا دفاعا عن الفلسطينيين. قد يكون هذا التردد هو تعبير غير معلن عن رغبة في استغلال الفرصة التاريخية لاخراج السنة من المعادلة بشكل مطلق، وظهور الشيعة كطرف اسلامي وحيد للتفاوض مع الغرب حول حدود المصالح في المنطقة. كما قد تكون ردود فعل الحوثيين في البحر الأحمر ضد السفن الغربية ليس من أجل الدفاع عن غزة أو عن حماس، وإنما قد يكون مجرد استغلال الظرف لبسط النفوذ البحري ولتحفيظ وتحديد حدود مصالح التوجه الشيعي الايراني في المنطقة في مواجهة الغرب. وفي سياق هذه الاستراتيجية الإيرانية يمكن قراءة موقف كتائب حزب الله العراقية، التي أعلنت وقف عملياتها ضد القوات الأمريكية التي قالت أنها كانت دعما لغزة، غير أن قرارها بالتوقف مطلع هذه السنة كان مثيرا للانتباه. ففيما اعتبرت الكتائب أنه جاء لعدم احراج السلطات العراقيه، قال محللون أنه جاء بتوجيه من إيران مخافة تنفيذ بايدن لتهديداته العسكرية بضرب مصالح إيرانية بشكل مباشر.
ثم رغم وجود خطاب ما اصطلح عليه بوحدة الساحات بين الحركات المسلحة الشيعية والسنية، فإنه يمكن القول أن هناك خلافا جذريا في العقيدة القتالية بينهما. فالشيعة لم يقاتلوا كثيرا عبر التاريخ لاسميا في فترات الاستعمار الغربي ويبدو أن لهم قابلية للتفاوض والهدنة.
نرى كذلك أن الفرق كبير حتى على مستوى الشعارات السياسية للحركات المسلحة شيعية أو سنية، وهي شعارات مستوحاة من القرآن الكريم. بالنسبة لحزب الله يختار بشكل رئيسي الآية: “ألا إن حزب الله هم الغالبون”. وهو اختيار خطابي غير مرتبط بزمن معين وغير ملتصق بفعل أمر مباشر و واضح، وإنما هو خطاب يحدد الخاتمة فيما يشبه الوعد. في حين أن شعارات حماس هي مرتبطة بزمن آني وهي آمرية تفترض التدبير الإجرائي الفوري: “ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فانكم غالبون”، بمعنى أن قيمة الغلبة ترتبط بالقيام باجراء وحركة وفعل، ثم الشعار الثاني من خلال الآية”بعثنا عليهم عبادا لنا”، وقد تعتقد حماس أنها جزء من هؤلاء العباد بعثها الله للمهمة، وعليها القيام بفعل ما مباشر مادي وملموس بدون انتظارية تاريخية. على هذا الأساس وعلى هذا الخطاب المضمر تؤطر حماس عناصرها وتهيء الرأي العام، عكس شعارات التيارات الشيعية.
الخلاصة التي نفترضها هي وجود خلاف عميق في الخطاب القتالي، وفي أسلوب وطريقة وتوقيت مفهوم القتال عند الفئتين. نفترض أن للشيعة مفهوم انتظاري بعيد المدى يتحقق في زمن لاحق وفق شروط محددة عقديا، رغم ما قد يتعرضون له من اذلال، فهذا الإذلال هو في الأساس مرتبط بعلامات يوم القيامة والمهدي المنتظر وغيرها حسب عقيدتهم. عكس ذلك تماما نجد مفهوم الحركات السنية للقتال، الذي يعتبر في نظرها أمرا الهيا مرتبطا بالظرف الزمني القريب والمتوسط، للرد على أي ظلم كيفما كان قد يتعرضون له، مما يستوجب القتال بدون تأجيل أو انتظار.
نفس الملاحظة تشمل شعارات تيارات شيعية أخرى، أهمها حركة الحوثيين المعروفين بصراعاتهم الكبيرة مع الحركات السلفية في اليمن وأيضا مع الوهابية السعودية، وشعارها يسير في نفس الشعار العام لحزب الله اللبناني وهو “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”.
ويبدو أن الرد الإيراني العسكري الأخير على اسرائيل، ومحاولة أمريكا الضغط على نتنياهو من أجل عدم الرد العسكري الموسع، قد تكون له نفس الأهداف الاستراتيجية التي تناولها أعلاه، بتقديم مزيد من الدعم لصورة إيران والحركات الشيعية لمزيد من التوسع واقتسام المنطقة. وقد يكون الهدف هو تجاوز منطقة الخليج بعد اخضاع السعودية وباقي دول المنطقة، إلى بداية التمهيد للتوسع في منطقة شمال إفريقيا، باعتبار أن كل مواجهات الشرق الاوسط كانت لها نتائج توسعية لصالح إيران. وما قد يؤكد ذلك هو تردد اسرائيل في الرد على ايران إلى حد الساعة، مما قد نستنتج منه أن هناك تفكير داخل اسرائيل بتنسيق مع أمريكا لتحديد حجم الرد، الذي لا ينبغي أن يدمر الهدف المحقق وهو تقوية إيران على باقي دول المنطقة السنية.
هذه المحطات أفرزت نتائج عميقة على الذهنيات في المنطقة، وخلقت نوعا من التشيع السياسي الوظيفي حتى بالنسبة لفصائل وتيارات سنية، كما ساهمت في انتشار وارتفاع أعداد التنظيمات المؤثرة إقليميا في المنطقة، ابتداء من لبنان والعراق وسوريا وامتدادا إلى اليمن والبحرين، وربما الى مناطق عربية أخرى لا تزال في طور البناء والتشكل.
وقد يكون التخوف من هذا الوضع هو ما أدى إلى مخاطبة الملك محمد السادس الشعوب والقادة في قمة الخليج سنة 2019 بمفردات غيرمسبوقة، حيث خاطب باقي قادة الخليج بلغة غير مسبوقة، من أهم ما جاء فيها ” فماذا يريدون منا ؟ إننا أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي. فالأمر واضح، ولا يحتاج إلى تحليل. إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا، التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية”.
جاء هذا الخطاب وهذا النقد من دولة داخل الحلف السني، وقد يكون سببه غياب رؤية عربية سنية لمستقبل المنطقة، نابعة من قراءة واقعية واستراتيجية لوضع يتميز بتخبط عربي سني و فشل في تدبير وتوصيف الأزمات الإقليمية كأزمة اليمن وسوريا وليبيا، والتدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية. إلى جانب كونه خطاب وضع تشخيص لمخاطر محدقة بالحدود الثقافية والاقتصادية لدول المنطقة وللمغرب. مخاطر لخصها الملك محمد السادس في فقرة مهمة من خطابه المذكور حيث قال ” غير أن هناك تحالفات جديدة،قد تؤدي إلى التفرقة، وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة. وهي في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة، وخلق فوضى جديدة، لن تستثني أي بلد. وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة، بل وعلى الوضع العالمي”.
هذه القراءة بدأت تظهر معالمها بشكل جلي وواضح في المنطقة حاليا، ليس فقط في منطقة الخليج، بل قد تصل شظاياها الحارقة إلى منطقة شمال إفريقيا وأيضا إلى عمق القارة الإفريقية.
داخليا، المغرب مطالب بالاحتكام إلى المنطق الديمقراطي التشاركي بدون إقصاء حساسية أو إيديولوجية سياسية أو دينية، مع الحرص على تدعيم مؤسسة إمارة المؤمنين كمؤسسة لها بعد ديني دنيوي عميق، من أجل توحيد الصف الداخلي وتقوية المناعة الثقافية والسياسية.
على المستوى الخارجي ورغم الظغوط التي قد تتعرض لها المملكة، من قبل عدد من دول الخليج أو من بعض الدول الغربية، فإنه يتعين عدم الانجرار لأي مواقف متسرعة أو تدخلات ميدانية غير ناضجة، مع ضرورة استعمال الديبلوماسية الدينية في جميع أشكالها المتجلية في “إمارة المؤمنين العلوية”، لأنه على ما يبدو أن نتائج المواجهات الحالية وكما يتصورها عدد من الباحثين، قد تصل إلى شمال إفريقيا في زمن أقرب مما نتصور بناء على ما نعاينه من تسارع للأحداث والمشاريع التوسعية. فبعدما كان لنتائج غزو العراق سنة 2003 ثم حرب 2006، الأثر السريع في الانتشار الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، فإنه قد يصبح من الضروري والمستعجل النظر في هذا التأثير الشيعي الكامن غير واضح الأهداف السياسية والعقدية وغير واضح التحالفات العالمية، ليس فقط على المغاربة، وإنما على حدود المغرب الثقافية والسياسية وأيضا الاقتصادية، حدود ممتدة من شمال إفريقيا إلى عدد من دول افريقيا إلى البحر الأحمر والخليج، فالمخاطر بدأت تلوح في الأفق بالنظر إلى سياق مهيأ لذلك بوجود دول في المنطقة، تتعرض للهشاشة المؤسساتية وللتفريغ الفكري والضعف الاقتصادي بشكل مستمر، مما قد يفرض الانتقال أو تطوير المنظومات الثقافية والأمنية والسياسية لمواجهة التيارات السنية جهادية أو متطرفة، إلى منظومات تراقب القدوم الجديد للتشيع الفارسي ذو نزعة الهيمنة، والمثير للصدامات الدينية والمجتمعية بالأساس، والمهدد للاستقرار العقدي والسياسي.
تعليقات الزوار ( 0 )