دعا العلامة اللغوي محمد كاظم البكاء، في حوار خص به جريدة بناصا، إلى التمسك بمنهج سيبويه فمن فهمه لا يحتاج إلى غيره، مستشهدا بالعالم النحوي الجرمي الذي كان يقول: “كنت مذ ثلاثين عاما أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه”.
واعتبر محقق كتاب سيبويه أن علم اللغة الحديث لم يتجاوز كتاب سيبويه، وكشف عن القدر المشترك فيه مع اللغات الأخر في الدراسات الحديثة عند دوسوسير، وتشومسكي، حين درس عبد القاهر الجرجاني الذي قرأ كتاب سيبويه قراءة جيدة، وأفاد منها في كتابه ( دلائل الإعجاز).
وذهب العلامة اللغوي إلى أن اللغة العربية اليوم تعاني هجر الموروث العربي والدراسات القديمة بالتوجه نحو الدراسات الغربية، و”الحقيقة ينبغي أن نفتح النوافذ لكلّ التيارات والإفادة منها شريطة أن لا تقلعنا من الجذور”.
تابعو الحوار كاملا …
* اشتهرتم دكتور في مجال الدراسات اللغوية العربية لتحقيق كتاب سيبويه هلا حدثنا عن تجربتك في تحقيقه؟
تخرّجت في كلية الفقه في النجف الأشرف بالعراق عام 1967 ، وعيّنت بصفة ( معيد) لأنّي الأوّل على دفعته بدرجة امتياز ، أكملت الماجستير في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ، وفي جامعة بغداد 1980، وكانت الرسالة ( منهج البحث النحوي عند عبد القاهر الجرجاني) ، ثم الدكتوراه عام 1985 ، والرسالة ( منهج التقويم النحوي في كتاب سيبويه) ؛ فكشفت عن منهج كتاب سيبويه وترتيب أبوابه ، فشرعت في ( كتاب سيبويه – تصنيف منهجي وشرح وتحقيق علمي) الذي تمّ في ستة مجلدات استغرقت فيه أكثر من عقدين من الزمان مستعينا بمخطوطات ، منها نسخة شيخ المحققين عبد السلام محمد هارون ونسخ أخرى ، بينها أقدم نسخة لكتاب سيبويه في العالم بالجامع الكبير بصنعاء إضافة إلى المخطوطات في تفسيره والدراسات الحديثة، وانتهيت إلى أنّ كتاب سيبويه ذو منهج منطقي سليم في ترتيب علمي دقيق لو قدّم ثان فيه لاختلّ ترتيبه ، وقد تضمن قواعد اللغة العربية كاملة واضحة، واليوم أتابع شرح الكتاب على اليوتيوب:
ومن المناسب أن أختصر الكلام على منهج سيبويه، وبيان الفرق بين منهج الكتاب والمنهج الذي ندرسه (شرح ابن عقيل):
كتاب سيبويه في قسمين، وكلّ قسم أجزاء. فأمّا (القسم الأوّل) فقد ضمّ أبواب النحو، وهو في أربعة أجزاء هي:
1- مقدّمة الكتاب (أبواب الكلم والكلام).
أنواع الإسناد – إسناد الفعل.
2- أنواع الإسناد – إسناد الاسم وإجراؤه على ماقبله
3- أنواع الإسناد – الإسناد الذي بمنـزلة الفعل
4- أحكام الإسناد مع بدائل الاسم المظهر:
(الضمائر، الاسم الناقص، الممنوع من الصّرف، الأسماء في باب الحكاية)
وأمّا (القسم الثاني) فـقد ضمّ أبواب الصّرف والأصوات وهو في ثلاثة أجزاء هي:
1ـ ما يعرض للفظ: أي أبواب ما يعرض للفظ عند صوغه على بعض الأبنية( النسب، التثنية وجمع التصحيح …إلخ ).
2- تأدية اللفظ: أي أبواب مايقع للفظ عند التلفظ به وتأديته (لفظ بعض الأمثلة، الإمالة …إلخ)
3- بنية اللفظ: أي أبواب عدّة ما يكون عليه الكلم وأحواله ، والزيادة ، والتضعيف …إلخ .
وهي تجزئة لم يسبقنا إليها أحدٌ ، وقد روعي فيها التصنيف المنهجي للكتاب من دون أدنى تغيير في ترتيب أبوابه في طبعات الكتاب السابقة .
أمّا منهج النحويين المتأخرين من زمن ابن السراج 316 هـ ، فهو الذي ندرسه في (شرح ابن عقيل) :
- مقدمة في أنواع الكلام والمبني والمعرب والنكرة والمعرفة
- المرفوعات
- النواسخ
- المنصوبات
- المجرورات
- الأبواب النحوية الأخرى
جمعَ ابن السراج أبوابَ الجملة الفعلية والاسمية ، وتعذّرت عليه النواسخ التي فيها مرفوع ومنصوب ؛ فجعلها معا ، أمّا الأبواب النحوية الأخرى فلم تنتظم عنده في تصنيف معيّن ؛ فتركها من دون تصنيف ؛ وهذا خلل منهجي.
ثم إنّ ( كان وأخواتها) في منهج النحويين المتأخرين مع (النواسخ) ، وفي منهج سيبويه مع (إسناد الفعل) – فعل ومرفوع ومنصوب – مثل : كتب زيدٌ رسالةً ، غاية الأمر أنّ المرفوع والمنصوب في (كان ) (هو هو) : أي نفسه ، تقول : كان زيدٌ مسافراً ، فزيد هو المسافر ، أمّا المرفوع والمنصوب في (كتب زيدٌ رسالةً) – رسالةً غير زيدٌ- ؛ فالمنصوب (ليس هو) ،وهو تصنيف دلالي منطقي ؛ ومن ثَمَّ ليس هناك نقص ، وكونها (ناقصة) في تعبير المتأخرين غير دقيق ؛ قال الله تعالى ” فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى [الليل : 5]” ؛ فهل الفعلان نقصان ؟! ، وقال النحويون المتأخرون في قوله تعالى ” تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء : 23]” فيه ( أُفٍّ ) اسم فعل مضارع ، وهو خطأ فادح ؛ فرأي سيبويه أنّها صوت الفاء ، مثل إبٍّ ؛ الباء مع همزة لتوضيح صوتها ؛ فليس عنده اسم فعل مضارع أو اسم فعل ماض ؛ فجميعها أصوات ، وإنما اسم الفعل للأمر والنهي تحديدا، وغير ذلك من الأخطاء في قواعد النحو والصرف.
إنّ علينا أن نتمسك بمنهج سيبويه فمن فهمه لا يحتاج إلى غيره ، وكان العالم النحوي الجرمي يقول كنت مذ ثلاثين عاما أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه ؛ لكونه منطقيّا بُنِي على الأسس العقلية ؛ وقد ألّف الجرمي كتابا في النحو سمّاه ( الفرخ) أي فرخ مكتاب سيبويه ، وعندما ألّف المبرّد مصنّفه سمّاه ( المقتضب ) احتراما وتهيبا من كتاب سيبويه ، والإمام الشافعي رضي الله عنه عندما قرأ كتاب سيبويه أعاد تسمية رسالته في أصول الفقه ، وأسماها ( الكتاب) على سمت تسمية كتاب سيبويه ؛ ليجعله عمدة في أصول افقه ؛ فكتاب هذا شأنه في تاريخ العلم لابدّ أن يكون ذا شأن عظيم في موضوعه ، وأقول على مسؤوليتي العلمية وهي كلمة قيلت من قبلُ من فهم كتاب سيبويه فليست فيه حاجة لكتاب آخر ؛ فلا يصلح هذا الأمر إلا بما صلح به أوّله ؛ وقد تخرّج أئمة النحو في مدرسة سيبويه ، وبقي (الكتاب) المرجع الوحيدَ في الدرس النحوي أكثر من قرن ونصف ، ولكنّا مما يؤسف له قد فقدنا (الكتاب) فأضعنا الصواب.
* هل تعتقد أنّ تراث سيبويه ما زال ناقصا اليوم ويحتاج إلى تحقيق؟
ليس لسيبويه إلا (الكتاب) وقد بذلنا فيه جهدا للكشف عن منهجه ، وشرح عباراته ، وليس ثمة فضل لمستزيد ، والحقيقة أنّ عملنا في الكتاب كان بدافع شخصي ؛ لأنّي أردت فهم الكتاب بعد أن كشفت أهمية الكتاب لطالب العربية عند أستاذنا العلامة علي النجدي ناصف مؤلف كتاب (سيبويه إمام النحاة) بدار العلوم بالقاهرة ؛ فأقبلت عليه اقبالا شديدا ، ثم وجدت أم الدكاترة وأستاذة الأساتيذ الدكتورة خديجة الحديثي قد عنيت بالكتاب ، فشجعتني على ركوب البحر بدراسته في مرحلة الدكتوراه ،فقلت لها مازحا : أخاف ركوب البحر ، وهي الكلمة التي قالها المبرّد لمن أراد قراءة كتاب سيبويه ( هل ركبت البحر)، ولكن والحمد لله فرغت من دراسة الكتاب بتدبّر وفهم تام ، وقد ركبت البحر وغصت في أعماقه بفضل الله وتوفيقه .
* هل تجاوز علم اللغة الحديث تراث سيبويه وجعله نسيا منسيا؟
علم اللغة الحديث لم يتجاوز كتاب سيبويه ، وقد كشفت عن القدر المشترك فيه مع اللغات الأخر في الدراسات الحديثة عند دو سوسير ، وتشومسكي ، حين درست عبد القاهر الجرجاني الذي قرأ كتاب سيبويه قراءة جيدة ، وأفاد منها في كتابه ( دلائل الإعجاز) على وجه أتاح لي الفرصة في دراسة الماجستير لعقد الموازنة بين (نظرية النظم) وما لدي الغربيين في بحث القدر المشترك بين اللغات ، أمّا المعاصرون الغربيون ومن تابعهم من العرب فقد حال بيننا وبينهم التغريب والمصطلحات ، وهم لم يتفقوا على منهج واضح واحد لمتابعته ، لغرض مقارنته بكتاب سيبويه ، وذلك ما وقفت عليه وأنا أتابع في الدراسات الحديثة نظرية النص وتحليل الخطاب وما يتعلّق بهما من ( العرفنيّات).
*ما سبيل النهوض باللغة العربية في رأيكم؟
اللغة العربية اليوم تعاني هجر الموروث العربي والدراسات القديمة بالتوجه نحو الدراسات الغربية ، والحقيقة ينبغي أن نفتح النوافذ لكلّ التيارات والإفادة منها شريطة أن لا تقلعنا من الجذور ، وقد وجدتهم يترجمون ما لدى الغربيين ، وقد لا يحسنون الترجمة ، وأنّ الذي عليه البحث العلمي أنّ لكلّ لغة خصائصها وفقهها ؛ فعلينا أن نتدبّر ما في التراث قبل القفز نحو الحداثة وما لدى الغربيين الذين يحسنون دراسة لغاتهم التي يتكلمون بها ، ومن الطريف أنّي تسلمت دعوة بعنوان ( مختبر كذا للعرفنيّات واللسانيّات والتداوليّات)، فما العرفنيّات؟!
والخلاصة من هذا الحوار أن ننشر نحو سيبويه ( قناة شرح كتاب سيبويه).
تعليقات الزوار ( 0 )