نورالدين لشهب
الحقل الديني، وهو مفهوم أصله عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu ونقله إلى المجال التداولي المغربي الباحث المغربي محمد الطوزي، شهد هيكلة جديدة بالمغرب في سياق دولي تمثل في أحداث الـ11 من شتنبر 2001، وسياق وطني تجلى في وجود خلايا تابعة لما أطلق عليه إعلاميا بـ”السلفية الجهادية” وما أعقب ذلك من أحداث ووقائع بعد 16 ماي 2003 بالدار البيضاء.
وشرع الملك محمد السادس، باعتباره أميرا للمؤمنين، في سن مجموعة من الآليات والضوابط الناظمة باعتبارها خارطة طريق لضبط الحقل الديني بالمغرب وتأهيله، حيث كان الهدف منها هو “تأهيل الحقل الديني وتجديده، تحصيناً للمغرب من نوازع التطرف والإرهاب، وحفاظاً على هويته المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح”، و”صيانة الحقل الديني من التطاول عليه من بعض الخوارج عن الإطار المؤسسي الشرعي”، و”الحفاظ على الوحدة المذهبية للمغرب والتشبث بالمرجعية التاريخية الواحدة للمذهب المالكي”، وإصلاح المدارس العتيقة “بتحصينها من كل استغلال أو انحراف يمس بالهوية المغربية، مع توفير مسالك وبرامج للتكوين تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية وتجنب تخريج الفكر المنغلق وتشجيع الانفتاح على الثقافات”، كما جاء في معالم هذه المبادرة.
وبعد ما يزيد عن 14 سنة تقريبا من مبادرة هيكلة الحقل الديني بالمغرب، فلا يزال العلماء الرسميون الذين انخرطوا في هذا المشروع الكبير والمهم وغير المسبوق في العالم العربي غير قادرين على ممارسة أدوارهم في عملية “الاستقطاب المضاد” الذي تقوم به الحركات “الجهادية” المتطرفة، ولا أدل على ذلك القصور من حجم الخلايا الإرهابية التي يتم تفكيكها من قبل المؤسسة الأمنية بالمغرب.
فهل الفقيه الذي يعنى بالأحكام الفقهية والتوجيهات الشرعية غير قادر على دحض الأصول الفقهية التي ينبني عليها الاستقطاب “الجهادي”؟ كيف يمكن للفقيه أن يتصدى للقراءة المتطرفة للدين وفي الآن نفسه يتصدى للقراءة المتطرفة ضد الدين نفسه؟ هل الفقيه، اليوم، قادر على أن يلم بالظاهرة في شموليتها في غياب المثقف المختص في الظواهر الاجتماعية؟ وماذا عن الفقيه الديني بديار المهجر؟ هل يعيد ويكرر ما قيل وقال في المغرب أم يحتاج إلى رؤية إبداعية تستشرف وتجيب عن التحديات المطروحة في بلاد المهجر؟
الفقيه والمثقف.. جدلية الأدوار وتكاملها
لا يتردد الدكتور جواد الشقوري، الباحث في الفكر الإسلامي المعاصر والمكلف بمهمة بمجلس الجالية المغربية بالخارج، في القول بأن دور الفقيه أساسيّ ومركزيّ في مواجهة الفكر الإرهابي الذي يستند إلى النصوص الدينية لتبرير النزوع نحو الإرهاب؛ لكن “عمل هذا الفقيه يظل قاصرا في مواجهة الإشكالات التي يفرضها الواقع المعاصر، إذا لم تتم الاستعانة بالخبراء في مجال الفكر والثقافة”.
ويضيف الشقوري، بأن المفكر والمثقف المقصود بكلامه هو الذي “يستند إلى المرجعية الدينية ليس في بعدها الفقهي فقط وإنما كرؤية للكون والعالم والحياة…أي الذي ينظر إلى الدين كمصدر للمعنى وليس كمنظومة فقهية أو برنامج سياسي”.
ويميز الشقوري في الوظيفة ما بين علماء الدين وفقهاء الشريعة الذين يتكلفون بدحض الأسس الفقهية والشرعية التي يستند إليها الفكر المتطرف، وبين ما وصفه بـ”المثقف أو المفكر الديني” الذي يُعنى بـ”الحفر في الأسس الفكرية والاجتماعية التي يتأسس عليها هذا الفكر”.
ودعا خريج مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط إلى “إعادة الاعتبار للعمل الفكري والثقافي؛ وذلك بتغيير نظرة الدولة بمؤسساتها المختلفة، خاصة الدينية، إلى المثقف الديني، وأيضا إعادة الاعتبار إلى العمل الفكري والثقافي داخل مشروع تدبير الشأن الديني بالمغرب”.
ويقتضي هذا الأمر، حسب المتحدث، عدم استدعاء المثقف الديني عندما يتعلق الأمر فقط بالإرهاب والتطرف الذي يمارسه بعض المسلمين باسم الدين؛ بل يجب أن نستدعيه أيضا عندما يتعلق الأمر بمواجهة الفكر المتطرف الذي يستند إلى موقف متطرف من الدين، والذي يستعمل الفكر كغطاء للحديث في الدين.
إن الفكر الإرهابي، يقول الشقوري، “يتغذّى من القراءة المتطرفة للدين ومن القراءة المتطرفة ضد الدين؛ فالقراءة الأولى تؤصل للفكر الإرهابي من الناحية الدينية. أما القراءة الثانية، فتُقدم مبررا لهذا الفكر، لكي يتبنى منحى صداميا بمكونات المجتمع المختلفة”.
ومن هنا، يبدو من خلال كلام الباحث أن المثقف الذي لا يعتقد بمحورية الدين في حياة الناس والمجتمع لا يمكن أن ينجح في مواجهة الفكر الإرهابي المتطرف؛ فهذا النوع من المثقف يبقى يمثل المشكل وليس الحل، والأمثلة كثيرة في هذا الشأن.
كما دعا الشقوري إلى “عدم حصر دور المثقف الديني في إطفاء الحرائق التي ربما قد تَسبّب فيها غيره؛ فالإسلام أكبر من حصره في عمل “الإطفائي”، وكأن مشكلة الإرهاب سببها الوحيد هو القراءات الخاطئة للنصوص الدينية، بمعزل عن الظروف الثقافية والنفسية والاجتماعية المرتبطة بالفعل الإرهابي”.
وهكذا، يبقى دور المثقف الديني ذي المرجعية الإسلامية غير محدد بمجموع الأزمات التي يمر بها المجتمع؛ بل ينبغي، كما يرى الباحث الشقوري، “أن يمتلك هذا المثقف رؤية لواقع وتحديات الإسلام في اللحظة العالمية المعاصرة. ومن ثمّ، ستأخذ مواجهة الفكر الإرهابي المتطرف الحجم الذي تستحقه؛ فدور المثقف الديني ذي المرجعية الإسلامية أكبر من مواجهة التطرف أو الفكر الإرهابي”.
في الحاجة إلى مؤسسة فكرية-دينية قوية بالمغرب
ويبدو، من خلال الباحث، أن المغرب بات، اليوم، في أمسّ الحاجة إلى مؤسسة دينية- فكرية قوية تحظى برؤية هادفة، ونظر شاملة، يتمثل دورها في الاشتغال على الأسئلة التي تشكل تحديا للإسلام في واقعنا المعاصر، وأن تشتغل على الثوابت الدينية للمغرب ليس من حيث التأصيل لها، وإنما من خلال جعلها تجيب على التحديات القيمية والفكرية والهوياتية التي تجتاح المجتمعات، والعبارة للحدود كما يتلقاها المتتبع في عصر الانفتاح الإعلامي عبر الأنترنيت.
وألمع الشقوري إلى مسؤولية الساهرين على الشأن الديني بالمغرب بأن يعوا ويدركوا أن مسألة العلاقة بالدين “لا تقتصر على استنباط الأحكام الفقهية كما هو دور الفقيه، وإنما العلاقة بالدين أوسع وتشمل بناء رؤى وتصورات في مختلف المجالات الحياتية انطلاقا من المرجعية الدينية الواسعة”؛ ذلك أن الجهد الأكبر الذي تبذله المؤسسة الدينية والعلمية بالمغرب ينصب على التأصيل لتدين المغاربة معتقدا وفقها وسلوكا وحسب، بل إن ما يحتاجه واقعنا المعيش “يتجاوز مستوى العمل العقدي والفقهي، ويحتاج إلى عمل فكري يفهم حيثيات الواقع ويقدم رؤى قادرة على استيعاب تطوراته المختلفة خاصة تلك المتعلقة بالنزوع نحو التطرف والإرهاب”، وفق رأي الباحث.
ويضيف: “إذا كان عمل الفقيه ينصب بالأساس على نشر المعرفة الفقهية التي يستقيم بها تدين الفرد المسلم، فإن المثقف الديني معنيّ ببناء رؤى بمقدورها أن تضع الإسلام في قلب العصر وتجعله يُسهم في النقاشات الفكرية التي تجتاز الحضارة المعاصرة”.
ومن هنا، يرى “ضرورة انفتاح المؤسسة الدينية بالمغرب على المثقف الديني غير المؤدلج، والذي تحركه دواع معرفية وفكرية أكثر مما تحركه دواع مرتبطة بالانتصار لهذا الطرف أو ذاك”.
وبالنسبة إلى دور المثقف الديني المغربي المقيم في أوروبا، الذي يجمع بين الثقافة الشرعية وبين الوعي بالسياق الاجتماعي والثقافي الأوروبي، فهو “يبقى دورا محوريا في بناء خطاب فكري متناغم مع مقاصد الإسلام ومنفتح على القيم الإنسانية المشتركة. وقد يكون استيعاب هذا المثقف لقضايا التطرف والإرهاب والأصولية الدينية أكبر من المثقف الديني الذي يقيم بالمغرب، باعتبار التجارب التاريخية التي مرت بها المجتمعات الأوروبية في مواجهتها لمثل هذه الظواهر”، يخلص الباحث الشقوري.
تعليقات الزوار ( 0 )