هي حرقة مشحونة بمزيج من الغضب والحيرة، تلك التي يعاين فيها الشاعر العربي مآسي الإبادة الوحشية، الممارسة على الشعب الفلسطيني ليل نهار، من قبل عساكر الاحتلال الصهيوني . إبادة، لم تفلح في ردعها مسيرات الإدانة الجماهيرية الناطقة بلسان الضمير الإنساني، والمنددة بتجاهل المنتظم الدولي لمواثيقه وأعراف الدولية، وهي تبدو أكثر من أي وقت آخر، مفتقرة تماما لأي سلطة إجرائية، كفيلة بكبح جماح آلة القتل المهووسة بمراكمة المزيد من جثامين الشهداء. ومن المؤكد أن حيرة الشاعر ذاته، تتفاقم كلما استيقظ في دواخله طيفه القديم، الذي كان يستمد مصداقيته، من تصديه لكل المتطاولين على شرف القبيلة وأمنها. استيقاظ، يؤثر بشكل ملموس في توليد إحساس مؤرق بالمسؤولية، تتبدد معه كل المقولات الجمالية والنخبوية الداعية إلى فصل الكتابة الشعرية عن مرجعياتها. إنه يجد نفسه تبعا لذلك مدعواً، وبكل ما يتحلى به من قيم أخلاقية ونضالية، للاستجابة إلى صرخة شعب يقف وحيدا في مواجهة حرائق لا قبل للعالمين بها.
وضمن هذا السياق، سنجد أنفسنا بصدد مختلف تلك المقولات المنادية بأهمية توظيف القصيد في الدفاع عن قضايا الشعوب، بوصفه أداة نضالية لا غنى لها عنها، لكن رغم اقتناعنا المسبق بصدق هذه النوايا، إلا أنها تظل من وجهة نظرنا بحاجة ماسة إلى المراجعة، باعتبار أن الأحداث ومهما اشتدت خطورتها وجسامتها، لا تنتج بالضرورة أعمالا فنية أو أدبية، تحظى بما يكفي من الأهمية والفاعلية. علما بأن فكرة المراجعة، لا تنطوي على أي تبخيس للقيمة النضالية والإنسانية التي يتميز بها القول الشعري المناهض للشر، بقدر ما تشير ضمنيا إلى استحالة امتلاكه موضوعيا، لما يكفي من الشروط الجمالية، الكفيلة بدمجه في المدونة المكرسة عادة للنصوص الكبيرة، بما هي أعمال جمالية مستوفية لشروطها، ومنفتحة على مستقبل يستقل بوجوده، عن مقتضيات المرجعيات الظرفية والمناسباتية. بمعنى أن الأمر يتعلق بسياق يتعذر فيه إنتاج أعمال تضاهي حمولتها الدلالية ذلك التأثير العاصف والمدوي الناتج عن الانفجار العشوائي والدرامي لجحيم المجازر. ذلك أن ما ترشح به من شعرية، لا يعدو أن يكون جماع أصداء ماضية، سبق للإرث اللغوي أن راكمها خلال تفاعله مع أحداث مشابهة، بصرف النظر عن الملابسات التاريخية التي تتميز بها هذه الأحداث.
ولنا أن نستحضر ضمن هذا الإطار، ظاهرة الالتزام الفني، التي تعالت نبرتها مع بداية القرن الفارط، بتواز مع تنامي حركة التيارات المنتصرة للإنسان في مواجهته للأنظمة الشمولية. وإذا كانت الظاهرة قد ساهمت في ميلاد قامات شعرية لها وزنها الكبير في ذاكرة الإبداع العالمي، إلا أنها أدت في الوقت ذاته إلى إفراز طوابير مترهلة وعشوائية، من أشباه القامات، التي لا صلة لها بنبض الجسد الشعري، ولا بقوة الحدث المنبثقة عنه.
أشباه قامات وأشباه نصوص، كان لها دور كبير في تشويه فضاء الكتابة الشعرية، وإصابته بأعطاب مزمنة، ما فتئت تلازم مساراته، أينما حل وارتحل. علما بأن الظاهرة حينما تستفحل، ويتم تكريسها من قبل العامة، بتشجيع من الشرائح المؤدلجة، لا تلبث أن تتخذ صفة حقائق ومسلمات، تتعذر مساءلتها نقديا، أو الطعن في مصداقيتها. فالأحداث المروعة من قبيل المجازر التي ينتشي الكيان الصهيوني بممارستها على الشعب الفلسطيني، ومنذ الوباء «البيلفوري» إلى اليوم، هي أكبر بكثير، من أن تنتظم في قوالب البكائيات اللغوية، الموسيقية، أو التشكيلية، خاصة في خضم وقتنا الحالي، الذي تهيمن فيه سلطة الإعلام السمعي البصري. ما يدعونا للقول، بأن الفورة النضالية المؤطرة بمقوماتها التاريخية والهوياتية، لا تلبث أن تصطدم بعائق إبداعي مغاير، يمكن اعتباره بحق، الأكثر قدرة على الارتقاء إلى مقتضيات هذه الاستجابة العالية.
ونعني به الحضور الوازن للإبداع التسجيلي والتوثيقي، الذي تتألق فيه الصورة، بما تمتلكه من سلطة سمعية وبصرية، والذي يعتبر حتما، الأداة المثالية لتحقيق إمكانية الحلول التام والمطلق، في عمق اللحظة التراجيدية التي يعاني الشعب الفلسطيني من ويلات جحيمها. فبقوة هذا الجنس الفني والتقني، تنمحي أو تكاد المسافة الفاصلة بين العمل الإبداعي والمعيش، كي يتحقق ذلك الانصهار الروحي الصعب بين الطرفين، حيث تدفع التراجيديا البشرية، بحضورها الوازن في عمق ضراوة الحدث وعنفه، محتلة بذلك مركز الرؤية وسداها بلا منازع، وحيث ما من خيار متاح للفعل التوثيقي، سوى الالتفاف بكل ما يمتلكه من مكونات وإمكانات على الذات الفلسطينية المكلومة، والمصابة بلعنة يتمها، في زمن عربي تنخر مفاصله ديدان الخذلان .
إن الصورة هنا بسلطتها التوثيقية والتسجيلية، لا تتهيب من رهبة موضوعها، فلا يثنيها رعب المرئي عن استدامة إقامتها فيه، كما أن الترددات المتتالية لمآسي المجازر، لا تصرفها عن إطالة النظر في جثامينها، ولا تسمح للوهن بالتسلل إلى مفاصلها، مهما احتد عنف اللحظة واشتدت شراستها. أيضا هي تحتفظ بعنادها المكابر، فلا تستسلم لقضاء ما، ولا تتراجع أمام هول مصاب.
إن الصورة هنا، ترى في ذروة العتمة، ما لا تقوى على رؤيته القصيدة المناسباتية في عز الضوء. تخترق الحرائق، وتتلقى لهب القذائف، ملتقطة خلال ذلك، الحشرجة الأخيرة من تحت الأنقاض. تتقاسم مع المقاومة أسرارها، وتتفنن في استدراج القتلة إلى نار الكمين. لا تخطئ في إحصاء أطنان القذائف المتهاوية على المربع السكني الواحد، كما لا تتأخر في إخبارك باسم الشهيد الأخير، رضيعا كان، امرأة، أو شيخا. إنها الصورة المتجردة تماما من دمقس الاستعارة وحريرها، والقادرة مع ذلك على الحديث بكل لغات الكون. تتقن الإصغاء إلى ما تبوح به الصرخة والأنين، إتقانها البوح بما أخرس الصوت واللسان في ليالي ونهارات القتل، والكفيلة بصيانة طراوة اللحظة، كي لا يطالها التحلل أو البلى، إنها الصورة التي لا تكف عن مطاردة شبح العدو، والكشف عن وحشيته الإبليسية، مهما تبرج بمساحيق ملائكة الرحمن. خبيرة بنوايا بؤبؤ القناص، وعليمة بمزاعم فوهة المدافع، ملمة بالسبب وواعية بالغاية. إنها هكذا، وفي أقل من لمح البصر، تستطيع بحرائق سردياتها، أن تقول ما لا تفي به أسفار ثقيلة من الكتابات، وغيرها من التلوينات الفنية والأدبية. ونعني بها سرديات الشتات العظيم، حيث لم تعد ثمة من دلالة للذات، للأسرة، للمجتمع، للحاضر للماضي أو المستقبل، للحياة وللحلم، للعقل أو الجنون، ما دام القتل ثم القتل، ثم القتل، هو سيد المكان والزمان، الذي يتوسط خرائب الصورة وحرائقها بامتياز. الصورة التي تظل وحدها يقظى حينما تنام ضمائر العالم، وتغمض آلهة الأولمب عيونها مؤقتا، أو إلى الأبد. فضلا عن ذلك، ثمة حركيتها العصية على أي تأطير أو تحديد مسبق أو مقنن، لكونها سيدة الاختراق، بقدر ما هي سيدة العبور. فما من حيز توجد فيه إمكانية الرؤية، إلا وتحل فيه، دون أن تستشير فضولك أو تساؤلك.
هي هكذا وكما تعلم أولا تعلم، تتموضع تحت أنظارك دون سابق إنذار، كي تلقي بك هناك. تماما داخل المشهد، حيث القتلة الجبناء، يعانون من سعار الكراهية التي تستحثهم على تسييد رهاب الإبادة، ضدا على صرخات الإدانة المدوية من جهات الكون كافة، ثم هي، هكذا، مكتملة الحضور في أوج غيابنا، حيث ليس للقصيدة سوى أن تلوذ بصمتها، بانتظار صيغة مغايرة للتجلي، أو ربما للزوال.
تعليقات الزوار ( 0 )