شارك المقال
  • تم النسخ

علي الإدريسي يكتب: ما الأهم عند الدول الديمقراطية: الكفاءة أم الولاء والطاعة؟؟

 عين الرئيس دولاند ترامب  يوم 15 مايو 2020 منصف السلاوي المغربي الأصول، المولود في أغادير سنة 1959، رئيسا لـ”مشروع تطوير اللقاحات ضد فيروس كورونا في الولايات المتحدة”، فما هو المسار العلمي الأولي للسيد منصف السلاوي الذي أوصله إلى ما وصل إليه؟

حصل منصف السلاوي على الباكالوريا في مدينة الدار البيضاء سنة 1976. ومن المغرب توجه إلى فرنسا لمزاولة تعليمه الجامعي، قبل أن يغير وجهته إلى بلجيكا، حيث حصل على الإجازة في البيولوجيا، قبل  أن يحصل على الدكتورة في علم الأحياء الجزئي؛ وعاد بعد ذلك إلى المغرب، حيث حاول التعريف بهذا التخصص الجديد غير المعروف في الدراسات الصيدلانية والطبية في المغرب؛ فكان أن تقدم بطلبين إلى كليتي الطب والصيدلة في الرباط والدار البيضاء (وهما كليتا الطب والصيدلة الوحيدتان في المغرب يوم ذاك). لإلقاء محاضرة للتعريف بهذا التخصص. قبلت كلية الرباط طلبه. لكن محاضرته الغيت قبل 24 ساعة من تاريخ إلقائها دون ذكر السبب. أما الطلب المقدم إلى كلية الدار البيضاء فلا يزال ينتظر الجواب إلى اليوم.

يعتقد بعض العارفين بأن سبب رفض محاضرتيْ الدكتور السلاوي قد يعود إلى انتمائه للاتحاد الوطني لطلبة المغرب (U N E M)، جناح حركة إلى الأمام الماركسية اللينينية، المناهضة آنذاك للنظام المغربي؛ لأن أنظمة سياسية، ومنها النظام المغربي، كانت تؤمن بمبدأ “الولاء والطاعة قبل الكفاءة”، كما أن الأساس الذي كانت الإدارة المغربية تعتمده، في تعاملها مع المغاربة، تلخصه عبارة “هل أباك صاحبي”.

ويذهب البعض الآخر إلى أن أمر رفض إلقاء منصف السلاوي لمحاضرته في التخصص العلمي الجديد تصادف مع وجود الدكتور عزالدين العراقي، وزير التعليم، (ومن ضمنه التعليم العالي)، المعروف بمواقفه المناهضة للمتحدرين من الأطراف. وللأسف فإن منصف السلاوي ينتسب جغرافيا إلى المنطقة وإلى الإثنية اللتين لم تكونا تحظيان برضا الوزيرعز الدين العراقي.

وقد تكون هناك أسباب أخرى تتعلق، مثلا، بالبلد أو الجامعة التي حصل منها السيد السلاوي على الدكتورة. فقد كان يسود اعتقاد، شبه راسخ، لدى مسؤولين كثيرين في كل من المغرب وتونس والجزائر مفاده: أن الشهادات التي يتم الحصول عليها من فرنسا هي الشهادات العلمية الحقة؛ أما غيرها فهي دون ذلك.

على ذكر الجزائر، يحضرني اسم الدكتور إلياس زرهوني، من مواليد 1952 في مدينة ندرومة بغرب الجزائر، المتخصص في علم الأشعة من إحدى الجامعات الأمريكية، والذي عينه الرئيس بوش الابن سنة 2002 رئيسا للمعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان هذا الطبيب قد تطوع لتقديم استشارات طبية لبلده في مجال تخصصه. غير أن المسولين في الجزائر لم يتفاعلوا معه إيجابيا، فرحل مجددا إلى أمريكا، حيث أصبح أحد أهم أركان الصحة الأمريكية.  وقد شاع في الجزائر في الثمانينيات أن سبب رفض الاستشارات العلمية لإلياس زرهوني يتعلق بولائه. ويبدو أن ولاءه لم يكن لحزب فرنسا في الجزائر، أو لأي جهة أخرى نافذة في الجزائر؛ لأنه قرر أن يكون ولاؤه للبحث وللعلم فقط.

 ولماذا استطاع هذان الطبيبان العالمان من تولي مسؤوليات في هرم الإدارة الأمريكية، على الرغم من الاتهامات شبه العنصرية الموجهة لسياسة الرئيس ترامب، وإلى الرئيس بوش الابن، في الوقت الذي رفضت فيه حكومتاهما الاستفادة من أبحاثهما العلمية؟

الأمر ببساطة، حسب اعتقادي، يكمن في العلاقة بين النظرة البرجماتية إلى الكفاءة وبين عقيدة الولاء والطاعة. ونعلم أن الدول الديمقراطية، بمختلف تلويناتها وطبائع رؤسائها، تهتم بالاستفادة من الشخص الكفء، وتسعى في اختيار المسؤولين إلى الحصول على جواب عن سؤال يخص مصالح المجتمع ومستقبله، وهو: “ماذا يمكن أن يضيف صاحب الكفاءة للدولة وللمجتمع من خلال أبحاثه العلمية”؟ باعتبار أن التقدم لا يحدث إلا بتقديم إضافات وحلول ناجعة. أما الدول الأخرى، وعلى الرغم من لجوئها لرفع شعار “الإنسان المناسب في المكان المناسب”، فإنها لا تهتم بالكفاءة بقدر ما تحرص على تحقيق مفهومها للطاعة والولاء لأصحاب السلطة ومراكز القرار بدون شروط. وهذا يتنافى مطلقا مع ولاء العلماء لسلطة العلم ولنتائج أبحاثهم. وهكذا يبقى المطلوب الدائم من الشخص الذي تسند إليه مسؤولية ما في الدول غير الديمقراطية أن يؤكد، قبل كل شيء، الولاء والطاعة للجهة التي أولته تلك المسؤولية.

نعم، إن الكفاءة لا يمكن أن تبرز وتعطي ثمارها إلا في أنظمة ديمقراطية يتمتع فيها كل الساكنة بحقوق المواطنة. أما الولاء لغير القانون فهو خاصية أنظمة شمولية، أو مغلقة، تتخفى وراء شعارات وطنية، وشعارات الكفاءة؛ وهي في حقيقة الأمر لا تلتزم بها على أرض الواقع؛ وإنما تتقن العمل بسياسة “الولاء قبل الكفاءة”؛ وبتلك السياسة تدفع أهل الدراية والكفاءة دفعا مبرَّرا إلى مغادرة الأوطان.

إن مبدأ الكفاءة يساعد شعوبا وأمما، بلا شك، على التطور والازدهار الشخصي والجماعي؛ أما الولاء فلا يؤدي إلاّ إلى تخبط أنظمة دول في أوحال الشعارات، وإلى “الاجتهاد” والبحث عن مبررات الإخفاق والفشل الملازم لثقافة الولاء، أو الشيتة بلغة الشارع؛ وإلى البحث في الوقت نفسه عن منومات جديدة لرعاياها، إنها حلقة من حلقات استدامة التخلف، في نظري، ورفض الجذب من الأمام. ولذلك لا نستغرب هجرة الأدمغة العلمية، والكفاءات التكنولوجية، والمهارات التقنية، بكثافة من دولنا إلى الدول الديمقراطية؛ حيث البيئة السياسية والقانونية المساعدة على تقدير الكفاءات، بغض النظر عن أصول أصحابها الثقافية أو الإثنية، أو انتماءاتهم  الأيديولوجية.

ففي أمريكا، مثلا، استطاع باراك حسين أوباما، ابن مهاجر كيني معاصر، من الوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة ما بين 2008 و2016، واستطاع ساركوزي، وهو أبن مجند في اللفيف الأجنبي بالجيش الفرنسي، بولوني الأصل، أن بصبح رئيسا لفرنسا في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. واستطاع مغاربة مهاجرون من الوصول إلى مراكز وزارية في فرنسا، بل استطاع أحمد أبو طالب، وهو من مواليد بني سيدر بالناظور تولية عمدة مدينة روتردام الهولندية، وهي أغنى مدينة في هولندا؛ ومنصب عمدة المدينة، أو رئيس البلدية في الدول الديمقراطية، هو الحاكم والمسير الحقيقي لمدينته. وهناك أمثلة كثيرة يمكن استحضارها؛ غير أن هذا المقال لا يتسع لها. ويكفي أن نشير، في عجالة، إلى أن الحزب الثالث الممثل في برلمان كندا من أصول هندية سيخية. وقد كان كندي آخر من أصول هندية وزيرا للدفاع في الحكومة الكندية السابقة.

فهل يكفينا، نحن في المغرب، الافتخار بوصول كفاءات من أصول مغربية إلى مناصب عالية ومراكز قيادية في الأوطان التي هاجروا إليها؟ أم نكتفي، عند الاضطرار، باللجوء إلى تعليل “هروب المغارية” من بلادهم تحت مسمى “هجرة الأدمغة” بمضمون ما جاء في  الآية 97 من سورة النساء “{ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”}؟.   

*مفكر مغربي ودبلوماسي سابق مقيم في كندا 

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي