حاوره نورالدين لشهب
قال بن يونس المرزوقي، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الأول في وجدة، إن الترويج لفكرة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي ليس سوى عملية “جري وراء الأوهام” نظرا لتعدد “الشرعيات” التي يستند عليها نظام الحكم، وبالرغم من ذلك تبقى “مؤسسة الجيش تُسيطر على الدولة، ولو بطرق غير مباشرة”.
وأكد بن يونس، في حوار خاص، أنه لا يمكن عزل الدول العربية عن هذا السياق؛ وذلك بسبب أن مؤسسة الجيش بها لا تزال قوية، ولا تتفاعل مع نبض المجتمع.
وعن التجربة المغربية في عملية التحول الديمقراطي، أبرز أستاذ العلوم السياسية أن المغرب يُعد ضمن مجموعة الدول التي تُمارس فيها السلطة بناء على شرعية تاريخية ودينية، وأن “مؤسسة الجيش بنفسها خاضعة لهذه المنظومة”.
الملاحظ، الأستاذ المرزوقي، أنه كثر الحديث عن الانتقال الديمقراطي في العالم العربي في السنوات الأخيرة، لا سيما في الدول التي تعرضت لرجة “ثورية” إبان ما سمي بالربيع العربي.. فهل الوضع السياسي الغربي متوافق مع هذه الدراسات والأبحاث والنقاشات التي يشهدها المجال العام؟
أولا، أشكرك على فكرة تحويل هذا الدردشة من مجال خاص (مقهى) إلى مجال عام عبر حوار يطلع عليه الناس، ونتبادل الأفكار مع الكثير من القراء.. أما بخصوص السؤال، فأعتقد شخصيا أن الحديث عن الانتقال الديمقراطي والترويج له ليس إلا نوع من الجري وراء السراب.
كيف ذلك؟
ذلك أن جل التجارب الدولية التي يتم الاعتماد عليها كنماذج ناجحة للانتقال الديمقراطي تُعتبر نماذج من طبيعة أخرى؛ فالأمر، كما أرى، يتعلق بعملية لتفويت السلطة من العسكريين إلى المدنيين.
ويُمكن هنا بسهولة دراسة ما وقع في كل من إسبانيا والبرتغال واليونان وتركيا كنماذج بارزة، إضافة لمجموع دول أمريكا اللاتينية (الشيلي، البرازيل، الأرجنتين…). فهذه الدول كانت تعيش وضعية غير عادية باعتبار أن الجيش كمؤسسة هو الذي كان يُسير دواليب الدولة ويتحكم في السلطة، وبالتالي يجعل الدولة تعيش وضعا غير عادي.
يعني أن دور العسكر كان حاسما في هذه النماذج لمصلحة الانتقال نحو الديمقراطية..
طبعا، لأن المؤسسة العسكرية ليست سوى مؤسسة ذات دور محدد، وهذا الدور المحدد يتعلق أساسا بالدفاع عن استقلال الدولة من أي تهديد خارجي، وبالتالي فإن دورها على المستوى الداخلي محدود جدا. وتبعا لذلك، فإن مؤسسة الجيش في مجموعة من التجارب المشار إليها، إما أنها “تنازلت” طواعية عن السلطة للمدنيين، وإما أنها قامت بذلك تحت ضغط الشارع، وإما أن ذلك تم بعد حرب كبرى (ألمانيا، وإيطاليا مثلا)؛ فالأمر يتعلق هنا، فعلا، بعملية انتقال ديمقراطي.
هل يعني أن العسكر ينبغي أن يكون خاضعا لسلطة مدنية حتى يمكننا الحديث عن انتقال ديمقراطي حقيقي؟
طبعا.. لأن الديمقراطية، في آخر المطاف، هي عملية لإخضاع السلطة العسكرية لحكم المدنيين باعتبار أن هذا هو الوضع الطبيعي للدولة “العادية”.
ويُمكن الاستشهاد هنا بالتجربة البريطانية التي أسست للديمقراطية الحديثة نتيجة تطور تاريخي طويل، كان لظهور الأحزاب السياسية دور مركزيّ في ترسيخها.
هل معنى ذلك أن دول العالم الثالث محكوم عليها بهذه الصيرورة؟
نعم، إن دول العالم الثالث، التي يتم الحديث عن “الانتقال” الديمقراطي بها، محتاجة إلى تحليل من طبيعة أخرى. إنها دول عاشت معظمها ظاهرة الانقلابات العسكرية، والتدبير المباشر للسلطة من قبل الجيش. ولذلك، فإنه لا يُمكن الحديث في إطارها عن عملية “انتقال” ما دام أن مؤسسة الجيش تُسيطر على الدولة ولو بطرق غير مباشرة. ولنا في النموذج الجزائري مثال يُبين صعوبة ترسيخ نظام ديمقراطي منذ استقلالها إلى الآن، بالرغم من تعدد التجارب التي مرت بها.
وماذا عن تجربة دول أوروبا الشرقية؟
هذه تجارب تؤكد القاعدة ولا تنفيها؛ فدول أوروبا الشرقية عرفت عملية انتقال ديمقراطي حقيقي من “ديمقراطية اجتماعية” أو “ديمقراطية موجهة” إلى ديمقراطية ليبرالية، أو بصيغة أخرى من ديمقراطية تختلط فيها الدولة بالحزب الوحيد والمؤسسة العسكرية، إلى ديمقراطية التعددية والتنافس؛ وهو ما جعل مفهوم الانتقال يتحقق بشكل إيجابي.
ما موقع الدول العربية من هذا “البراديغم” كما يطلق عليه في la transitologie ( الانتقال نحو الديمقراطية)؟
لا يُمكن إخراج الدول العربية من هذا السياق وبأشكال متعددة؛ فمؤسسة الجيش بها قوية، ولا تتفاعل مع نبض المجتمع. لقد أكدت التجربة المصرية هذه القاعدة، ولا تزال إلى حد الآن تُراوح مكانها، بينما بينت تجارب أخرى أن هذه المؤسسة لا تزال تقاوم..
ولو عملت مؤسسة الجيش على المساهمة في تفويت السلطة للمدنيين في كل من العرق وسوريا وليبيا واليمن لعرفت هذه المجتمعات تطور نحو الديمقراطية، كما أن نموذج موريتانيا يسير في نفس الاتجاه. وهنا تبرز الأهمية التاريخية للتجربة السودان التي قاد فيها جزء من الجيش بقيادة سوار الذهب انقلابا قصد تفويت السلطة للمدنيين.
وعلى العكس من ذلك، فإن الدول التي تعرف حكما مدنيا تحت شرعيات مختلفة، لا تعرف أي تطور ديمقراطي، اللهم إحداث بعض المؤسسات التمثيلية والتنفيذية التي تعمل في جو سياسي غير ديمقراطي (دول الخليج مثلا)، أو بعض المظاهر الديمقراطية التي لا تزال تحتاج إلى المزيد من المعالجة (المغرب، والأردن مثلا).
وماذا عن مكانة المغرب ضمن هذا التحليل؟
يُعتبر المغرب ضمن مجموعة الدول التي تُمارس فيها السلطة بناء على شرعية تاريخية ودينية. ومن ثمّ، فإن مؤسسة الجيش بنفسها خاضعة لهذه المنظومة. وهنا -على غرار التجربة البريطانية- لا يُمكننا إلا الحديث عن “التحول الديمقراطي”، أي تلك الصيرورة طويلة الأمد التي تعرف التحولات البطيئة والتدريجية والسلسة، ولا تسمح بأي تطور مفاجئ في شكل عملية “انتقال”.
إن التحول هنا يعني أن النظام نفسه يعمل على تطوير آليات ممارسته للسلطة من خلال الإشراك المتدرج للفاعلين الآخرين في ممارسة السلطة. ويكفي هنا أن نقوم بقراءة سريعة للخطوط الكبرى خاصة لدستور 1962، ودستور 1972، ودستور 1996، ثم دستور 20111، لنكتشف طبيعة التحول الذي يتم ببطء، والمتميز في كل محطة بتوسيع استقلالية وصلاحيات كل من الحكومة والبرلمان.
وما موقع الطبقة السياسية المغربية من هذا التحول نحو الديمقراطية؟
أعتقد أنه على الطبقة السياسية بالمغرب إعادة النظر في مجمل تحليلاتها حتى تكون متلائمة مع الوضع السياسي وتسمح بتشخيص صحيح للأوضاع، وبالتالي سهولة إيجاد البدائل وصياغتها في شكل مطالب؛ إلا أن الأمور تمشي، مع الأسف، في اتجاه آخر نتيجة الشرخ الذي بدأ يظهر ويتسع ما بين الأحزاب السياسية التي فقدت المبادرة، ومختلف الفئات الشعبية التواقة إلى الديمقراطية.
تعليقات الزوار ( 0 )