Share
  • Link copied

وثيقة الجماعة السياسية بين السياقات والإشارات

      أثارت وثيقة جماعة العدل والإحسان الإسلامية اهتماما خاصا وجدلا واسعا في الساحة السياسية، سواء على مستوى مضمونها أو تأثيرها المحتمل على المشهد السياسي في البلاد. كما أثارت هذه الوثيقة السياسية المكونة من نحو 190 صفحة اهتمام الصحف الأجنبية، خاصة منها الفرنسية . فبخلاف الوثائق السابقة التي أصدرتها الدائرة السياسية للجماعة بدءا من “حلف الإخاء” في دجنبر 2006، و”جميعا من أجل الخلاص” في دجنبر 2007، تعتبر هذه الوثيقة ليست من جنس الوثائق التي دأبت الجماعة على تقديمها منذ ثلاثة عقود، حيث كانت تكتفي بوضع الخطوط العامة، في لغة احتجاجية لمطاولة الدولة، بل هي وثيقة تتضمن مشروعا سياسيا مفصلا بشكل دقيق يشمل كافة مداخل الإصلاح، وبلغة سياسية مباشرة، وباقتراحات عملية ، مما يثير التساؤل عن سياقاتها و خلفياتها.

  1. سياقات الإعلان عن الوثيقة السياسية

أثار توقيت إعلان هذه الوثيقة تساؤلات مختلفة حول السياق السياسي الذي كان وراء هذا التوقيت . إذ من المعروف أن الزمن السياسي لا يرتكن للصدفة بل يرتهن بالأساس إلى الغائية السياسية التي تكمن وراءه. وبالتالي ، فعلى الرغم من بعض التبريرات التي ساقها بعض قياديي الدائرة السياسية بأن تأجيل الإعلان عن هذه الوثيقة ، التي تم تهييؤها لمدة أربع سنوات ، كانت بسبب الظروف الداخلية غير الملائمة ، حيث كشف  الدكتور متوكل، رئيس الدائرة السياسية للجماعة، “أن الوثيقة كانت جاهزة منذ عدة أشهر غير أن الجماعة ارتأت تأجيل نشرها؛ بداية لغياب إرادة حقيقية للإصلاح، وبيئة تعددية ديمقراطية قابلة لاستيعاب الجميع ودون إقصاء، ثم بعدها بسبب الكوارث التي توالت على بلدنا؛ زلزال الحوز وسعار التطبيع والاحتجاجات الاجتماعية والحرب الهمجية على غزة. وأن الإعلان عنها في هذا الوقت جاء مخافة أن تتقادم معطياتها”، فقد رأى بعض المتتبعين أن الإعلان عن هذه الوثيقة في 6 فبراير 2024 هو مرتبط بإحياء ذكرى الحراك الشعبي ل 20 فبراير. حيث اعتبر سعيد الكحل أن “الغائب فيما أعلنته القيادة العدلاوية في أسباب وسياق إعلان الوثيقة في هذا التوقيت هو اقتراب تاريخ 20 فبراير وهي الذكرى التي تحن إليها الجماعة وترغب في إحياء ما تمنته ربيعا عربيا فإذا به تحول إلى خريف مدمر للحرث والنسل ووحدة الأوطان.”  

وكيفما كان الحال ، فإعلان هذه الوثيقة لا يمكن إلا أن نضعه في سياقه السياسي المتمثل بالأساس في بعدين أساسيين :

        *بعد بنيوي يتمثل في تداعيات النكسة السياسية والانتخابية التي عرفتها تجربة حزب العدالة والتنمية الذي اختار المشاركة السياسية في دواليب الحكومة وتدبير الشأن العام خلال ولايتين متتاليتين، انتهت به إلى التوقيع على اتفاقية ابراهام ، والاخفاقات التي عرفتها أغلب القطاعات، لاسيما الصحة والتعليم، والتي انعكست في إضراب رجال التعليم الذي دام أشهرا بالإضافة إلى فضيحة مسؤولين برلمانيين ومستشارين، وتورطهم في قضايا فساد كبير. كما يتمثل هذا البعد في التراجع  التنظيمي والشعبي لأغلب الأحزاب السياسية ونفور المواطنين المغاربة من العمل الحزبي والنقابي، مما حول المشهد السياسي إلى مجال عقيم يعج بالخرجات الشعبوية ويفتقد لأي حوار سياسي أونقاش فكري رصين ، يعكس التحولات المجتمعية التي يعرفها المغرب، ويفتح الباب لنقد السياسة المنتهجة وخيارات الدولة والأحزاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

      * بعد تفاعلي ينعكس من خلال التلاقي الضمني بين التوجهات الكبرى للدولة من خلال تركيز المؤسسة الملكية على إرساء الدولة الاجتماعية من خلال تنزيل ورش الحماية الاجتماعية وكذا الإرادة الملكية في تنقية المشهد السياسي ، وما تدعو له الجماعة من تطبيق العدل ومحاربة الفساد. حيث أن دولة المجتمع،  التي تدعو إليها  وثيقة الجماعة هي الدولة التي تجعل أولى أولياتها خدمة المجتمع وضمان أمنه واستقراره، والسعي الدؤوب للرقي به بعيدا عن أي تمييز بين أبنائه.  من خلال ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها من خلال ضمان الحق في التعليم العمومي الجيد والمنصف لكل فئات المجتمع وبكل المناطق بشكل مستدام ومتاح بأفضل السبل،      وتأمين الحق في الصحة والتطبيب لكل المواطنين وإعادة الاعتبار للقطاع الطبي العام، مع ضرورة تعزيز الموارد البشرية بالقطاع، والعمل على تعميم الاستفادة من التغطية الصحية.

 في حين ركزت الوثيقة على تفشي الفساد في سائر مؤسسات وإدارات الدولة بشكل عميق وبنيوي الشيء الذي عكسته التقارير الوطنية والدولية التي تعتبر المغرب ضمن خانات الدول الأكثر فسادا. حيث تقترح الوثيقة من أجل التصدي للفساد في مؤسسات الدولة عدة تدابير من بينها الحد من البيروقراطية، ودعم اللاتمركز الإداري بشكل يسهم في تحقيق لامركزية ترابية فعلية، وتعزيز آليات الحكامة الإدارية من خلال ترشيد النفقات العمومية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعزيز آليات مراقبة صرف المال العام، وتقوية الأجهزة الرقابية الرسمية والمدنية المستقلة عن السلطة التنفيذية. ولعل هذا ما أكد عليه أحد قياديي الدائرة السياسية ” بأن الجماعة مستعدة للتضحية إلى جانب الباقي في سبيل تقوية جبهة محاربة الفساد، لأن تغيير ميزان القوى يحتاج إلى تضحيات، ولسنا في مرحلة تقسيم الغنائم. “

  • خلفيات الإعلان عن الوثيقة السياسية

     أكد قياديوا الدائرة السياسية بأن الغرض الأساسي من تقديم هذه الوثيقة هي تحريك النقاش داخل المشهد السياسي ورفع الغموض عن أدبيات وتوجهات الجماعة السياسية.

حيث أوضح رئيس الدائرة السياسية بأن الوثيقة تقدم “مقترحاتنا في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمجتمعي، ليس بنفَس البرنامج الانتخابي، وإنما بصيغة يرجى أن تكون مساهمة في تحريك الوضع السياسي الراكد وإثارة نقاش عمومي حول الإصلاحات العميقة التي يحتاجها بلدنا للخروج من حالة الاختناق التي يعيشها وما ترتب عليها من إفساد للبلاد وظلم للعباد وحرمان من العيش الكريم لفئات واسعة من هذا الشعب المبتلى”. في حين أشار الناطق الرسمي للجماعة فتح الله أرسلان أن هذه الوثيقة ” تأتي كجزء من جهود الجماعة لتوضيح مواقفها أمام الرأي العام” نافيا بشدة وجود أية مفاوضات سرية مع الدولة.”

غير أن هذه التصريحات لا تمنع من الانتباه إلى مجموعة من الإشارات السياسية التي واكبت تقديم هذه الوثيقة من بينها:

       *تفاعل الجماعة مع الرسالة الملكية بشأن تعديل مدونة الأسرة ، حيث سبق  لمجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان بتاريخ 04/10/2023 إصدار بيان عبر من خلاله عن موقفه من النقاش حول تعديل مدونة الأسرة؛ مؤكدا فيه على أن “الحاجة ملحة لتوفير بيئة تنزيل أي إصلاح، وإلا فاختزال اختلالات مدونة الأسرة في تدابير قانونية هو قفز على الأعطاب الحقيقة التي يعاني منها المجتمع في جميع القضايا، حيث يتم تغييب النقاش عن الأعطاب الكبرى التي تعيق التطبيق السليم لأي قانون صالح ومناسب. ومن هذه الأعطاب الكبرى غياب نظام ديمقراطي يعتمد الشراكة والشورى الحقيقية مع مختلف القوى المجتمعية”.

  • قفز الوثيقة على بعض النقط الخلافية التقليدية التي كانت تتبناها الجماعة خاصة إزاء مؤسسة إمارة المؤمنين، حيث اكتفت الوثيقة بالإشارة الضمنية إلى إمارة المؤمنين مرة واحدة، عند حديثها عن تحرير مؤسسات الشأن الديني، ومنها المساجد، من احتكار السلطة وضمان حيادها والذي ورد ضمن المحور المجتمعي  بدل المحور السياسي في الوثيقة. مما اعتبره بعض المتتبعين من   ” أن الجماعة تجاوزت مرحلة الاستثمار السياسي للموقف من إمارة المؤمنين إلى مرحلة التطبيع مع العمل السياسي تحت سقف الملكية، فهي لم تعد بحاجة إلى التلويح بهذه الورقة التي كانت تحتاجها في سنوات التعبئة، وصارت أكثر واقعية”. كما أن الوثيقة تجاوزت أيضا التركيز على المؤسسة الملكية ، حيث تناولت الملكية بطرق غير مباشرة، من خلال بعض المقترحات، من مثل ربط السلطة التنفيذية بالحكومة دون غيرها، وجعل اختيار الوزراء وإعفائهم من اختصاص رئيس الحكومة وحده، والتنصيص الدستوري على جعل وضع السياسات العمومية وتنفيذها من اختصاص الحكومة وحدها، واعتماد الانتخاب آلية وحيدة لاختيار أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهي كلها مقترحات لها علاقة بالمؤسسة الملكية.
  • اختيار الجماعة التوقيت بدقة لطرح هذا المشروع على الدولة والفاعلين والرأي العام، توقيت يتميز بانغلاق سياسي وافتقاد للبدائل وانسداد للأفق، وموت للسياسة” بالمعنى الحرفي للكلمة. كما أن هذا التوقيت يأتي بعد تجربة عشر سنوات من تدبير حزب العدالة والتنمية للشأن العام، وتآكل شعبية الشعار الإسلامي، ولعل هذا ما حفز الجماعة على طرح مشروعها لإدراكها أن الفراغ السياسي الحالي مناسب لها  مستفيدة من تجربة عقد من تدبير حزب العدالة والتنمية للشأن الحكومي وتجاوز مطباتها الدستورية والقانونية والسياسية التي ألجمتها، ولذا جاءت الوثيقة باقتراحات ومطالب غير مسبوقة تتسم بالجرأة.
  • الصيغة واللغة التي ميزت الوثيقة حيث أنه لأول مرة تطرح الجماعة مشروعا يشمل كافة جوانب الإصلاح، من الإصلاح الدستوري إلى إصلاح القوانين الانتخابية، مرورا بإصلاح الإدارة والتدبير المحلي والعمل البرلماني والهياكل الحزبية واللامركزية والاقتصاد الوطني والسياسة الخارجية ٌ” فهذا التفصيل الذي اتسمت به الوثيقة يوحي بأنها وضعت بنًفَس انتخابي يشكل مقدمة للمشاركة السياسية للجماعة.
  •  تجسد الوثيقة في خطوطها العريضة مشروعا سياسيا “يجسد تصور الجماعة واجتهادها العملي في مقاربة القضايا السياسية وتدبير الشأن العام ” موجه بالإضافة إلى الفرقاء السياسيين ، إلى الدولة أساسا ، لاختبار إرادتها في الإصلاح، نظرا لأن الجماعة تدرك بأن جميع مشاريع الإصلاح تتلقاها الدولة وهي التي تقوم بتنفيذها، وبرامج الإصلاح تنزل من الأعلى، ومن هنا أهمية الإرادة السياسية للدولة.
  • تفاعلات الإعلان عن الوثيقة السياسية

       يبدو أنه على الرغم من الاهتمام الذي حظيت به الوثيقة السياسية من طرف الجسم الصحفي بمختلف مكوناته الورقية والإلكترونية سواء من داخل المملكة أو خارجها ، فإن مكونات المشهد السياسي  لم تبد لحد الآن أي موقف أو رد فعل  ملموس بشأن هذه الوثيقة باستثناء حزب العدالة والتنمية . إذ حظيت هذه الوثيقة الجديدة التي طرحتها جماعة العدل والإحسان باهتمام كبير من قبل أعضاء حزب العدالة والتنمية، حيث اعتبروها تغيرا جذريا في موقف الجماعة من الوضع السياسي والاختيارات السياسية الكبرى. وهذا الاهتمام قد يعكس تخوف هذا الحزب ذي المرجعية الدينية من منافس جديد، سيستغل الفراغ السياسي الذي تركه ليتموقع ضمن المشهد السياسي بنفس إيديولوجية وطريقة عمل البيجيدي سياسيا واجتماعيا.

وعلى عكس قياديي هذا الحزب لم تحض وثيقة الجماعة باهتمام باقي الأحزاب ، حيث  قوبلت بصمت سياسي من قبل وسائل إعلام هذه الأحزاب  ولم يتم الإشارة إليها في تصريحات قياداتها أو أعضائها ، الشيء الذي دفع الناطق الرسمي باسم الجماعة للتأكيد على “أنهم في المرحلة الأولى من تقديم الوثيقة ويخططون لندوات ولقاءات لمناقشتها مع الفرقاء السياسيين،.. “. في حين يمكن تفسير صمت  هذه الأحزاب بعدم رغبتها في ظهور وافد جديد  قد ينافسها في الساحة السياسية  وترقبها لأي رد أو إشارة سياسية من طرف أعلى سلطة بالمملكة بحكم اعتبارها المعنية بالاشارات السياسية لهذه الوثيقة . وبالتالي ألا يمكن اعتبار موضوع الدرس الافتتاحي للدروس الحسنية الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ، أمام الملك، أحمد التوفيق، حول “تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين”، إشارة سياسية نحو الجماعة بأن مجال إمارة المؤمنين هو مجال محفوظ وكل ما دون ذلك يمكن القبول به ؟؟

Share
  • Link copied
المقال التالي