يمكننا أن نصفَ اليوم منطقة الشرق الأوسط، بأنَّها مختبر السياسة الدولية. عالم يتغير بمستويات مختلفة من التفاعلات التي يختلط فيها صوت السلاح مع الأطماع في الثروات، وحفيف العنف المعمم بتطرف ديني مسترد من غياهب الزمن الرميم.
التاريخ لا يغيب عن حلقات الصراع الذي تخوضه الشعوب في كل أصقاع الأرض. للتاريخ مسارب ومضارب ونتوءات وحفر وذرى. أمم ترى في ماضيها أمجاداً وسيادة وقوة تحفّزها وتستنهضها إلى استعادة قوتها ودورها الغابر. وأمم أخرى، تعيد قراءة ماضيها المؤلم المظلم الذي عانت فيه الضعف والاستبداد من الآخر قريباً كان أو بعيداً.
الدكتور هنري كيسنجر، الأستاذ الأكاديمي والسياسي والدبلوماسي الأميركي الذي جمع بين التنظير العلمي والممارسة السياسية، ملأ صالونات القرار في منعطف سياسي عالمي غير مسبوق. تربع على مركز القرار السياسي الخارجي في الولايات المتحدة، عندما جمع بين وظيفتي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في مرحلة كانت الحرب الباردة بين الكتلتين الشيوعية والرأسمالية على أشدها، وحرب فيتنام تشتعل في آسيا ويمتد لهبها السياسي إلى داخل الولايات المتحدة. نجح في ضربة سياسية مسرحية في فتح دروب التواصل مع الصين وهيا لنهاية حرب فيتنام، لكن جهده العملي الدبلوماسي، لم يوقف إبداعه العلمي في مجال السياسة النظرية، وقدم نتاجاً ريادياً تكامل فيه الرافدان مما أنتج ما يمكن أن نسميه رؤية العقل والعمل.
اختلف الكثيرون مع كيسنجر ورؤاه النظرية وممارساته السياسية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ودعمه إسرائيل في حرب أكتوبر، واتفق معه آخرون في الجانب العملي من حياته وإن اختلفوا معه في أطروحاته النظرية. ذاك أمر طبيعي، رجل بهذا الحجم من العلم والدور السياسي العملي في مرحلة عالمية حساسة، لا بد أن يكون له حشد من المؤيدين والمعارضين. في شيخوخته وقد تجاوز التسعين من العمر، هجر الشيخ العمل، لكن ظلَّ للعقل فاعلية؛ فنشر كتابه الذي ملأ الآفاق وهو «world order» النظام العالمي الذي صدر سنة 2014، لم يغب عنه ما كتبه في أطروحة شبابه عن النظام الدولي الذي أرساه كل من الأمير مترنيخ وزير خارجية النمسا والكونت كستليرج وزير خارجية بريطانيا. اعتقد أن اتفاقية وستفاليا، أسست لنظام عالمي جديد قام على سيادة الدولة الوطنية، وأنهت سنوات طويلة من الحروب في أوروبا وساهمت في تحقيق توازن قاد إلى عقود من السلام.
التوازن الدولي، غير محصن من الخلل بسبب تدافع الأمم نحو بناء قدرات القوة وتحقيق طموحاتها ومصالحها ولو على حساب دول أخرى. طاف كيسنجر في محطات كثيرة من تاريخ العالم ليؤكد ما ذهب إليه من تأثير التاريخ في السياسة. نستطيع اليوم أن نقرأ خرائط مسارات السياسة بمقاسات تهتدي بما ذهب إليه كيسنجر وأسس عليه نظريته، وهو الخوف من الماضي، أو الاستقواء به، أو الاثنان معاً.
الصراع الدولي اليوم يتحرك فوق كل الكرة الأرضية. روسيا عاشت سنوات حرب ضروس عندما اجتاحت القوات النازية الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، قتلت الملايين ودمرت الأخضر واليابس. سنوات الدم والنار التي لا تمحى من العقل والضمير الروسي. انتصر الاتحاد السوفياتي وصار قوة دولية ضاربة سياسياً وعسكرياً. بعد سقوط الإمبراطورية السوفياتية، تراجع دور روسيا الدولي، وهي تعمل اليوم للعودة بقوة إلى منصة الفعل والقرار الدولي. تدخلها في سوريا هو في صلب فعل التاريخ السياسي في الحراك الروسي. الصين عانت ويلات الهيمنة البريطانية واليابانية، وهي اليوم بفضل قفزتها الاقتصادية الضاربة تتحرك بسرعة لتكون القوة الدولية الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. التاريخ يدفعها والتحديات تحفّزها ودخلت في سباق مفتوح مع القوة القائمة الولايات المتحدة الأميركية التي لا تخفي حجم تخوفها من الصعود الصيني السريع واتساع دورها الاقتصادي والسياسي الدولي. وتشكل إسرائيل حالة مركبة جداً من فعل التاريخ في كل حركتها السياسية والعسكرية، ليس في إقليم الشرق الأوسط فقط، بل في العالم كله.
الخروج من مصر، والسبي البابلي والشتات ثم المحارق النازية، كل ذلك شكّل العقل والفعل السياسي الإسرائيلي بحكم ثقل التاريخ إلى درجة اعتناق خيار شمشون والإلغاء الكامل لكل ما هو فلسطيني.
تركيا التي كانت لقرون قوة دولية تسود العالم في عهد الدولة العثمانية، عانت ويلات الهزيمة وإذلالها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وجرى تقاسم ممتلكاتها وكادت تختفي كوطن من الوجود، يحركها اليوم ثقل التاريخ لتستعيد بعض ما يمكنها استعادته من دور دولي فاعل في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتتحرك في مواجهة متدحرجة مع اليونان التي كانت يوماً جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، واشتبكت معها في حرب بقبرص وفرضت وجودها بالقوة في شمال الجزيرة، وتعمل على أن يكون لها مجال حيوي في شرق المتوسط. ثقل التاريخ الفاعل سياسياً لا يتوقف ونراه اليوم يهزّ مساحات واسعة من العالم في صور شتى. ألمانيا وفرنسا وأميركا، وكذلك دول كثيرة في أميركا اللاتينية لا يغيب عن عقلها وحركتها مهماز التاريخ بثقله الذي لا يغيب. النظام الدولي يشهد تخلخلاً تتفاوت أعراضه من منطقة إلى أخرى في العالم، لكنه يهتزّ بقوة في منطقة الشرق الأوسط. منذ القرن السابع عشر وبعد اتفاقية وستفاليا وترسيخ قاعدة الدولة القومية شهد العالم حالة من التوازن الدولي المحدود. بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وتأسيس منظمة الأمم المتحدة، ساد تفاؤل في العالم بتحقيق توازن دولي يجنّب البشرية حروباً واسعة بعدما عانته من ويلات الحربين العالميتين، لكن ثقل التاريخ لا تخففه الاتفاقيات والمنظمات الدولية أو تزيله، يبقى فاعلاً في دوائر القرار وآليات الفعل السياسي.
*وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة
تعليقات الزوار ( 0 )